في خطوة "تهدف إلى مواجهة أزمة السيولة"، يتحرك البنك المركزي في العراق نحو إصدار عملة رقمية كبديل للعملة الورقية، في تحول قد يعيد تشكيل مشهد المدفوعات والاقتصاد الوطني بالكامل.
هذه الخطوة تأتي استجابةً لـ"التحديات المتزايدة في إدارة النقد التقليدي"، وسط توجه عالمي نحو الرقمنة المالية، لكنها تطرح العديد من التساؤلات لدى الشارع العراقي "هل ستكون هذه العملة الرقمية الحل الأمثل لإنهاء أزمة السيولة؟ وكيف ستؤثر على التعاملات المصرفية ومستقبل الاقتصاد؟".
وكان محافظ البنك المركزي علي العلاق، كشف في وقت سابق من الأسبوع الماضي، التوجه لإنشاء عملة رقمية مصرفية، لتحل محل العملات الورقية.
وقال العلاق، في كلمة خلال مؤتمر ومعرض المالية والخدمات المصرفية التاسع، إن "النظام المالي والمصرفي، سيشهد تحولات جوهرية منها انحسار العملات الورقية لتحل محلها المدفوعات الرقمية للبنوك المركزية"، مبيناً أن "البنك المركزي يتحرك لإنشاء عملة رقمية خاصة به، لتحل تدريجياً محل العملية الورقية كما يجري في بعض البنوك المركزية في العالم".
وتواجه الحكومة العراقية تحديات في إدارة السيولة النقدية بالدينار، حيث تعاني من نقص مزمن في هذه العملة، مما يؤثر على قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية لدفع رواتب الموظفين وتسديد الديون وتمويل المشاريع.
فوائد العملة من منظور حكومي
وبهذا الشأن، يقول مستشار رئيس الوزراء الاقتصادي، مظهر محمد صالح، إن "إصدار عملة رقمية وطنية سيمثل تحولاً جوهرياً في النظام المالي، إذ سيسهم في تطوير منظومة المدفوعات الرقمية وتعزيز الشفافية المالية".
وأشار صالح خلال حديثه لمنصة "الجبال"، إلى أن "هذه الخطوة ستؤدي إلى تحقيق عدة فوائد جوهرية، منها (تقليل التسرب النقدي من الاقتصاد وضبط التدفقات المالية، الحد من تداول العملة الورقية خارج النظام المصرفي، مما يعزز الشمول المالي، تقليل الحاجة إلى طباعة النقود بشكل متكرر، ما يقلل التكاليف التشغيلية لإنتاجها وتوزيعها، تعزيز الرقابة المالية عبر إمكانية تتبع تدفقات السيولة واتجاهات الإنفاق، وتحسين الرقابة على رأس المال والتحويلات الخارجية، ما يدعم جهود مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب".
ويضيف صالح، أن "العملات الرقمية ستعزز الشمول المالي، خاصة للفئات غير المندمجة مصرفياً، مما يسهم في تعزيز الاندماج الاقتصادي والاجتماعي"، موضحاً أن "نجاح الانتقال إلى نظام نقدي رقمي يتطلب بنية تحتية تقنية متطورة، تشمل (شبكات إنترنت قوية وآمنة، أنظمة أمن سيبراني متقدمة لحماية المعاملات المالية، وتعزيز القبول المجتمعي للعملات الرقمية، بدءاً من المؤسسات الحكومية عبر استخدامها في عمليات الجباية والمعاملات الرسمية".
ووفقاً لصالح فإن النقد الرقمي سيحافظ على وظائفه التقليدية كوحدة حساب ومدفوعات وادخار، مع إتاحته للاستخدام عبر الإنترنت والهواتف الذكية، مما يسهم في بناء بيئة مالية أكثر استقراراً وكفاءة.
لكن في (16 كانون الأول 2024)، أعلن البنك المركزي العراقي، عدم منح رخصة لشركات التداول بالأسهم والمعادن والعملات المشفرة، مؤكداً أنه ماض في اتخاذ كافة الإجراءات القانونية بحق الشركات الوهمية، وسط تحذيرات من وجود شركات وهمية للتداول الإلكتروني بالأسهم تدَّعي أنها مرخصة من قبل البنك.
فوائد ومنافع العملة الرقمية
وصدرت أول عملة رقمية في العالم خلال العام 2009 وهي "البتكوين"، وجاءت كرد فعل على الأزمة المالية العالمية التي أصابت النظام المصرفي الأميركي بالشلل في بداية الأمر ثم انتقلت إلى النظام المالي العالمي، حيث أدعى مؤسس العملة أن "هذه العملة تعمل بعيدا عن البنوك المركزية".
وفي مطلع العام الجاري، قالت مجلة "CEO world" الأميركية إن "العراق من ضمن عشر دول في العالم تحظر التعامل بالعملات المشفرة"، مؤكدة أنه رغم الارتفاع العالمي للعملات المشفرة، تواصل العديد من الدول فرض لوائح صارمة أو حظر صريح، وفي حين تستشهد بعض الحكومات بالاستقرار المالي ومنع الاحتيال، تثير حكومات أخرى مخاوف بشأن غسل الأموال والسيطرة الاقتصادية".
ويقول علي الفريجي، المتخصص في الشؤون المالية، إن اصدار عملة رقمية خطوة هامة نحو تحديث النظام المالي في العراق اقتصادياً ومالياً، كون هذه الخطوة يمكن أن تسهم في تعزيز الشمول المالي وتحديث نظام المدفوعات".
ووفقاً لصندوق النقد الدولي، والكلام للفريجي، يمكن للعملات الرقمية للبنوك المركزية تعزيز الشمول المالي وكفاءة الدفع في الشرق الأوسط، ما قد يقلل من تكاليف المعاملات ويزيد من سرعة التحويلات المالية، ومع ذلك يجب مراعاة أن إصدار عملة رقمية قد لا يكون الحل الوحيد لأزمة شح السيولة النقدية الناتجة عن الإسراف في الإنفاق غير المراقب أو المبرمج.
وبحسب الفريجي، فإن الفوائد المحتملة تتمحور حول تعزيز الشمول المالي وتحسين كفاءة نظام المدفوعات، بينما التحديات المتوقعة تذهب نحو البنية التحتية المصرفية غير المتزنة، والأمن السيبراني كون العملات الرقمية تحتاج أنظمة أمان متقدمة لحماية المستخدمين، فضلاً عن التوعية والتثقيف المالي.
كما أن هناك العديد من التحديات الإضافية المتوقعة مثل عدم ثقة الجمهور بالمنظومة المصرفية، إذ أن القطاع المصرفي في العراق يعاني من تدني مستوى الثقة بين المواطنين، بسبب الأزمات المالية السابقة، وتأخر تنفيذ المعاملات، وصعوبة سحب الأموال من بعض المصارف، والكلام للخبير العراقي.
تابع الفريجي حديثه قائلاً إن "مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) أشار إلى أن هناك مخاطر وتحديات يجب مراعاتها قبل إصدار عملة رقمية للبنك المركزي، بما في ذلك تحسين الوصول إلى البنية التحتية الرقمية ومعالجة المخاطر المتعلقة بخصوصية البيانات والسلامة المالية"، مضيفاً أن "مراجعة أرقام البنك المركزي العراقي أظهرت أن حجم الكتلة النقدية المصدرة وصلت إلى ما يزيد عن 102.6 تريليون دينار عراقي حتى نهاية تشرين الثاني 2023، بينما بلغ حجم رؤوس أموال المصارف العاملة في العراق حوالي 9.1 تريليونات دينار عراقي في نهاية عام 2023، ما يعني أن نسبة الأموال المودعة لا تزيد عن 8.8% من حجم الكتلة النقدية المصدرة".
ويشير الفريجي إلى أن "احتياجات الموازنة الشهرية حسب التقديرات الاقتصادية الحكومة العراقية تحتاج ما بين 18 إلى 20 تريليون دينار شهرياً لتغطية نفقات الموازنة، مع عدم توفر سيولة مالية كافية لتلبية هذا الاحتياج"، مضيفاً أن "هذه الأرقام تشير إلى وجود تحديات كبيرة في توفير السيولة النقدية اللازمة لتلبية احتياجات الموازنة والنظام المالي في العراق".
وفي العام 2018، أصدرت هيئة الفتوى العليا التابعة لحكومة إقليم كوردستان حكماً ضد "One Coin"، مما عزز موقف البلاد الحذر تجاه الأصول الرقمية، إلا أن تجارة العملات المشفرة غير الرسمية تتواصل في العراق رغم القيود المفروضة عليها.
إصدار العملة الرقمية لن تحظى بالقبول
واتخذت الحكومة العراقية قراراً بتغيير سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الأميركي، في العام 2020، حيث تم تعديل السعر من 1182 ديناراً للدولار الواحد إلى 1450 ديناراً للدولار الواحد.
وأثار هذا القرار استياء شعبياً واسعاً، خاصة بعد أن شهدت أسعار المواد الغذائية وجميع السلع في الأسواق ارتفاعاً ملحوظاً، كما ثبت هذا التغيير في الموازنة الاتحادية التي أقرها مجلس النواب العراقي في 31 آذار 2021.
وتأتي خطوة البنك المركزي هذه بشأن "العملات الالكترونية"، في إطار مواكبة التطورات العالمية في النظام المالي، حيث تسعى الدولة إلى اعتماد العملات الرقمية بشكل رسمي ومنظم، على غرار العملات العالمية مثل "البيتكوين".
وفي هذا السياق، يرى الخبير الاقتصادي عبد العادل ناعم، أن "العملة الرقمية رغم وجودها بشكل غير رسمي، ستكون أكثر فاعلية إذا طُبّقت ضمن إطار قانوني ونظام مالي محكم".
وذكر ناعم في حديث خاص لمنصة الجبال أن "النظام المصرفي العراقي لا يزال في مراحل تطوره الأولى، خاصة بعد اعتماد توطين الرواتب والتوسع في استخدام التحويلات المالية وأجهزة الصراف الآلي ونقاط البيع (POS)".
يتحدث ناعم عن أن "العملة الرقمية قد تكون مفيدة لبعض الشرائح، لكنها لن تحظى برواج وقبول واسع في العراق في الوقت الحالي، نظراً لعدم استقرار سعر صرف الدولار، والظروف الاقتصادية الحرجة التي يمر بها البلد"، مؤكداً أنه "من غير الممكن استبدال العملة الورقية بشكل كامل بالعملة الرقمية في ظل التحديات الراهنة".
وختم الخبير الاقتصادي العراقي، حديثه للجبال مشدداً على "ضرورة تعزيز البنية التحتية المصرفية قبل الانتقال إلى هذا النوع من التعاملات المالية".
وقبل أيام قليلة، حذر مصرفا "الرافدين والرشيد"، من استخدام أدوات الدفع الإلكتروني في تداول "العملات الرقمية والفوركس"، فيما أكدا أن القرار جاء تماشياً مع توجيهات البنك المركزي العراقي، ودعيا الزبائن إلى الامتناع عن استخدام أدوات الدفع الإلكتروني، بما في ذلك البطاقات والمحافظ الإلكترونية.