في مشهد سياسي متوتر يعكس احتدام الصراع على مراكز النفوذ، تشهد الحكومات المحلية في العراق موجة متسارعة من الإقالات والتغييرات والمشاحنات التي تهدف لإعادة رسم خارطة التوازنات داخل المجالس المحلية، يبدو أن الأحزاب والقوى المتنفذة تخوض معركة شرسة لإعادة ترتيب أوراقها، مستغلة المناصب الإدارية كأدوات لتعزيز وجودها وترسيخ نفوذها، وبينما تتخذ هذه التحركات طابعاً قانونياً وإدارياً في الظاهر، إلا أن ما يجري في الكواليس يكشف عن صراع أعمق تحكمه المصالح السياسية والتنافس على السلطة، في زاوية تعكس اضطراب التوازنات داخل المنظومة الحاكمة وتغير قواعد اللعبة وفقاً لمتغيرات المرحلة ومتطلبات السيطرة.
صراع الهيمنة والقوة
وتتواصل الإقالات وإعادة الترتيب في المناصب، وسط صراع متزايد بين القوى السياسية الساعية لتعزيز نفوذها في الحكم المحلي، فمن بغداد إلى نينوى وديالى وكركوك وذي قار، تتكرر سيناريوهات الإطاحة برؤساء المجالس والمحافظين، ما يعكس معركة مفتوحة بين الأحزاب والتحالفات المتنافسة، في ظل تغيرات متسارعة في خارطة التحالفات السياسية.
وفي نفس المشهد الذي يعكس وجود هذه الصراعات، صوّت المجلس على إقالة رئيسه عمار القيسي، بعد عدم اقتناع الأغلبية بأجوبته خلال جلسة استجوابه، ولم يكد الغبار يهدأ حتى عُقدت جلسة جديدة، انتُخب خلالها عمار الحمداني رئيساً جديداً للمجلس، في خطوة تشير إلى رغبة قوى سياسية نافذة في إعادة توزيع المناصب لصالحها وتعزيز سيطرتها على قرارات العاصمة.
كما أصدر مجلس محافظة بغداد، يوم الأحد الماضي، أمراً إدارياً يقضي بإحالة المحافظ عبد المطلب علي يوسف، إلى التقاعد بحجة بلوغه السن القانونية، في حين أعلن فتح باب الترشح لمنصب المحافظ في نفس الوقت.
وعقب إصدار القرار المفاجئ، تحدى محافظ بغداد يوسف المجلس، قائلاً إن "قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم المعدل لم يحدد سناً معيناً لإحالة المحافظ إلى التقاعد".
وبعد 3 أيام لا غير، أصدرت محكمة القضاء الإداري، أمراً ولائياً بإيقاف تنفيذ إجراءات إقالة المحافظ من منصبه، وبحسب وثيقة صادرة عن القضاء، فإنهم قرروا إيقاف تنفيذ الأمر الإداري رقم (11 لسنة 2025) بالعدد (11) بتاريخ 2/2/2025 والصادر من رئيس مجلس محافظة بغداد.
لم يكن المشهد في محافظة نينوى أقل اضطراباً، حيث كشفت مصادر عن وجود تحركات لإعادة ترتيب الخارطة السياسية داخل المجلس، تحالف "نينوى المستقبل"، الذي كان يضم 16 عضواً، بدأ يواجه انشقاقات محتملة مع ظهور توجهات جديدة داخل بعض أعضائه، بمن فيهم المنتمون إلى الإطار التنسيقي.
هذا التحرك وفقاً للمراقبين، قد يفتح الباب أمام تحالفات جديدة تغير موازين القوى داخل المجلس، مما يزيد من حالة الترقب بشأن مستقبل الإدارة المحلية للمحافظة.
اما الصراع السياسي في ديالى فلا يزال مفتوحاً، حيث أفادت مصادر سياسية لمنصة "الجبال"، بأن هناك تحركات جديدة تهدف إلى إقالة رئيس المجلس عمر الكروي، فبعد محاولات سابقة لم تنجح في عزله، تشهد المحافظة اجتماعات ومباحثات مكثفة بين عدة كتل سياسية تسعى لحشد الأصوات اللازمة للإطاحة به في مؤشر على استمرار معركة السيطرة بين القوى المتنافسة داخل المحافظة.
وفي كركوك، فالوضع السياسي يبدو أكثر تعقيداً، حيث أكدت عضو مجلس المحافظة سلوى المفرجي، الأمر في تصريح صحفي، أن المجلس معطل منذ شهرين، بسبب عدم اكتمال مشاركة جميع الأطراف السياسية. ووصفت المشهد السياسي في المحافظة بـ "الأعرج"، في إشارة إلى غياب التوافق بين المكونات، مما يعرقل اتخاذ القرارات ويفتح الباب أمام مزيد من التجاذبات بين الأحزاب المتنافسة على النفوذ.
وفي الجنوب، تصاعدت الأزمة السياسية داخل مجلس محافظة ذي قار، حيث صوّت المجلس على عدم القناعة بأجوبة المحافظ مرتضى الإبراهيمي، بعد جلسة استجواب ساخنة شهدت محاولات لكشف تفاصيل إدارته للحكومة المحلية، إلا أن هذه الخطوة تمهد لإقالته قريباً على ما يبدو، مع استمرار الحراك داخل المجلس لإعادة ترتيب المشهد الإداري وفقًا لمصالح القوى المتنافسة.
الصراع السياسي سيتواصل
ويقول عقيل الرديني، القيادي في ائتلاف النصر المنضوي تحت جناح الإطار التنسيقي، إن "التغييرات الأخيرة التي شهدتها مجالس المحافظات، من إقالات للمحافظين ورؤساء المجالس، تعكس استمرار الصراع على المصالح الحزبية والمناطقية، بعيداً عن أي مساعٍ حقيقية لبناء ديمقراطية راسخة في البلاد".
ووفقاً لحديث الرديني، لمنصة "الجبال"، فإن ما يجري اليوم داخل الحكومات المحلية ليس خلافاً على البرامج السياسية أو المشاريع التنموية التي تخدم المواطنين، بل هو صراع على المكاسب الحزبية والنفوذ السياسي، مشيراً إلى أن الاتفاقات التي تقوم عليها هذه المجالس في الغالب تُبنى على أسس المحاصصة والمصالح الضيقة، وليس على أسس مهنية أو وطنية.
ويضيف الرديني، أن "الأحزاب السياسية باتت تركز بشكل متزايد على تعزيز سلطتها، على حساب بناء الدولة ومؤسساتها"، معتبراً أن "هذا التوجه يشكل خطراً حقيقياً على العملية الديمقراطية في العراق".
وفيما يتعلق بمستقبل المشهد السياسي في الحكومات المحلية، توقع الرديني، استمرار الصراعات السياسية داخل مجالس المحافظات، خاصة بين القوى المتنفذة التي تملك الأغلبية، مؤكدًا أنه "في ظل غياب مشروع وطني جامع يرتكز على التنمية والإصلاح الحقيقي، فإن هذه الخلافات ستظل مستمرة، مما يؤدي إلى مزيد من الأزمات السياسية والإدارية في المحافظات".
في مطلع شباط من العام 2024، بدأت مجالس المحافظات في العراق، العمل على ممارسة جميع الصلاحيات الممنوحة لها من رقابة وتشريع.
وانتُخبت مجالس المحافظات الحالية تحديداً في (18 كانون الأول 2023)، والتي أعلنت المفوضية نتائجها النهائية في 28 كانون الأول من نفس العام، ثم صدّق عليها مجلس المفوّضين في 21 كانون الثاني من العام الماضي.
"فلترة" لمناصب الكتل السياسية
في المقابل، يقول مخلد حازم، مستشار المركز العربي للشؤون السياسية في حديث لمنصة "الجبال"، إن "مجالس المحافظات هي حلقة زائدة لا يمكن أن تكون منتجة، وهي تهلك الموازنة المالية للدولة العراقية"، مضيفاً أن "الإصرار على إعادة مجالس المحافظات خلق مشهداً سياسياً متوتراً تخللته عمليات شد وجذب أثناء تشكيل هذه المجالس واختيار رؤسائها ومحافظيها".
وأشار حازم إلى أن "ما جرى في تشكيل الحكومات المحلية لم يكن قائماً بالكامل على الاستحقاقات الانتخابية الفعلية، بل تأثر باتفاقات سياسية سابقة، وهو ما أدى إلى توزيع المناصب وفق تفاهمات غير مستندة إلى حجم المقاعد الفعلية التي حصلت عليها القوى المختلفة".
وتابع حديثه قائلاً إن "تغييرات بدأت تطرأ على خارطة التحالفات، مما أدى إلى إعادة (فلترة) الاستحقاقات الانتخابية، وهو ما انعكس مؤخراً في تغيير رئيس مجلس محافظة بغداد، وقد يشمل هذا التغيير خلال الأيام القادمة محافظين أو رؤساء مجالس محافظات أخرى".
هذه التحركات السياسية، والكلام لحازم، لا تصب في مصلحة العملية الديمقراطية، إذ تم القفز على بعض الاستحقاقات بعد تشكيل المجالس، لكن مع وضوح ملامح التحالفات الجديدة، قد يكون المشهد الحالي مقدمة لمرحلة سياسية مختلفة في الفترة المقبلة.
وتعد مجالس المحافظات في العراق بمثابة السلطة التشريعية والرقابية في كل محافظة، حيث لهذه المجالس المنتخبة الحق في إصدار التشريعات المحلية، بما يمكنها من إدارة شؤونها وفق مبدأ اللامركزية الإدارية، دون أن يتعارض ذلك مع الدستور والقوانين الاتحادية التي تندرج ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات.
صراع يمهد للانتخابات التشريعية
وفي هذا الشأن، يرى رئيس مركز الهدف السياسي، مهند جواد، أن "انتخابات مجالس المحافظات كانت قضية مربكة لكثير من الأحزاب، حيث شهدت تنافساً حاداً بين القوى السياسية الكبرى".
ويوضح جواد في حديث لمنصة "الجبال" أن "بعض المحافظين تمكنوا من الاحتفاظ بمناصبهم في أكثر من ثلاث محافظات، وهو ما لم يرق للأحزاب الكبيرة المتنفذة التي كانت تسعى لإعادة ترتيب خارطة النفوذ السياسي"، مبيناً أن "العامل الأول وراء تصاعد الصراعات الحالية هو النتائج غير المرضية لبعض الكتل السياسية المتنفذة، التي لم تحقق ما كانت تطمح إليه في الانتخابات المحلية، ما دفعها إلى إعادة التفاوض والضغط لإجراء تغييرات على مستوى المحافظين ورؤساء المجالس".
ووفقاً لجواد، فإن العراق مقبل على انتخابات نيابية وهي محطة سياسية حساسة تحتاج إلى تمهيد مسبق، وأموال، ونفوذ، وهو ما يدفع بعض الأحزاب إلى إعادة رسم الخارطة السياسية داخل مجالس المحافظات لضمان مواقع تخدم مصالحها في الانتخابات البرلمانية المقبلة.
ويضيف جواد أن "مجالس المحافظات لا يمكن فصلها عن مجلس النواب"، مشيراً إلى أن "التغييرات الجارية في الحكومات المحلية تأتي في إطار التحضير للانتخابات النيابية المقبلة، إذ تسعى بعض القوى السياسية إلى السيطرة على مناصب تمكنها من تعزيز نفوذها والوصول إلى البرلمان".
أما العامل الثالث، فيتعلق بطبيعة التوافقات بين الكتل السياسية، بحسب جواد، الذي مضى بحديثه قائلاً: "إن الاتفاقات التي تُبرم في بداية تشكيل المجالس غالباً ما تشهد انقلابات أو تنصلاً من بعض الأطراف عندما تتغير المصالح، مما يؤدي إلى تفجر الخلافات التي كانت مستترة لتظهر إلى العلن مع مرور الوقت".
واختتم جواد حديثه بالتأكيد على أن "هذه الصراعات لن تتوقف في الوقت الحالي، بل ستبقى متصاعدة كلما اقترب موعد الانتخابات النيابية، في ظل سعي القوى السياسية إلى تثبيت مواقعها وتعزيز نفوذها في مختلف مفاصل الدولة".
وفي العام 2019، صوّت مجلس النواب العراقي على مجالس المحافظات وإنهاء عملها، إثر الضغوط الشعبية التي رافقت تظاهرات تشرين، الأمر الذي أجبر البرلمان على الرضوخ لمطالب المتظاهرين في ذاك الوقت.
وتشير مصادر من داخل مفوضية الانتخابات، إلى أن الإطار التنسيقي حصل على 101 مقعد على الأقل من 285 مقعداً متاحاً في انتخابات مجالس المحافظات التي جرت قبل أكثر من عام.