قبل عامين بالضبط (21 آذار/مارس 2023) كانت الطالبة الروسية (تحمل الإسرائيلية كجنسية ثانية) إليزابيث تسوركوف تجري بعض الحوارات في حيّ الكرّادة المكتظّ وسط بغداد، حين اقتحمت ميليشيا مسلّحة المكان واعتقلتها. كانت تسوركوف في فترة نقاهة من عملية في الظهر أجرتها في مستشفى ببغداد قبل مدّة، وقد دخلت إلى العراق بجوازها الروسي، وحصلت على كلّ الموافقات القانونية لعملها ونشاطها المتعلّق برسالتها الجامعية في جامعة برنستون الأميركية.
نقرأ في سيرتها الذاتية لتسوركوف أنها طالبة دكتوراه، وزميلة في معهد نيولاينز للاستراتيجية والسياسة في أميركا، وقد تطوّعت في العديد من المنظمات في الشرق الأوسط لتعزيز حقوق الفلسطينيين والمهاجرين، والناجين من عمليات التعذيب وضحايا الاتجار بالبشر واضطهاد الأقليات، وعارضت في تصريحاتها الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية، والعمليات العسكرية في غزّة.
وربما لذلك كانت تظنّ أنها آمنة في حركتها داخل العراق، ولن تكون محطّ شبهات أو مخاطر محتملة، ومع ذلك هي مغيّبة منذ عامين، وعلى الرغم من تطمينات الحكومة العراقية أنها ما زالت على قيد الحياة، فإن هذا لا يجعل الصورة طبيعية.
مناسبة استذكار قصّة تسوركوف التي غطست تحت الأخبار المتلاحقة في المنطقة خلال عامين، وما عاد يذكرها الكثيرون، هي الأخبار المتضاربة التي جاءت خلال الأسبوع الماضي من مطار النجف (160 كم جنوبي بغداد)، فعلى مدى يومين تواردت أخبار عن نزول مروحيات بلاك هوك أميركية في مدرجات المطار، وقامت على الفور باعتقال أشخاص، ثم عادت إلى التحليق مبتعدة، وقيل على الفور أن العملية مرتبطة بتحرير الرهينة تسوركوف. لكن حتى ساعة كتابة المقال لم يرد ما يؤكد أن الرهينة قد حرّرت بالفعل.
من المثير أن الحكومة العراقية لم تعلّق على حادثة اقتحام الأميركان لمطار النجف، إن كان عبر سيارات الهمر العسكرية أو بطائرة بلاك هوك كما زعمت الشائعات السابقة، ولكن خطيب جمعة في النجف "صدر الدين القبانجي" أكّد الموضوع خلال خطبته، واعتبره عملاً غير مقبول.
تأتي هذه الحادثة لتفتح باب تساؤلات أوسع؛ فإن كانت الأطراف السياسية العراقية، الشيعية تحديداً، تحاول امتصاص الضغط الذي تمثله مطالبات إدارة ترامب، خشية من العقوبات المحتملة، أو ما هو أكثر؛ اجراءات مادية على الأرض، فإنها لا تملك سجلاً جيداً يوحي بأنها قادرة فعلاً على الاستجابة لمطالب الادارة الاميركية، أو على الاقل الالتفاف الآمن عليها.
تريد إدارة ترامب من الحكومة العراقية والأطراف السياسية الداعمة لها أن تفكّك الميليشيات، من بين مطالب عديدة أخرى، ولكنها غير قادرة على تحرير رهينة مختطفة لديها من سنتين، وتتحدّث عن الأمر بصيغة "التفاوض"، وكأن خطف الناس من الشارع هو أمرٌ عاديّ، وليس جريمة وخرقاً للقانون، ومن يقوم به خارجٌ على القانون يجب أن يُعتقل ويلقى في السجن.
لو قامت الميليشيا نفسها اليوم باعتقال سائحين أجانب في بغداد، وهم كثر هذه الأيام، تحت ذرائع شتّى، فهل نتوقّع أن تكون استجابة الحكومة العراقية مختلفة؟
إن سلطة ما غير قادرة على مواجهة مشكلة من هذا النوع، لن تقوم، بالتأكيد، باستجابة فعّالة تجاه المطالب الأميركية، التي قد تكون غير واقعية أو مشروعة، ولكن الطرف الذي يريد فرضها يملك عناصر قوّة من الصعب صدّها.
كل الأخبار وتصريحات بعض المسؤولين الأميركيين، والتسريبات التي يتحدّث بها بعض الصحفيين أو السياسيين العراقيين، تؤكد أن الأميركان بصدد القيام بفعل ما تجاه العراق، قد لا يكون فعلاً "قيامياً" يهزّ أركان النظام السياسي برمّته، ولكنه سيكون فعلاً مؤثراً على حياة المواطنين العراقيين، وقد يؤدي الى فتح باب الفوضى وانهيار العملة العراقية.
وكل المعضلة العراقية اليوم وجذرها الأساس يبدأ من شيء واحد؛ فشل الدولة في السيطرة على السلاح غير الشرعي، الذي تملكه فصائل وميليشيات تحت مسميّات مختلفة، وضعف المبادرة لدى الماسكين بالسلطة للقيام بشيء تجاه هذه المعضلة، مع تسارع الأحداث في المنطقة ووجود إدارة أميركية لا تنظر الى العراق على أنه دولة صديقة.