تجميد التمويل الخارجي.. كيف تواجه منظمات المجتمع المدني في العراق أزمتها الأكبر؟

23 قراءة دقيقة
تجميد التمويل الخارجي.. كيف تواجه منظمات المجتمع المدني في العراق أزمتها الأكبر؟ (الجبال) أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمراً تنفيذياً بتجميد المساعدات الخارجية

في خطوة مؤثرة، أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمراً تنفيذياً بتجميد المساعدات الخارجية لمدة 90 يوماً بانتظار مراجعتها، تسببت في حالة من الفوضى داخل منظومة المساعدات الدولية. حيث تعدّ الولايات المتحدة، أكبر مانح للمساعدات الخارجية في العالم، والتي أنفقت 68 مليار دولار العام الماضي. القرار بحسب مختصين يهدد بتقويض مشاريع إنسانية وتنموية واسعة النطاق.

 

وتوقف موقع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) عن العمل، وهي الجهة الحكومية المسؤولة عن تنفيذ المساعدات الإنسانية. وكانت هناك خطة لدمج الوكالة ضمن وزارة الخارجية، مما يضع مستقبل المساعدات الدولية في حالة من الغموض.

 

ورغم أن الإنفاق الأميركي على المساعدات الخارجية لا يتجاوز 1% من إجمالي الميزانية الفيدرالية، فإن ترامب ومستشاره الملياردير إيلون ماسك استهدفوا وكالة التنمية الدولية (USAID) باعتبارها نموذجاً لما وصفوه بـ"الهدر الحكومي".

 

في العراق، هددت هذه الإجراءات بوقف عشرات المشاريع التنموية والإغاثية، التي تعتمد على الدعم الأميركي في قطاعات حيوية مثل إعادة الإعمار، وتأهيل المناطق المتضررة من الحرب، ودعم النازحين، والبرامج التنموية، حيث تتركز هذه المشاريع بشكل خاص في شمال وغرب وجنوب العراق، التي لا تزال آثار العنف والإرهاب وقوانين العشائر ماثلة فيها، ويعتمد آلاف الأشخاص فيها على المساعدات للبقاء على قيد الحياة.

 

القرار الأميركي استثنى بعض المساعدات من التجميد، مثل تلك المقدمة لمصر وغزّة، وكذلك المساعدات الغذائية الطارئة، لكنه يفرض مراجعة شاملة لبقية برامج المساعدات.

 

وعلى مدى السنوات الماضية، لعبت الوكالات الحكومية الأميركية، وعلى رأسها وزارة الخارجية ووزارة الدفاع (البنتاغون) وUSAID، دوراً رئيسياً في دعم مشاريع البنية التحتية والخدمات الاجتماعية داخل العراق. ويذهب جزء كبير من هذه المساعدات إلى منظمات غير حكومية محلية ودولية لتنفيذ مشاريع تهدف إلى تمكين النساء الناجيات من النزاعات، وتأهيل الأطفال في مناطق الصراع، وإعادة إدماج النازحين في مجتمعاتهم، فضلاً عن دعم الحكومات المحلية في إدارة هذه الملفات الشائكة. لكن مع قرار التجميد، يصبح كل ذلك عرضة للخطر، إذ تواجه هذه المنظمات أزمة تمويل غير مسبوقة، وسط غياب رؤية واضحة لما سيحدث بعد المراجعة التي أطلقتها إدارة ترامب.

 

تمويل المنظمات غير الحكومية في العراق والتحديات المحلية

 

بعد سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، شهد العراق طفرة في تأسيس المنظمات غير الحكومية، التي انتشرت في مختلف أنحاء البلاد بدعم من مؤسسات دولية قدمت التمويل والمساندة اللوجستية، مما ساهم في نمو قطاع الدعم وتعزيز دوره. وعلى مدى السنوات الماضية، لعبت هذه المنظمات دوراً محورياً في تقديم المساعدات الإنسانية، ودعم الفئات المهمشة، وتعزيز حقوق الإنسان، فضلاً عن تمكين المرأة، ومكافحة الفساد، ومراقبة الانتخابات، ونشر ثقافة التعايش والسلام.

 

وتُقسَّم المنح التي تحصل عليها المنظمات غير الحكومية في العراق إلى نوعين رئيسيين وهما: المنح عبر البحار؛ وهي التمويلات المقدمة من جهات دولية ليس لها مكاتب أو برامج عمل مباشرة داخل العراق. وغالباً ما تأتي هذه المنح من منظمات أوروبية أو أميركية، وتُقدم بعد زيارات ميدانية أو من خلال التواصل الإلكتروني مع المنظمات المحلية العراقية. ومع أن هذه المنح تمثل مصدراً مهماً للتمويل، إلا أن العديد من المنظمات المحلية تعاني من ضعف القدرة على التواصل الفعال مع المانحين الدوليين، مما يحدّ من فرص حصولها على التمويل المستدام.

 

وثانياً: المنح المقدمة من المنظمات الدولية العاملة في العراق، يشمل هذا النوع التمويلات التي تقدمها جهات مثل المعهد الديمقراطي الوطني (NDI)، المعهد الجمهوري الدولي (IRI)، المنظمة الدولية للهجرة (IOM)، ووكالات الأمم المتحدة، وهي أيضاً تنقسم إلى فئتين، هما: التمويل الموجّه من الجهات الدولية: حيث تحدد المنظمات الدولية برامجها مسبقاً وتبحث عن شركاء محليين لتنفيذ مشاريع محددة. ورغم أن هذه الشراكات توفر فرصاً جيدة للمنظمات العراقية من حيث التشغيل وبناء القدرات، إلا أن الفئة الثانية من التمويل وذلك القائم على مقترحات المشاريع فيعتبر الأكثر استدامة وفائدة، حيث توفر بعض الجهات المانحة منحاً استجابةً للمقترحات التي تقدمها المنظمات المحلية وفقاً لأولوياتها. يمنح هذا النوع من التمويل مساحة أكبر للمنظمات لتصميم حلول تتناسب مع تحديات المجتمع المحلي، ويعزز من استقلاليتها في العمل.

 

تأثيرات واسعة على المنظمات غير الحكومية في العراق

 

بحديث مع منتظر حسن، العامل في إحدى المنظمات المحلية، قال إنه "في نظرة عميقة إلى توزيع الميزانيات، نكتشف أن الجزء الأكبر من التمويل الأميركي كان موجّهاً للحكومة العراقية بشكل مباشر، فضلاً عن المشاريع الأمنية والعسكرية وهذا الأمر الذي تجهله الأغلبية".

 

عند مراجعة المشاريع الممولة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، يظهر أن الجزء الأكبر من الميزانية موجه للأمن والدفاع، حيث يتجاوز تمويل إحدى المشاريع العسكرية والأمنية 250  مليون دولار، في حين تحصل المنظمات غير الحكومية على حصة صغيرة من إجمالي التمويل. ويشير منتظر إلى أن "المنح التي تقدمها الولايات المتحدة للمنظمات المدنية تشترط بشكل متزايد التعاون مع الحكومة العراقية، مما قلل من استقلالية هذه المنظمات".

 

وعلى العكس من ذلك، يعتمد التمويل الأوروبي على نموذج مختلف، إذ يُخصص حوالي 90% من منح الاتحاد الأوروبي للمنظمات غير الحكومية بشكل مباشر، بينما تحصل الحكومات على نسبة صغيرة نسبياً، لا تتجاوز 5-6%.

 

تداعيات القرار على المشاريع والمنظمات في العراق

 

إحدى المنظمات العاملة في العراق، والتي تأثرت بشكل كبير من قرار التجميد، توضح أن "هذا القرار أثّر على ثلث ميزانيتها وعلى ثلث المشاريع التي كانت تعمل عليها. ورغم أن أحد مشاريعها كان قريباً من الانتهاء، مما قلل من خسائرها، فإن مشروعاً آخر كان قد بدأ حديثاً وتأثّر بشكل مباشر بوقف التمويل. كما تلقت المنظمة، قبل يومين فقط، إشعاراً بإمكانية الاستمرار في مشروع معين، بينما ألغيت مشاريع أخرى بالكامل.

 

وبشكل عام، فإن معظم المشاريع الممولة أميركياً إما توقفت تماماً أو جُمّدت إلى أجل غير مسمى. ومع ذلك، فإن المشاريع التي تمولها وزارة الخارجية الأميركية بشكل مباشر، وليس عن طريق (USAID)، لا تزال تعمل جزئياً، ما يُسلط الضوء على الفروق داخل آليات التمويل الأميركي.

 

تحديات قانونية ومالية تواجه المنظمات بعد تجميد التمويل

 

في 24  كانون الثاني/يناير 2025، جاء الإيقاف الرسمي لجميع التحويلات المالية المرتبطة بالمساعدات الأميركية، حتى تلك التي كانت مستحقة أو مبرمجة سابقاً. أدى هذا الإجراء إلى إغلاق العديد من فروع المنظمات الدولية العاملة في العراق، لا سيما المنظمات الأميركية والأوروبية التي تعتمد بشكل كلي على التمويل الأميركي. وقد أغلقت مجموعة منظمات دولية معروفة مكاتبها في العراق نتيجة لهذا القرار ومنها منظمة "وور جايلد War child" counterpart "كاونتر بارت" ومنظمة هارتلاند الاينس الدولية Heartland Alliance International وشركة كيمونكس Chemonics ومنظمة ميرسي كور Mercy corps ومنظمة وغيرها من المنظمات الدولية، أما المنظمات المحلية فتوقفت عن العمل منظمة "سييد"SEED وقد تعود في الفترات القادمة.

 

اصطدمت هذه الأزمة بتعقيدات قانونية مرتبطة بعقود العمل في العراق. إذ لا يسمح القانون العراقي بتعليق العقود بشكل مؤقت، بل يفرض إما إنهاء العقود رسمياً وفقاً لقانون العمل أو الاستمرار في دفع الرواتب. ونتيجة لذلك، اضطرت بعض المنظمات إلى منح موظفيها إجازات إجبارية دون راتب، وهو إجراء غير قانوني وفق التشريعات العراقية. والطريقة القانونية الوحيدة المتاحة كانت إنهاء العقود ودفع راتب شهر إضافي كتعويض، وهو ما شكل عبئاً مالياً إضافياً على هذه المنظمات.

 

وبالإضافة إلى ذلك، واجهت بعض المنظمات تحديات مالية أخرى، إذ أن بعض الموظفين الذين عملوا لسنوات طويلة كانوا يستحقون مكافآت نهاية الخدمة، مما زاد من تعقيد الأزمة المالية التي تمر بها هذه المؤسسات.

 

ولم يقتصر تأثير قرار الإدارة الأميركية بتجميد المساعدات الخارجية على تعطيل المشاريع التنموية في العراق، بل امتد ليضرب بشكل مباشر حقوق المرأة والخدمات المقدمة للناجيات من العنف الأسري وضحايا الانتهاكات. إذ شكلت المنظمات غير الحكومية، على مدى سنوات، خط الدفاع الأول لحماية النساء وتقديم الدعم القانوني والنفسي لهن، خاصة في ظل التحديات التي تواجههن عند اللجوء إلى المؤسسات الرسمية.

 

خدمات قانونية ونفسية تشكّل طوق نجاة

 

يوضح منتظر حسن وهو مدير البرامج في جمعية الأمل العراقية؛ أنه "قبل قرار قطع التمويل، كانت العديد من المنظمات تدير مراكز دعم متكاملة للنساء في عدد من المحافظات العراقية، حيث تقدم خدمات قانونية لمساعدة الناجيات من العنف في رفع دعاوى قضائية أو طلب الحماية والتواصل مع الشرطة المجتمعية، إضافة إلى الدعم النفسي والاجتماعي الذي كان يوفر للنساء مساحة آمنة للتعافي والاستقلال. كما عملت بعض المنظمات على برامج اقتصادية لتمكين الناجيات عبر مشاريع صغيرة توفر لهن مصدر دخل يحميهن من العودة إلى دوائر العنف".

 

ويضيف حسن، "لكن بعد وقف التمويل، توقفت هذه الخدمات بالكامل أو تقلصت إلى حد كبير، مما ترك مئات النساء دون دعم".

 

إحدى العاملات في هذا المجال روت كيف أن النساء اللواتي اعتدن على اللجوء إلى هذه المراكز أصبحن يشعرن بالخذلان، حيث قالت: "كانوا يقولون لنا: أنتم الأمل الوحيد لنا، الآن حتى أنتم ستتركونا؟".

 

خطر يهدد النساء

 

إلى جانب الخدمات الميدانية، لعبت المنظمات غير الحكومية دوراً رئيسياً في الدفع نحو تغييرات قانونية تضمن حقوق المرأة، مثل: إعداد مدونة سلوك لقوى الأمن لتحديد معايير التعامل مع النساء بطريقة تحترم احتياجاتهن وحقوقهن، بالتعاون بين جمعية الامل العراقية مع وزارة الداخلية وقسم المرأة في رئاسة الوزراء العراقية. العمل على تشريعات جديدة مثل تعديل قانون الأحوال الشخصية وقانون مكافحة العنف الأسري.

 

إحدى الإشكالات الكبرى التي واجهتها النساء بعد توقف التمويل هي غياب البدائل الفعالة، حيث أن بعض الجهات الأمنية التي من المفترض أن تقدم الحماية، مثل الشرطة المجتمعية، تعاني من مشكلات تتعلق بعدم السرية وطريقة التعامل مع الناجيات. في المقابل، كانت المنظمات توفر بيئة أكثر أماناً وسرية، حيث كان بإمكان النساء الحصول على المساعدة دون خوف من الوصم أو الانتقام، وتشجع الشرطة المجتمعية على التزام هذه المعايير.

 

ومع أن بعض الدول الأخرى غير الولايات المتحدة لا تزال تقدم تمويلاً جزئياً لمنظمات تُعنى بقضايا المرأة، فإن نسبة كبيرة من المنظمات الأجنبية والمحلية والجهات الحكومية العراقية كانت تعتمد على الدعم الأميركي، ما يجعل فقدان هذا التمويل ضربة قاصمة لجهود حماية وتمكين النساء في العراق.

 

واقع جديد يهدد المنظمات المدنية في العراق

 

لم يكن قرار الإدارة الأميركية بتجميد المساعدات الخارجية سوى جزء من سياق أوسع يشهده العالم.

 

يقول منتظر حسن في هذا الإطار: "بات التمويل الدولي للمجتمع المدني يتراجع بشكل ملحوظ، خاصة في الدول التي لم تعد تُصنَّف ضمن مناطق النزاع الشديد أو الدول منخفضة الدخل. والعراق، الذي شهد تحسناً نسبياً في تصنيفه الاقتصادي وتحوله إلى بلد متوسط الدخل، لم يعد يحظى بنفس الأولوية في تخصيصات التمويل مقارنة بالفترات السابقة، عندما كان يُنظر إليه على أنه دولة هشة بحاجة إلى دعم مكثف".

 

التمويل الخارجي للمشاريع التنموية بات يخضع لمنطق جديد يقوم على تركيز الدعم على الأزمات الطارئة مثل أوكرانيا والسودان وسوريا، حيث تم توجيه جزء كبير من التمويل الأميركي والأوروبي نحو دعم جهود إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية هناك. وتحوّل المساعدات إلى شكل أكثر اقتصادية، بحيث يتم التركيز على المساعدات عبر القنوات الحكومية بدلاً من تمويل المنظمات غير الحكومية مباشرة. بالاضافة الى تزايد الطابع السياسي للمساعدات، حيث أصبحت الدول المانحة توجه الدعم عبر القنوات الدبلوماسية ووفق مصالحها الاستراتيجية بدلاً من المعايير التقليدية التي كانت تعتمد على الحاجة الإنسانية أو التنموية فقط. والحكومات هي المستلم الأكبر للمساعدات الخارجية فالحكومة العراقية مثلاً استلمت حوالي 330 مليون دولار بشكل برامج أميركية مباشرة في 2023 فيما قدمت الوكالة الأميركية حوالي 94 مليوناً للبرامج التي تعمل عليها المنظمات (أغلبها دولية) في العام ذاته اشترطت في أغلبها العمل مع الجهات الحكومية. يوضح منتظر.

 

كيف تلتهم المصاريف الإدارية المساعدات الدولية؟

 

رغم الأموال التي يتم تخصيصها سنوياً لدعم مشاريع المجتمع المدني حول العالم، إلا أن جزءاً كبيراً منها لا يصل إلى الجهات المستفيدة بشكل مباشر. في العراق، تكشف آليات إدارة التمويل الدولي عن فجوة كبيرة بين قيمة المساعدات المعلنة وما يصل فعلياً إلى المنظمات المحلية، حيث تستحوذ الجهات الوسيطة، من منظمات أممية ودولية، على نسب كبيرة تحت بند "المصاريف الإدارية".

 

يقول منتظر: "على الورق، تبدو المساعدات الخارجية كأنها تُقدَّم بشكل مباشر للمؤسسات والمنظمات العاملة على الأرض، لكن الواقع مختلف، إذ تمر الأموال غالبًا عبر عدة مستويات من المؤسسات التي تلعب دور الوسيط. هذه السلسلة تبدأ من الجهة المانحة الرئيسية، التي تكون حكومات أجنبية أو شركات، ثم يتم توجيه المبلغ إلى مؤسسة وسيطة كالمنظمات الأجنبية والأمم الممتحدة تدير التمويل وتوزعه على المنظمات المحلية.

 

ما يحدث خلال هذه العملية هو أن كل جهة تمر عبرها الأموال تقتطع نسبة لنفسها تحت بند المصاريف الإدارية، مما يقلل بشكل كبير من المبلغ الذي يصل في النهاية إلى المشاريع المستهدفة.

 

تُعتبر المصاريف الإدارية جزءاً طبيعياً من إدارة أي مؤسسة غير ربحية، لأنها تغطي تكاليف مثل: إيجار المكاتب، فواتير الكهرباء والماء والاتصالات، وأجور الموظفين الأساسيين (غير المرتبطين بمشاريع معينة). لكن المشكلة تبدأ عندما تصل هذه المصاريف إلى نسب مرتفعة بشكل غير مبرر، مما يحرم المنظمات المحلية من الموارد الكافية لتنفيذ المشاريع بشكل فعال.

 

المنظمات الأمريكية تأخذ 40% كمعدل من قيمة المنحة كمصاريف إدارية قبل أن يصل التمويل للعراق، هذا بالإضافة إلى رواتب الفريق العامل فيها على المنحة بشكل مباشر.

 

في بعض الحالات، مثل مشروع حديث لوكالة التنمية الفرنسية لدعم النساء، حصلت منظمة فرنسية وسيطة على 36% من قيمة التمويل دون تنفيذ أي عمل فعلي على الأرض، وإنما فقط لإدارة توزيع الأموال على منظمات منفذة.

 

بمعنى آخر، إذا تم تخصيص 10 ملايين لمشروع معين، فإن ما يصل فعلياً إلى المنظمة المحلية لتنفيذه قد لا يتجاوز مليونين، بينما تذهب النسبة الأكبر لمؤسسات أجنبية تعمل كوسيط إداري فقط.

 

 

العراق واتفاقية الإطار الاستراتيجي

 

في حالة العراق، فإن الحكومة طلبت تخصيص التمويل الدولي لدعم القطاع الحكومي مباشرة عبر اتفاقية الإطار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، بدلاً من أن يذهب التمويل إلى المنظمات غير الحكومية. ونتيجة لذلك، أصبح تمويل المجتمع المدني العراقي في تراجع مستمر، حيث باتت الأولوية للمشاريع التي تتم بالشراكة مع الحكومة، وهو ما أضعف استقلالية المنظمات التي تعتمد على التمويل الخارجي لتنفيذ مشاريعها.

 

في ظل هذا التراجع، تبرز مشكلة رئيسية وهي عدم توفر بدائل محلية للتمويل، إذ أن القطاع الخاص في العراق لا يزال بعيداً عن مفهوم دعم المجتمع المدني، رغم وجود التزامات قانونية على الشركات الكبرى لتخصيص جزء من ميزانياتها ضمن المسؤولية المجتمعية. لكن هذه المسؤولية غالباً ما تُنفَّذ من خلال مبادرات شكلية، مثل المؤتمرات الشكلية والفعاليات العامة غير النافعة في المناسبات، دون الاستثمار الحقيقي في بناء قدرات المجتمع المدني أو دعم قضايا حقوق الإنسان والحريات العامة.

 

وتعتبر أكبر منظمة معنية بالمجتمع، تحصل على التمويل، هي ليست منظمة حقوقية أو تنموية، بل دينية تعتمد على التبرعات الخيرية، مثل مؤسسة العين، المدعومة من المرجع الديني الأعلى في العراق "علي السيستاني". حيث أن التبرعات في العراق ترتبط بالأعمال الخيرية من قبل المواطنين إلى المواطنين مباشرة بوجود وسيط واحد محلي، وهذا ما يفضله أغلبهم.

 

التراجع في التمويل المباشر وتأثيره على المجتمع المدني

 

في السابق، كان بعض التمويل يذهب مباشرة من المانحين الدوليين إلى المنظمات المحلية، لكن هذه الحالات أصبحت نادرة اليوم، حيث يفضل المانحون تمرير الأموال عبر مؤسسات دولية كبرى. هذا التغيير جعل حصة المنظمات المحلية تتقلص أكثر.

 

المشكلة لا تقتصر فقط على تقليل التمويل، بل أيضاً على اشتراطات المانحين، حيث أصبح من الضروري أن تعمل المنظمات المحلية بالتنسيق مع الحكومة العراقية لتنفيذ المشاريع، مما قد يحد من دورها المستقل في الدفاع عن القضايا الحساسة.

 

كيف تبتلع المنظمات الدولية أغلب التمويل؟

 

عندما يتم الإعلان عن مساعدات بملايين الدولارات لدعم المجتمع المدني، فإن الجزء الأكبر منها لا يصل فعلياً إلى المنظمات المحلية، بل يتم استنزافه في المصاريف الإدارية والأمنية للمؤسسات الدولية. وفقاً للممارسات الشائعة، فإن الأمم المتحدة ومنظماتها تستحوذ على حوالي 60% من أي تمويل تحت بند المصاريف الإدارية، التشغيلية، والأمنية، بينما تُترك 40% فقط للمنظمات المحلية التي يُطلب منها تنفيذ المشاريع وتحقيق النتائج المطلوبة على الأرض.

 

بالتوازي مع تحديات التمويل، تواجه المنظمات غير الحكومية في العراق قيوداً متزايدة من الحكومة، حيث تتطلب المشاريع والتقارير والإحصاءات موافقات رسمية أكثر من السابق. ومن أبرز هذه القيود: الموافقة على الاستبيانات والبحوث: أصبح من الصعب على المنظمات جمع البيانات أو إجراء دراسات حول قضايا مجتمعية، حيث تُطالب بموافقات حكومية مسبقة. وكذلك الرقابة على الفعاليات: حيث يتم فرض حضور أمني على بعض الأنشطة أو حتى اشتراط الحصول على إذن رسمي لعقدها، مما يقلل من حرية النقاش ويفرض ضغوطاً على المشاركين. ومؤخراً؛ قيود مصرفية جديدة: تم حظر الإيداع النقدي بالدولار للمنظمات غير الحكومية، بحجة مكافحة غسيل الأموال، رغم أن حجم الأموال التي تتلقاها هذه المنظمات لا يُقارن بتعاملات القطاع الخاص.

 

بات واضحاً أن حقوق المرأة وحقوق الإنسان أصبحت من أكثر المواضيع حساسية في العراق، حيث تواجه أي ورشة أو نشاط يتعلق بالمساواة ردود فعل سلبية، ليس فقط من الجهات الرسمية، بل أيضاً من مجموعات تروج لمفاهيم "مكافحة الانحراف"، والتي يُعتقد أنها مرتبطة بفصائل مسلحة. على عكس ذلك، فإن الفعاليات المتعلقة بالتمكين الاقتصادي أو التنمية المجتمعية تمرّ دون مشاكل تُذكر. تقول إحدى الناشطات المدنيات والعاملات في منظمة محلية: "تصاعدت الرقابة الحكومية على المنظمات المدنية، إذ لم تقتصر على فرض قيود على تقارير حقوق الإنسان، بل وصلت إلى حد استدعاء بعض الجهات الناشطة والتحقيق معها، فضلاً عن الزيارات اليومية للأجهزة الأمنية إلى مكاتب المنظمات، والتي غالباً ما تكون غير معلومة المصدر أو الجهة التي تقف خلفها".

 

تسريح الموظفين وإغلاق المكاتب

 

وتوضح الناشطة، ان "الفئة الأكثر تضرراً هي العاملة في المنظمات الكبرى، التي وجدت نفسها فجأة بلا عمل. كثير من هؤلاء كانوا يعتمدون على وظائفهم في هذا القطاع، وبعضهم كان قد حصل على إجازة طويلة من وظيفته الحكومية ليعمل في هذه المنظمات. الآن، ومع تزايد عدد العاطلين عن العمل من هذا القطاع، من المتوقع أن يحدث ضغط على الوظائف الحكومية".

 

الخيارات المتاحة لهؤلاء الموظفين هي؛ العودة إلى الوظائف الحكومية، رغم قلة الفرص المتاحة، أو الانتقال إلى القطاع الخاص، خاصة الشركات الكبرى، او العمل في قطاع النفط، الذي قد يستقطب بعض أصحاب الخبرات الإدارية والتقنية.

 

وترى الناشطة، أنه "يمكن اعتبار المنظمات غير الحكومية قطاعاً اقتصادياً رابعاً متميزاً عن القطاع الحكومي والخاص والنفطي، لأنه يعتمد على نظام عمل مختلف، يتطلب التزامات قانونية وأخلاقية أعلى نسبياً من القطاع الخاص، ورواتب وامتيازات متفاوتة، حيث كانت المنظمات الأوروبية تقدم عقوداً تتضمن تأميناً صحياً، رواتب جيدة، وعطل رسمية، بينما المنظمات المحلية تقدم رواتب أقل وساعات عمل أطول. بالاضافة الى تأثير اجتماعي قوي، إذ يساهم هذا القطاع في توفير فرص عمل لمختلف الفئات، خصوصاً النساء والشباب والناجين من مناطق النزاع والحروب، الأمر الذي لا تجده متوفراً كثيراً في القطاعين الحكومي والخاص حيث يتطلبان شروطاً مختلفة.

 

"سيكون هناك ضغط متزايد على الاقتصاد المحلي، حيث سيحاول كثير من العاملين السابقين إيجاد بدائل في قطاعات أخرى. هذا قد يؤدي إلى تنافس شديد على الوظائف الحكومية والقطاع الخاص، إضافة إلى تأثيرات اجتماعية أوسع، مثل تراجع مشاريع دعم النساء والحقوق المدنية"، تقول الناشطة التي فضلت عدم ذكر اسمها.

 

وتبين فاتن صالح، وهي عاملة في منظمات المجتمع المدني، أن "القرار كان مفاجئاً وتأثيره الحاد على المنظمات والموظفين، خاصة أنه صدر دون سابق إنذار، وفي يوم عطلة، مما جعل الوضع أكثر تعقيداً. كان على المنظمات إيقاف المشاريع فوراً، حتى دون وقت كافٍ لوضع خطة بديلة، وهو أمر غير مسبوق بالنظر إلى حجم المشاريع. المنظمات المتأثرة لم تكن صغيرة أو تضم موظفاً أو اثنين، بل كانت تدير مشاريع كبرى يعمل بها عشرات، بل ومئات من الأشخاص. في بعض الحالات، تم إنهاء عقود 40 موظفاً على الفور، بينما في منظمات أخرى وصل العدد إلى 100 - 300 موظف بسبب اعتمادها الكلي على تمويل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) وجهات أميركية أخرى".

 

كان التأثير شخصياً ونفسياً أيضاً على فاتن. حيث قالت: "كثير من العاملين كانوا يعتمدون على هذه الوظائف كمصدر رزق وحيد، ولديهم التزامات عائلية كبيرة. أن يأتيهم فجأة إشعار بإيقاف عقودهم دون معرفة مستقبلهم المهني، كان أمراً قاسياً جداً، سواء على المستوى الاقتصادي أو النفسي".

 

رغم الضغوط، حاولت بعض المنظمات اتخاذ إجراءات أكثر إنسانية بدلاً من الإنهاء الفوري للعقود، فتم: إيقاف مؤقت للعقود لمدة 3  أشهر بدلاً من إنهائها مباشرةً، بحيث يتم الاستئناف أو الإلغاء وفقاً لتطورات المشاريع والتمويل. أو البحث عن بدائل تمويل من جهات أخرى، مثل السفارة النرويجية وجهات أوروبية، لضمان استمرار بعض المشاريع.

 

المشاريع المستمرة رغم الأزمة

 

رغم وقف التمويل الأميركي، هناك إنجازات سابقة لا تزال قائمة كانت قد عملت عليها فاتن في المنظمة العاملة فيها، ومنها: تمكين عدد من النساء اللواتي حصلن على مناصب قيادية، من برلمانيات وأعضاء في مجالس المحافظات. أغلبهن كن متدربات، لكنهن أصبحن اليوم نساء فعالات في المجتمع السياسي والمدني. كما وتم دعم مشاريع ريادية نسائية، حيث نجحت بعض النساء في فتح محلات خاصة بهن والاستمرار بالعمل، واستمرار متابعة هذه الفئات بشكل مستمر رغم الصعوبات.

 

الجمعية التي تعمل بها فاتن تعرّضت لهجمة شديدة بسبب تركيزها على قضايا حقوق النساء، وهو نمط متزايد من التضييق على منظمات تعمل مع النساء، حيث يتم التفتيش والتحقيق بشكل مستمر في نشاطاتهم، هناك تدقيق ورقابة صارمة بكل ما يتعلق بالنساء وتمكينهن، واضطرار تغيير المصطلحات المستخدمة لتجنب إثارة الحساسية، حيث لم يعد بالإمكان تسمية المشاريع بعناوين مثل "المساواة" "تمكين النساء، أو "حقوق النساء" بل البحث عن تسميات بديلة، لتجاوز العوائق.

 

حماية المستفيدات والموظفين

 

مع اشتداد المراقبة، أصبحوا أكثر حذراً في حماية الفريق والمستفيدات، خاصة أن أي نشاط قد يتم استهدافه أو استغلاله لمهاجمة المنظمة. ورغم كل هذه الضغوط، توضح فاتن، أن "المنظمة لا تزال تحاول إيجاد طرق للاستمرار دون تعريض أحد للخطر".

 

التغيير ربما يكون محدوداً على مستوى السياسات، لكنه قوي على مستوى الأفراد. هناك نساء نجحن في إحداث تغيير حقيقي في حياتهن وحياة الآخرين. ومنهن إحدى النساء من النجف، التي بدأت كمتدربة في مشروع مدعوم من المجتمع المدني، ثم تمكنت من العمل، وخاضت الانتخابات، وفازت بدعم المجتمع المدني بمجالس المحافظات.

 

هذه التغيرات ربما لا تبدو بنيوية على مستوى الدولة، كما ترى فاتن، لكنها عميقة جداً  على المستوى الفردي، حيث أصبحت النساء اللواتي أكثر تأثيراً في محيطهن، ويواصلن نقل هذا التأثير إلى غيرهن. 

آية منصور

نُشرت في الأحد 23 مارس 2025 09:45 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.