وعود بطيئة وإيجارات تقتل الأحلام.. أزمة السكن في العراق تعطل حياة الشباب وتدفع إلى هوامش المدن

9 قراءة دقيقة
وعود بطيئة وإيجارات تقتل الأحلام.. أزمة السكن في العراق تعطل حياة الشباب وتدفع إلى هوامش المدن عائلة تنفق نصف دخلها للإيجار وشاب يعجز عن بدء حياته بسبب أزمة السكن (الجبال)

لم يكن حسين (37 عاماً)، يظن أن أزمة السكن ستكون سبباً رئيسياً في تأجيل أحلامه. سرعان ما اصطدم بواقع سوق العقار ليجد نفسه عالقاً في دوامة من الانتظار. شقق باهظة الثمن، مشاريع سكنية معلقة، ووعود حكومية فارغة. يقول الشاب: "أبحث عن بيت من سنتين بسعر مناسب ما لقيت، ولأن الإيجار يأكل نص راتبي، ووحدات الفقراء السكنية صارت للأغنياء، ما قدرت أتزوج إلى الآن".

 

ويضيف: "نعم، يبدو أن كل السكن بات معضلة شُبان الجيل الجديد، فالإيجارات تلتهم الدخول الشهرية والوحدات السكنية تُعرض بأسعار خيالية، الحلم لا يبدو بعيداً فحسب، بل مُقيد بسلاسل الوعود والمشاريع المؤجلة. في بلد تتكدّس فيه العائلات بين الإيجارات المؤقتة والأحياء العشوائية، يغدو الزواج ترفاً، لا استحقاقاً. فالبيت، في العراق لم يعد مأوى، بل امتحان قدرة، ورفاهية لا يطالها سوى أصحاب النفوذ أو (البلوغرات)".

 

في بلد أنهكته الحروب والفساد والتصدع السياسي، لا تبدو أزمة السكن مجرد مشكلة عقارية، بل انعكاس عميق لفشل الجهات المعنية في تأمين أبسط حقوق مواطنيها. اليوم عشرات آلاف الأسر العراقية تُطارِد فرصة الحصول على السكن الذي بات حُلما مع تصاعد سوق العقارات.


غياب الرقابة، المشاريع المتلكئة، والسوق المُنفلت، كُلها أسباب جعلت المدينة تبدو أشبه بغابة تسحق الطبقة المتوسطة، وتدفع الفئات الهشة نحو الضواحي، أو لربما نحو المجهول. فما الذي يغذي هذه الأزمة؟ ولماذا أصبح السكن في العراق حلماً مؤجلاً لغالبيّة مواطنيه؟.

 

إيجارات تقتل الأحلام

لم تعد أزمة السكن في العراق مسألة بناء أو تخطيط عمراني، بل تحوّلت، كما ترى الباحثة الاجتماعية أمل عبد اللطيف، إلى قضية تمسّ البنية الاجتماعية للأسرة العراقية وتؤثر في استقرارها. ففي ظل ارتفاع الإيجارات مقابل انخفاض الدخول، وجدت آلاف العائلات نفسها محاصرة بين جدران ضيقة وقرارات مؤجلة، في وطن يصعب فيه أن تبدأ حياة دون أن تتنازل عن أبسط أحلامك.

وتوضح الباحثة الاجتماعية، في تصريح لمنصّة "الجبال"، أن "أزمة السكن في العراق لم تعد مسألة عمرانية بحتة، بل تحوّلت إلى أزمة مجتمعية تمسّ صميم الحياة اليومية للأسرة العراقية".


وتشير إلى أن "ارتفاع الإيجارات يتناسب عكسياً مع معدلات الدخل، مما دفع آلاف العائلات إلى العيش في ظروف سكنية غير ملائمة، ما انعكس سلباً على الاستقرار النفسي والاجتماعي، خصوصاً بين فئة الشباب".

 

وتلفت عبد اللطيف إلى أن "اختلال التوازن بين العرض والطلب في سوق الإيجارات، إلى جانب غياب الدور التنظيمي للدولة، أدى إلى تحولات ملموسة في أنماط العيش، مثل التراجع عن قرار الزواج، أو التكدّس الأسري داخل وحدات ضيّقة، وحتى العودة إلى العيش مع الأهل رغم تقدم العمر".

عبد اللطيف تعتقد أن "السكن بات يمثل عبئاً مالياً خانقاً يقضم معظم دخل العائلة العراقية"، مشيرة إلى أن "الأسرة التي تدفع نصف دخلها أو أكثر للإيجار، تفقد تدريجياً قدرتها على تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وتصبح حبيسة أولويات البقاء فقط، لا النمو أو التقدم".


حين تتراكم الأزمات وتغيب الحلول

رغم افتقارها لأبسط مقومات البنية التحتية، لكن سعر المتر السكني الواحد وصل في عدد من المناطق الشعبية في بغداد إلى ما يقارب ألف دولار أميركي، وهو ما دفع شريحة واسعة من المواطنين إلى الهروب من قلب المدينة نحو الأطراف، بحثاً عن وحدات سكنية أقل تكلفة، وإن افتقرت للاستقرار أو الخدمات الأساسية.

في المقابل، تواصل الجهات الرسمية الحديث عن مشاريع إسكانية قيد التنفيذ، أو أخرى "قيد الإحالة"، في وقت يترسّخ فيه شعور عام بأن هذه الوعود باتت أقرب إلى أرشيف طويل من الخطط المؤجلة. هذا الواقع المرهق يمر مثقلاً بالأسئلة، فهل تلبّي هذه المشاريع المتأخرة تطلعات العراقيين إلى سكن كريم؟.

 

يقول المتحدث الرسمي باسم وزارة الإعمار والإسكان نبيل الصفار، إن "أزمة السكن في العراق تفاقمت بفعل فجوة كبيرة بين العرض والطلب، حيث تخضع سوق العقارات لمنطق السوق الحر، وهو ما انعكس سلباً على أسعار الإيجارات وساهم في تفاقم المعاناة المعيشية للأسر".


ويضيف الصفّار، في حديث لمنصّة "الجبال"، أن "بعض رجال الأعمال والمستثمرين استغلوا هذه الظاهرة لصالحهم، في ظل غياب رقابة فاعلة أو تنظيم حقيقي للسوق"، مشيراً إلى أن "المشاريع الحالية التي تعمل عليها الوزارة لا تواكب الحاجة السكانية المتزايدة".

وفي قراءة لأداء الوزارة، يكشف الصفّار أن "خمسة مشاريع فقط تم إنجازها من أصل 49 مشروعاً سكنياً أُطلقت خلال السنوات الماضية في محافظات مختلفة"، مؤكداً أن "العديد من المشاريع توقفت نتيجة للظروف الأمنية التي مر بها العراق، لا سيما في المناطق المتضررة من الإرهاب".


ويشير المتحدث إلى، أن "الوزارة تعمل حالياً بالتعاون مع الحكومات المحلية لإعادة تفعيل هذه المشاريع، إما بإحالتها للاستثمار أو بإعادة الشركات المنفذة لمباشرة العمل مجدداً، حتى لو ساهمت هذه المشاريع بجزء يسير من سدّ العجز الكبير في الوحدات السكنية".

وعود إسكانية تسير ببطء مقابل أزمة متسارعة

في هذا السياق، طرحت الحكومة العراقية مشروع "المدن الجديدة"، كخطوة مفصلية ضمن خططها لمعالجة العجز المتراكم في قطاع الإسكان.

 

ووفقاً لتقديرات وزارة التخطيط، فإن العراق بحاجة إلى أكثر من ثلاثة ملايين وحدة سكنية لسد الفجوة المتزايدة. المدن الجديدة، التي يجري بناؤها في أطراف العاصمة بغداد ومحافظات أخرى، تهدف إلى تخفيف الكثافة السكانية عن المراكز الحضرية، وتوفير بيئة عمرانية مخططة تتضمن وحدات سكنية حديثة وخدمات متكاملة؛ إلا أن التساؤل الذي يظل مطروحاً  لا يتعلق بعدد الوحدات فحسب، بل بقدرتها على الاستجابة الفعلية لحاجة الناس، ومدى توافرها بأسعار عادلة تتيح للطبقات المتوسطة والفقيرة الحصول عليها.

 

مها عبدالكريم، مديرة موارد التنمية في وزارة الإعمار والإسكان، أكدت أن تصاعد أزمة الإيجارات في العراق يُعد انعكاساً مباشراً لـ"غياب سياسات إسكانية فاعلة تستجيب للواقع الديموغرافي والاقتصادي للبلاد"، محمّلةً في ذلك مسؤولية مشتركة بين ضعف التخطيط الحكومي، وتباطؤ تنفيذ برامج الإسكان، وغياب استراتيجيات استثمار عقاري تتلاءم مع النمو السكاني ودخل الأسرة العراقية".

 

وأوضحت عبد الكريم في تصريح لمنصّة "الجبال"، أن "الوثيقة الوطنية للسياسة السكانية لعام  2023في محورها التاسع المعني بالسكن، شددت على ضرورة توفير وحدات سكنية لائقة للفئات الأكثر احتياجاً، ومعالجة تفاقم العشوائيات، وتحقيق تحسن ملموس في البنى التحتية والخدمات الأساسية، كما تضمنت استراتيجية الحد من الفقر، وأهدافاً واضحة تتعلق بالسكن اللائق، لا سيما للفئات الواقعة تحت خط الفقر، وتم بموجبها تنفيذ برامج إسكان ميسّرة، منها توزيع دور واطئة الكلفة في عدة محافظات.

 

وأشارت مديرة موارد التنمية في وزارة الإعمار والإسكان، إلى أن "نتائج التعداد العام للسكان والمساكن الأخيرة، والتي رصدت أكثر من عشرة ملايين وحدة سكنية مقابل عدد سكان تجاوز 46 مليون نسمة، تضع أمام الدولة تحديات ملحّة لصياغة سياسات سكنية متجددة. وتلفت إلى الحاجة لتبني خطط تواكب النمو الديموغرافي، من خلال إنشاء مدن جديدة ذكية وصديقة للبيئة خارج النطاقات الحضرية الحالية، بما يتطلب أيضاً مراجعة القوانين المرتبطة بتملك الوحدات السكنية وتيسير الوصول إليها".

 

سوق مُنفلت

مع ارتفاع الطلب على المساكن مقابل عرض محدود، وغياب أدوات الضبط الحكومي، بات السوق العقاري ساحة مفتوحة لفوضى الأسعار والمضاربات، بحسب الخبير الاقتصادي أحمد عبد ربه، الذي أكد أن "انفلات السوق الإيجاري ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج تراكمي لسياسات إسكان مرتجلة، وغياب واضح للتنظيم، وسط تزايد الضغط السكاني وانخفاض القدرة الشرائية".

أحمد عبد ربه رأى في تصريح لمنصّة "الجبال"، أن "الأزمة بدأت من خلل واضح في المعادلة السكنية: ارتفاع متواصل في الطلب، يقابله عرض محدود لمشاريع إسكانية جديدة". هذا النقص في الوحدات السكنية، كما يقول عبد ربه، "دفع أسعار الإيجار إلى مستويات غير مسبوقة، خصوصاً مع التضخم وغلاء مواد البناء، وانخفاض القدرة الشرائية لمعظم العائلات العراقية".

 

ويضيف عبد ربه، أن "غياب برامج قروض سكنية مدعومة من الدولة، ترك المواطنين بلا خيارات سوى سوق الإيجارات. وفي ظل غياب قوانين رادعة، بات المستثمرون يرفعون الأسعار كما يشاؤون، مدفوعين بالمضاربة العقارية لا بالحاجة الفعلية للسكن".

 

كما يشير عبد ربه إلى أن "الكثير من العقارات تُشترى اليوم بغرض إعادة بيعها لاحقاً بأسعار أعلى، لا بغرض إسكان المواطنين أو تخفيف الأزمة، والمحصلة: عائلة تنفق نصف دخلها للإيجار، وشاب يعجز عن بدء حياته، ومواطن يُزاح من قلب المدينة إلى هامشها".

 

وفي ظل البحث عن حلول لمواجهة هذه الأزمة رأى عبد ربه أن "الحل يُكمن في التوجه الجاد نحو بناء مدن جديدة، ومشاريع إسكان حكومية مدروسة تستوعب النمو السكاني وتراعي مستوى دخل المواطن؛ لكن إن لم تُطور هذه المشاريع وتُنفذ فعلياً، فستبقى حبراً على ورق". 

 

نوارة محمد

نُشرت في الأحد 4 مايو 2025 09:09 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.