بعد أشهر من الهدوء النسبي الذي خيم على مدينة الناصرية منذ تشرين الأول 2024، عادت المدينة لتحتل صدارة المشهد العراقي من جديد، ولكن هذه المرة لم يكن السبب سياسياً أو مرتبطاً بحركة تشرين كما جرت العادة، بل جاءت الشرارة من قلب الميدان التربوي للكوادر التربوية من المعلمين وموظفي وزارة التربية.
ومنذ ساعات الصباح الأولى من اليوم الثلاثاء، بدأت الجموع تتوالى متجهةً إلى تقاطع بهو الإدارة المحلية وسط المدينة، مئات من المعلمين والمعلمات والمدرسين والمدرسات، جاءوا من كل حدب وصوب في ذي قار، رافعين لافتات تطالب بـ"إنصاف الكوادر التربوية"، و"أرض لكل معلم"، و"مخصصات عادلة تنصف الجهد المبذول".
ولم تكن هذه الوقفة جزءاً من حراكٍ محلي، إنما تزامنت مع حراك احتجاجي عام، في محافظات عراقية عديدة، في إطار تظاهرة موحدة دعا إليها المعلمون احتجاجاً على التجاهل الحكومي المستمر لمطالبهم.
من السلمية إلى الصدام
وعلى الرغم من سلمية التظاهرة، لم تكد تمر ساعة على انطلاقها حتى بدأت مشاهد العنف تفرض نفسها على المشهد؛ فقوات مكافحة الشغب التي حضرت بكثافة، بدأت بتطويق المتظاهرين وإرغامهم على التفرق ومنعهم من الوقوف حتى على الأرصفة.
ويقول وسام الفرطوسي، أحد المشاركين، لمنصة "الجبال"، إن مطالبهم بسيطة وواضحة: "نريد احتساب الخدمة التربوية وتعديل مخصصات الزوجية، والنقل والحصول على أراضٍ سكنية، ولا نطالب بالمستحيل بل بحقوقنا القانونية".
لكن بدلًا من الاستجابة، تفاجأ المحتجون بـ"الرد الأمني العنيف" على حد وصفهم، حيث أقدمت قوات الشغب على تفريق التجمع بالقوة، ليتراجع المتظاهرون، سالكين الأزقة والأفرع، حتى وصلوا على مقربة من مديرية تربية المحافظة. وما أن بلغت أعداداهم المئات، فوجئوا بعد سويعات بقوة مكافحة الشغب مرة أخرى، التي أجبرتهم على الانسحاب. مستخدمة العصي والقنابل الدخانية، وسط صرخات وارتباك سادت المكان.
المعلمون يُسحلون.. وعضو مجلس يُعتقل
وما حدث لم يكن مجرد فض تظاهرة اعتيادية، بل مشهد أثار غضب الشارع العراقي. حيث نُشِرَت وتداولت مقاطع مصورة لاعتداءات طالت معلمين ومعلمات، بعضهم تعرض للسحل والدفع، وسط تدافع أدى إلى إصابات في صفوف المحتجين.
وحتى عضو مجلس محافظة ذي قار سلام الفياض لم يسلَم، حيث كان بين المحتجين عندما حاول التدخل والتعريف بنفسه أمام القوات، قائلا بصوت عالٍ: "أنا عضو في المجلس" إلا أن "الرد كان صادماً، حيث اُعتُقل وجرى اقتياده إلى إحدى سيارات الشرطة، في مشهد غير مألوف".
ردود أفعال غاضبة واستنكار واسع
مديرية تربية ذي قار سارعت إلى إصدار بيان رسمي، حصلت منصة "الجبال" على نسخة منه، أعربت فيه عن استنكارها الشديد لما تعرضت له الكوادر التربوية، وطالبت بمحاسبة كل من حاول المساس بكرامة التربويين وفي الوقت ذاته، طالبت الكوادر التربوية بعدم التصادم مع القوات الأمنية، و"تفويت الفرصة" على من وصفتهم بـ"المندسين" والحفاظ على الطابع السلمي للمطالبة بالحقوق.
من جانبه، وصف اتحاد الأدباء والكتاب في ذي قار ما جرى بـ"الاعتداء السافر والبربري"، مؤكداً في بيان له أن ما حدث يمثّل "انتكاسة كبيرة، في القيم الديموقراطية، وجرح كبير ومؤلم في قلب العراق ووصمة سوداء في جبين الحكومة" وطالب الاتحاد وفق البيان، الحكومتين المركزية والمحلية ومجلس النواب ومجلس المحافظة بـ"التدخل السريع والعاجل بمحاسبة المعتدين وردّ الاعتبار لهذه الفئة العظيمة".
أما رئيس لجنة التربية والتعليم في مجلس المحافظة، أحمد فرحان، رفض المساس بالكوادر التربوية، قائلاً "من حق التربويين التعبير عن مطالبهم، وهذا الحق مكفول دستورياً ولا يجوز التضييق عليهم بأي شكل من الأشكال".
وفي السياق ذاته، أدانت نقابة المعلمين في ذي قار ما وصفته بـ"الاستخدام المفرط للقوة"، مطالبةً بفتح تحقيق عاجل ومحاسبة المسؤولين عن هذا التصرف "غير المبرر".
حصيلة بالإصابات
وفي الأثناء، كشف مصدر في صحة ذي قار، اليوم الثلاثاء، عن الحصيلة النهائية للإصابات التي وقعت جراء القمع الذي شهدته مدينة الناصرية إثر اعتداء القوات الأمنية على الكوادر التربوية.
وذكر المصدر لمنصة "الجبال" أن "عدد الإصابات الكلي بلغ 42 حالة من الطرفين، بينها 27 إصابة في صفوف المتظاهرين من الكوادر التربوية و15 إصابة من عناصر القوات الأمنية".
وأشار إلى أن "الإصابات تنوعت بين حالات اختناق جراء القنابل الدخانية وكدمات نتيجة التدافع والاشتباك".