بعد سنوات من الحكم الدكتاتوري الذي استمر لعقود بين "حكم العسكر" وما سمي بـ"حكم الفرد"، عانى الشعب العراقي خلالها من قمع واستبداد شديدين، حيث نام آباؤنا داخل البلاد واستيقظوا على حلم جديد اسمه "الديمقراطية" الذي جاء مع الغزو الأميركي للبلاد عام 2003، يرافقهم حلم بناء دولة المؤسسات التي تحفظ حرياتهم وحقهم في العيش.
وتحتفل العديد من دول العالم في 15 أيلول من كل عام باليوم العالمي للديمقراطية، وهو ما يفتح الأسئلة حول واقع العراق وتجربته بعد عقدين من الأزمات المتوالية: هل نجحت "التجربة الديمقراطية" في تحقيق أهدافها؟ وهل تحققت آمال الشعب العراقي في هذا "التحول"؟
"الانتخابات لا تعني وجود ديمقراطية"
تعتبر التجربة الديمقراطية في العراق، "نجحت قليلًا وفشلت كثيراً"، بحسب وصف الكاتب العراقي فارس حرام الذي أرجع أسباب هذا الفشل إلى "غياب آليات حقيقية لمحاسبة الفاسدين، مؤكداً أن "الديمقراطية لا يمكن أن تزدهر في ظل نظام لا يحاسب الفاسدين".
ويقول حرّام لـ"الجبال"، إن "الأحزاب السياسية في العراق قد عملت على تفريغ مفهوم الديمقراطية من محتواه، وذلك من خلال الترويج لفكرة خاطئة مفادها أن مجرد المشاركة في الانتخابات يعني العيش في بلد ديمقراطي".
وبالنسبة لحرام، فإن الديمقراطية "لا تقتصر على صناديق الاقتراع فحسب، بل تتطلب وجود مؤسسات قوية تعمل بشكل مستقل، وفصل واضح بين السلطات، وحماية كاملة للحقوق والحريات، ونظام محاسبة عادل يسري على الجميع".
ويرى حرام أن ما يشهده العراق حالياً "هو مجرد تطبيق شكلي للانتخابات، حيث يتم التحكم في العملية الانتخابية من قبل الأحزاب الحاكمة، مما يقلل من أهميتها ويحرم المواطنين من ممارسة حقهم في الاختيار بحرية".
ويعتقد حرّام أن "استمرار الأحزاب ذاتها في السلطة لفترة طويلة، دون تداول سلمي للسلطة، هو دليل قاطع على عدم إيمانها الحقيقي بمبادئ الديمقراطية"، متسائلاً: "كيف ننتظر من أحزاب لا تنتهج الديمقراطية في عملها أن تدير نظاماً ديمقراطياً؟".
الصحافة خير مثال.. "ما تزال البلاد شمولية"
وتعتبر حرية الصحافة، واحدة من أهم مقومات النظام الديمقراطي، لكن صحفيي العراق، واجهوا ظروفاً قاسية، بدءاً من تكميم الأفواه وليس انتهاءً بالتغييب القسري والاعتقالات وعمليات الاختطاف والاغتيالات.
وخلال عقدين من الزمن قتل نحو 500 صحفي في العراق، وفق تقرير لمركز النخيل للحقوق والحريات، كما احتل العراق في مؤشر حرية الصحافة لمنظمة "مراسلون بلا حدود" لسنة 2022، المرتبة 172 من أصل 180 دولة، متراجعاً من 163 دولة في إصدار 2021.
ويعاني صحفيو العراق من مواد قانونية موروثة من الأنظمة الشمولية، وكانت تستخدم حتى في ظل حكم رئيس النظام السابق، صدام حسين.
ويتحدث الصحفي منتظر ناصر عن تراجع الحريات الصحفية في السنوات الأخيرة، مؤكداً "استمرار العمل ضمن قوانين موروثة تدين المنتقدين والمعارضين وتفرض رقابة مشددّة على صناع الرأي والصحفيين، في تجاهلٍ للمعايير الدولية لحقوق الإنسان وحرية التعبير".
ويقول ناصر في حديث لـ"الجبال"، إن "المسؤولين العراقيين يتجاهلون المطالب بتعديل القوانين الموروثة من النظام الشمولي، فيما يسعون في الوقت نفسه إلى سنّ قوانين جديدة تحدّ من الحريات. ومن أبرز هذه القوانين، قانون جرائم المعلوماتية وقانون التظاهر السلمي، اللذان يهددان حرية التعبير والتجمع السلمي"، فضلاً عن "إفراغ القانون الذي ينتظره الوسط الصحفي (حق الحصول على المعلومة) من محتواه".
"لا أوكسجين في مناخ الصحافة"
من ضمن المخاوف اليومية التي يواجهها الصحفيون في نظام يفترض أن يكون ديمقراطياً، هو "الجماعات المسلحة" حيث يعود ذلك "بسبب الدور الذي لعبته في تنفيذ أدوار خارج إطار الدولة، كالاغتيال والاختطاف والتغييب القسري دون عقوبات رادعة"، بحسب ناصر.
ولهذا، فإنّ المناخ الذي تعيشه "الصحافة الحرة"، يعاني من شح الأوكسجين تماماً، بحسب ناصر، فضلاً عن أن القوانين التي تحكمه "ما زالت موروثة من نظام شمولي".
ويتطرق ناصر إلى ما يطلق عليه بـ"قصور الطبقة السياسية الحاكمة في فهم متطلبات وشروط النظام الديمقراطي، فضلا عن "عدم شعورها بأهمية الدور الذي تلعبه الصحافة والإعلام المستقل، ومخرجاته التي تهدف لأعمال الرقابة والوصول إلى الحكم الرشيد".
ولا يخفي ناصر "تشاؤمه إزاء الطبقة السياسية الحاكمة، معتبراً أنها "تفتقر إلى الفهم الكافي لمبادئ الديمقراطية التي أوصلتها إلى السلطة، لافتاً إلى أن "هذه الطبقة تحاول ترسيخ سلطتها من خلال الإبقاء على القوانين القمعية الموروثة من النظام السابق".
لا تمثيل للمرأة.. والفساد والمحاصصة أبرز العوائق
وما يزال التحول الديمقراطي في العراق يواجه بالنسبة لعديدين تحديات وأزمات كبيرة، على الرغم من التغيرات السياسية والاجتماعية التي شهدها البلد، وفق الناشطة رؤى خلف، التي أشارت إلى أن "الفساد والمحاصصة السياسية تشكل العوائق الرئيسية أمام تحقيق ديمقراطية متوازنة، فضلاً عن أن "العراق لم يشهد تحولاً ديمقراطياً سلمياً تاريخياً، بل جاءت هذه التحولات نتيجة صراعات غير سلمية، ما أدى إلى تراكم هذه التحديات وزيادة تعقيد المشهد الديمقراطي".
وعلى سبيل المثال، تواجه المرأة العراقية تحديات جمة في مسيرتها نحو التمكين السياسي، حيث تتعرض لحملات "تشويه ممنهجة"، غالباً ما تكون مدفوعة سياسياً، وتهدف إلى ترهيب النساء وإخراجهن من المنافسة، مما يحد من مشاركتهن الفاعلة في صنع القرار، بحسب ناشطات.
وترى الناشطة رؤى خلف في حديث لـ"الجبال"، أن الكوتا النسائية، التي تضمن للمرأة نسبة 25% من مقاعد البرلمان، "لم تكن كافية لتحقيق المساواة الفعلية، فالعادات والتقاليد، بالإضافة إلى تأثير الأحزاب السياسية، تعيق وصول المرأة إلى مواقع القوة وتمكنها من لعب دور فاعل في الحياة السياسية".
وتقول خلف إنه "رغم وجود 97 امرأة في البرلمان، إلا أن قضايا المرأة لا تزال تواجه العديد من التحديات، فالكوتا النسائية، التي كانت تعتبر مكسباً كبيراً للمرأة العراقية، لم تترجم إلى تمثيل حقيقي لقضاياها على أرض الواقع، هذا يعكس أن نسبة كبيرة من النساء في البرلمان لا تركز على قضايا المرأة العراقية بالشكل المطلوب، إلا أن الأحداث الأخيرة المتعلقة بالعنف الأسري وتعديل القوانين أكدت غياب تمثيل فعلي للمرأة العراقية داخل البرلمان".
فضاء الاحتجاج يواجه قمعاً مستمراً
وعلى الرغم من أن الدستور العراقي ينص على مجموعة من الحقوق والحريات الأساسية، بما في ذلك حرية التعبير والتجمع، إلا أن واقع الحال يشير إلى تقييد مستمر لهذه الحقوق، فالصراعات السياسية المتأججة، ونفوذ الميليشيات المسلحة، والتجاذبات الطائفية تظل عائقاً كبيراً أمام تمتع المواطنين بحرياتهم كاملة.
وتؤكد خلف أن "الفضاء الديمقراطي في العراق يظل محدوداً، مع وجود قيود على حرية الإعلام، وقمع للاحتجاجات الشعبية التي تطالب بالإصلاحات أو تحسين الخدمات".
ولا تختلف رؤى خلف مع العديد من الباحثين الذين يرجعون "فشل النظام الديمقراطي" إلى الصراعات الطائفية، والفساد، والتأثيرات الخارجية، حيث "يواجه العراق تحديات كبيرة في بناء نظام ديمقراطي فعّال يعكس التعددية ويحقق العدالة الاجتماعية، بما في ذلك تمثيل المرأة والحريات العامة".
ولا يعتبر عنوان الديمقراطية كافياً لوحده، إذ أنها "بحاجة إلى أدوات وآليات فعّالة، وعندما تغيب هذه الأدوات، يتحول النظام بسهولة إلى ديكتاتوري، ما يعمق التحديات ويقوض الأهداف الديمقراطية"، على حد تعبير خلف.
وكان آخر تقرير لمؤشر الديمقراطية، فقد أشار إلى أنه على الرغم من مرور 20 عاماً على الاحتلال الأميركي للعراق ما يزال البلد يعاني من تراجع مفزع، حيث احتل المرتبة 130 عالمياً.
ويتحدث المؤشر عن معايير عديدة، منها استمرار عدم الاستقرار الأمني، والأزمة الإنسانية والاقتصادية، ونقص الطاقة، بالإضافة إلى تفشي الطائفية والفساد، وهو ما يجعل العراق يحصد 3.6 نقاط فقط في هذا المؤشر.
ويرى مراقبون أن هذا التراجع يعكس تدهوراً ملحوظاً في حالة الحريات العامة وحكم القانون في البلاد، إذ أنه ناتج عن عدة عوامل، من بينها ضعف المؤسسات، وانتشار الفساد، وتآكل الثقة في العملية الانتخابية، وقد تجلى هذا التآكل في تزايد نسبة العزوف عن المشاركة في الانتخابات، حيث يشكك المواطنون في نزاهتها وشفافيتها، وكان آخر ما تعرضت له هذه العملية، هو انتهاء نتائج انتخابات 2021 بما عرف بـ"اشتباكات آب" على أبواب المنطقة الخضراء.