بالأرقام| تبرعات السوداني لدول عربية.. هل يصنع العراق نفوذاً إقليمياً أم أنه "يهدر ثرواته" فقط؟

10 قراءة دقيقة
بالأرقام| تبرعات السوداني لدول عربية.. هل يصنع العراق نفوذاً إقليمياً أم أنه "يهدر ثرواته" فقط؟ أموال عراقية (فيسبوك)

شهد العراق منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، تحولًا ملحوظاً في سياسته الإقليمية، حيث اتخذت الحكومة العراقية، برئاسة محمد شياع السوداني، خطوات اعتبرتها "بوادر لتعزيز العلاقات مع الدول العربية من خلال تقديم مساعدات سخية"، بينما اعتبرها آخرون "هدر للثروات".

 

وبدأت المبادرات من تقديم المساعدات المتمثلة بالمساعدات الطبية والأغذية إلى قطاع غزة ومن ثم إلى الجانب اللبناني، وامتدت فيما بعد لتشمل دولاً أخرى، فيما تضمنت مؤخراً إرسال كميات كبيرة من الحنطة إلى دول مثل سوريا، اليمن، لبنان، وتونس، بالإضافة إلى تقديم مساعدات مالية لكل من فلسطين ولبنان.

 

وبررت الحكومة هذه الخطوات بأنها تأتي في إطار "الدور الأبوي" للعراق تجاه الدول العربية، مستندة إلى "تحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج الحنطة للعام الثالث على التوالي".

 

وأثارت التبرعات جدلاً واسعاً داخل العراق، حيث انتقدها عدد من النواب والسياسيين، معتبرين أنها "تأتي في وقت يعاني فيه المواطن العراقي من الفقر والبطالة. إذ من الممكن استخدام تلك الأموال لتحسين الخدمات الأساسية داخل البلاد".

 

البداية

 

قضية التبرعات بدأت بعد 7 أكتوبر 2023 بشهر واحد، حيث أعلنت الحكومة العراقية، في تشرين الثاني 2023 تبرعها بـ 10 ملايين لتر من الوقود اللازم لتوليد الطاقة بمستشفيات قطاع غزة، التي تواجه انقطاعاً في الوقود.

 

وبعدها أرسلت الحكومة حزمة مساعدات إغاثية وطبية إلى قطاع غزة ولبنان تجاوزت الـ765 ألف طن.

 

وفي العام 2024 وافق مجلس الوزراء العراقي على فتح باب التبرع بشكل طوعي أمام موظفي ومنتسبي الدولة كافة، وذلك باستقطاع نسبة (1) بالمائة، من الراتب والمخصصات، والراتب التقاعدي، لدعم غزة ولبنان.

 

وفتح حسابين في المصرف العراقي للتجارة/ TBI، لإيداع تبرعات المواطنين والمؤسسات والشركات ورجال الأعمال وكل النشاطات الاجتماعية، التي تسهم في إغاثة لبنان وغزة، وتبرع حينها السواني وأعضاء مجلس الوزراء وفق بيان رسمي، براتب شهر لاستدامة عملية الإغاثة.

 

وفي العام 2025 توسع العراق بتبرعاته، إذ تبرع بـ(35) ألف حصة غذائية و(320) ألف طن من القمح إلى لبنان.

 

ومن ثم بادر العراق الى التبرع بـ250 ألف طن من القمح إلى اليمن، وأعقبها بعد ذلك التبرع بـ220 ألف طن من القمح كهدية إلى سوريا.

 

ولم يكتف بذلك، بل تبرع بـ50 ألف طن من الحنطة إلى تونس كـ"هدية"، في إطار دعمه إلى الدول العربية.

 

وعند العودة إلى غزة ولبنان، أعلن السوداني في شهر أيار الماضي، إسهامَ العراقِ بمبلغِ (20 مليونَ دولار) لإعمارِ غزّة، و(20 مليونَ دولار) لإعمارِ لبنانَ الشقيق.

 

العراق يدفع الثمن مرتين

 

ومع أن العراق مستمر بتوريد زيت الوقود بمعزل عن تسديد الكلفة، والتي جرى الاتفاق على وضعها في حساب خاص في مصرف لبنان باسم الحكومة العراقية، وجرى تفاهم أولي بأن تُسَدَّد على شكل سلع وخدمات، لكن لبنان لم يلتزم بالمطلوب منه، ما ولّد انطباعاً سلبياً لدى السلطات العراقية.

 

وأبلغ السوداني، حزب الله وحركة "أمل" بأن العراق مستعدة لتحويل مستحقات العراق مقابل الفيول إلى صندوق رسمي تقرّه الحكومة اللبنانية ويكون مخصّصاً لإعادة إعمار المنازل التي هدّمها العدوان في الجنوب وبيروت والبقاع، وفق صحيفة الاخبار اللبنانية.

 

وليس هذا فقط، فإن العراق ومنذ أكثر من 40 عاماً يزود الأردن بالنفط الخام بـ"أسعار تفضيلية"، رغم الخسائر المستمرة التي يتكبدها جراء الاتفاقية المبرمة بين البلدين والمقدرة بأكثر من 57 مليون دولار سنوياً، والتي كان بإمكانه الاستفادة منها في حال بيع النفط وفق الأسعار العالمية للبترول، الأمر الذي شكل باباً جديداً للهدر يضاف لسابقيه في ظل التحديات الاقتصادية الصعبة.

 

ويستورد الأردن النفط الخام العراقي تنفيذا لمذكرة التفاهم لتجهيز النفط الخام الموقعة بين حكومة المملكة الأردنية الهاشمية وحكومة العراق بتاريخ 4 أيار 2023.

 

وبموجب المذكرة، يقوم الجانب الأردني بشراء النفط الخام العراقي، على أساس معدل خام نفط برنت الشهري ناقصاً 16 دولاراً للبرميل الواحد لتغطية فرق النوعية وأجور النقل، وذلك لتلبية 7% من احتياجات المملكة من النفط الخام، على ما أشار وزير الطاقة والثروة المعدنية الأردنية.

 

وخلال العام 2024، رفع العراق الكميات التي يزود الأردن فيها بأسعار تفضيلية إلى 15 ألف برميل يومياً، والتي تسد نحو 15 في المئة من حاجة الأردن اليومية للنفط، وبسعر خصم يبلغ 16 دولاراً للبرميل

.

وتبلغ قيمة هذا الخصم نحو 240 ألف دولار يومياً، أي حوالي 7.2 مليون دولار شهرياً، أي ما يزيد عن 86 مليون دولار سنوياً على افتراض عدم انقطاع حركة التصدير.

 

قرابة ألف طن حنطة

 

وبجردة حساب أجرتها منصة "الجبال" فإن مجموع كمية القمح التي تبرع بها العراق إلى الدول العربية بلغ 840 ألف طن.

 

أما فيما يخص الأموال، فإن التبرع الأخير المتمثل بـ40 مليون دولار إلى غزة ولبنان هو المعلن بالأرقام فقط، بينما التبرعات المقدمة خلال فترة الحرب قد تكون بقيمة الرقم المذكور.

 

وفي مفارقة تتبعتها "الجبال" فإن نسبة الفقر في العراق وفق إحصائية لوزارة التخطيط في شهر شباط الماضي، بلغت 17.5%، أي أن من بين كل 30 عراقي، هناك 5 أشخاص تحت خط الفقر.

 

وفي أحدث تصريح لرئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني، فإن نسبة البطالة في البلاد انخفضت إلى 13% بعد توسع عمل القطاع الخاص وإقرار قانون التقاعد والضمان الذي ساوى امتيازات العاملين في القطاعين الخاص والحكومي. 

 

وفي اليوم الذي أعلن فيه السوداني عن انخفاض نسبة البطالة، أعلنت محافظة بغداد أن عدد المتقدمين للتعيين بصفة (عقد)، بلغ (496,238) متقدماً، أي حوالي نصف مليون متقدم، لعقد مدته ثلاث سنوات وبراتب شهري (300,000) ثلاث مائة ألف دينار عراقي فقط. 

 

كيف يمكن استثمار التبرعات عراقياً؟

 

وبنظرة اقتصادية، فإنه بدلاً من منح أكثر من 800 ألف طن من الحنطة مجاناً، كان من الممكن إنشاء شركات زراعية أو مطاحن مشتركة (عراقية-عربية) في الدول المستفيدة، يُرسل لها جزء من الفائض مقابل أرباح مستقبلية أو منتجات غذائية معالجة.

 

وفضلاً عن فتح ممرات تصديرية جديدة عبر هذه الدول، والتي تعود بفائدة على العراق من خلال خلق سوق دائمة للمنتجات العراقية، وتحريك عجلة الصناعة التحويلية (كالمطاحن والصناعات الغذائية)، فضلًا عن توظيف عراقيين في مشاريع مشتركة بالخارج.

 

وبحسب عديدين، فإنه وبدلاً من منح 40 مليون دولار كهبة مالية مباشرة (20 مليون لغزة و20 مليون للبنان)، يمكن تحويل المساعدات المالية إلى صناديق استثمار مشترك عن طريق تأسيس "صندوق إعمار عربي-عراقي" يشرف عليه العراق بالاشتراك مع تلك الدول، مقابل امتيازات اقتصادية (مثلاً في مرافئ أو أراضٍ أو مشاريع سياحية).

 

تلك العملية تفرز عن ملكية جزئية في أصول بالخارج (كفنادق، موانئ، طرق)، فضلاً عوائد مالية طويلة الأمد بدلًا من أموال تُنفق وتنتهي.

 

ومن البدائل الأخرى، توظيف المساعدات في استراتيجية "القوة الناعمة"، إذ أنه يمكن أن تُمنح دون أثر ملموس، يمكن أن تقترن بفتح مراكز ثقافية عراقية في بيروت وغزة وتونس، فضلًا عن إرسال فرق طبية وتعليمية تحمل اسم "المبادرة العراقية"، وتقديم المنح الدراسية باسم العراق.

 

ويحسن ذلك من صورة العراق عربياً، وتعويض سنوات العزلة والحروب بدور "الراعي"، فضلاً عن خلق عمق ثقافي واستراتيجي داعم للنفوذ العراقي.

 

وكان من الممكن أيضاً تعزيز الإنتاج الداخلي عبر ربط المساعدات بالتطوير الزراعي والصناعي، أي أن يكون شرط التبرعات هو أن تُشترى الحنطة مثلًا من شركات محلية أو عبر عقود توريد تحفز الزراعة، وذلك يعود على العراق بفوائد تتمثل بزيادة الاستثمار في القطاع الزراعي، وتشغيل مئات آلاف الفلاحين، إضافة إلى تشجيع الاكتفاء الذاتي وتحقيق فائض دائم.

 

ماذا ممكن أن يعمل العراق بأموال التبرعات؟

 

تبرعات العراق، لو بقيت داخل البلد من الممكن أن تؤدي إلى دعم البطاقة التموينية وتوسيع مفرداتها، إذ يمكن أن يُموّل هذا المبلغ مواد غذائية أساسية لأكثر من مليون عائلة لعدة أشهر، إضافة إلى تحسين البنية التحتية الصحية: بناء أو تجديد 5–7 مستشفيات ميدانية أو 100 مركز صحي في المناطق المحرومة، فضلًا عن إنشاء مشاريع صغيرة للحد من البطالة: دعم ما لا يقل عن 10,000 مشروع صغير للشباب والعاطلين بتمويلات تبدأ من 4,000 دولار، وكذلك، ترميم المدارس وشراء المستلزمات التعليمية، عبر تجهيز آلاف المدارس بالمقاعد والسبورات الذكية، وتوزيع ملايين الكتب المجانية.

 

علاوة ذلك، ستسهم في مشاريع المياه أو الطاقة الشمسية في القرى: يمكن إنجاز عشرات محطات تحلية أو طاقة شمسية في القرى التي تعاني الجفاف، أما فيما يخص استثمار 840 ألف طن من الحنطة، فإنها تشكّل قرابة 20-25% من الاستهلاك السنوي المحلي.

 

ويمكن أن تسهم في دعم الأمن الغذائي وتقليل الاستيراد، فضلا عن تغطية احتياج 4–5 أشهر من الطحين للبطاقة التموينية، وبيع جزء منها في السوق العالمية، كذلك يمكن بيعها وتحقيق إيرادات قد تصل إلى 300–350 مليون دولار (بسعر متوسط 400–450 دولار للطن).

 

وبالإضافة إلى تحويلها إلى منتجات غذائية مصنّعة، مثل المعكرونة والبسكويت ومواد غذائية جاهزة للتصدير، ما يُحفز القطاع الصناعي، فضلًا عن تخزينها كاحتياطي استراتيجي يستخدم في أوقات الأزمات (جفاف، حصار، تقلبات أسعار).

 

ويمكن من خلالها أيضاً دعم الفلاحين المحليين من خلال الاستبدال، أي يمكن مبادلتها بأسمدة أو معدات زراعية لمضاعفة الإنتاج المحلي.

 

ويتبين من ذلك، أن التبرع بدون مقابل هو "استنزاف للثروات" كما يعتبره بعض السياسيين، أما التبرع المشروط والمبني على منطق "الاستثمار السياسي-الاقتصادي" فهو تعزيز للدور الإقليمي للعراق، ورافد طويل الأمد لاقتصاده ونفوذه الخارجي.

 

حسين حاتم صحفي عراقي

نُشرت في الاثنين 2 يونيو 2025 11:30 ص

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.