في ظل أزمة السيولة.. لماذا لا يلجأ العراق إلى طباعة المزيد من العملة؟

10 قراءة دقيقة
في ظل أزمة السيولة.. لماذا لا يلجأ العراق إلى طباعة المزيد من العملة؟ عملة عراقية (فيسبوك)

يُعاني العراق من تحديات متزايدة بسبب شح السيولة النقدية، ما ينعكس سلباً على الأسواق والمعاملات المالية اليومية، وبينما يبحث البعض عن حلول سريعة لتجاوز هذه الأزمة، ليبقى خيار طباعة المزيد من العملة المحلية مثيراً للجدل، نظراً لما قد يترتب عليه من تداعيات اقتصادية خطيرة.

 

وتواجه الحكومة العراقية تحديات في إدارة السيولة النقدية بالدينار، حيث تعاني من نقص مزمن في هذه العملة، مما يؤثر على قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية لدفع رواتب الموظفين وتسديد الديون وتمويل المشاريع.

 

وشهد العراق منذ تسعينيات القرن الماضي، وتحديداً خلال فترة الحصار الاقتصادي، تضخماً مفرطاً في عملته الوطنية (الدينار)، هذا الوضع دفع النظام الحاكم آنذاك إلى اتخاذ قرار بطباعة العملة محلياً.

 

وعقب عام 2003، جرى التخلص من العملة المتداولة سابقاً، وإصدار فئات جديدة بتصاميم محدثة، كما تم تثبيت سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الأميركي بناءً على قرار الحاكم المدني للعراق آنذاك بول بريمر، الذي أعلن بدوره عن تفاصيل العملة الجديدة وسعر صرفها الرسمي.

 

ويمتلك العراق حالياً مجموعة من الفئات الورقية التي تلبي مختلف التعاملات اليومية، بدءاً من الفئات الصغيرة مثل 250 و500 و1,000 دينار، وصولاً إلى الفئات الأكبر مثل 5,000 و10,000 و25,000 وحتى 50,000 دينار التي تُستخدم في المعاملات الكبرى.

 

أين تطبع العملة العراقية؟

وفي (19 كانون الثاني 2025)، كشف البنك المركزي العراقي عن علامات أمنية جديدة عن الأوراق النقدية المتداولة، وذلك بهدف الحدّ من عمليات التزوير وحماية العملة الوطنية.

 

وقد قام البنك المركزي، بحسب المراقبين الاقتصاديين، بتضمين هذه العلامات في الأوراق النقدية الجديدة لتوعية الجمهور والشركات والمصارف على حد سواء.

 

وتحدث مصدر في البنك المركزي العراقي، عن تفاصيل تتعلق بعملية طباعة الأوراق النقدية العراقية، مشيراً إلى أن "العملة كانت تُطبع في السابق في سويسرا، إلا أن الطباعة تتم حالياً في المعهد البريطاني في لندن" الذي يُعد من أبرز المؤسسات المتخصصة في طباعة العملات عالمياً.

 

وفي حديث لمنصّة "الجبال"، أوضح المصدر، أن "الأوراق النقدية العراقية يتم تصنيعها وفق مواصفات عالية الجودة، تهدف إلى منع تلفها بسرعة وضمان قدرتها على تحمل الاستخدام اليومي لفترات طويلة، وذلك من خلال استخدام مواد وتقنيات حديثة تزيد من عمرها الافتراضي".

 

ووفقاً لذات المصدر، فإن "تكلفة طباعة الورقة النقدية الواحدة تتراوح بين 4 و5 سنتات أميركية، وهي تكلفة تشمل استخدام أحدث تقنيات الأمان لمنع التزوير، مثل العلامات المائية والأحبار المتغيرة بصرياً والخيوط الأمنية.

 

في المقابل، يؤكد البنك المركزي، أن عمليات طباعة العملة تخضع لمعايير صارمة لضمان جودتها ومتانتها، كما يتم تحديث تصميم الأوراق النقدية بين فترة وأخرى وفق الاحتياجات الفنية والأمنية، لضمان حماية العملة من التزوير وتحسين خصائصها التكنولوجية".

 

خيار مطروح على طاولة الحكومة

إلى ذلك، يقول مظهر محمد صالح، المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي، إن "تمويل العجز في الموازنة العامة عبر الإصدار النقدي يعد من الأنماط الحذرة، إلا أنه يبقى خياراً ممكناً في ظل توفر احتياطيات أجنبية عالية، قادرة على تغطية عرض النقد من العملة الوطنية بنسبة لا تقل عن 75%".

 

ويضيف صالح، خلال حديثه لمنصّة "الجبال"، أن "اللجوء إلى هذا الأسلوب يكون مؤقتاً ودورياً، حيث أن 40% إلى 50% من النقد المصدر موجه نحو التعاملات الداخلية، وليس فقط للمعاملات الخارجية، مما يجعله خياراً متاحاً عند الحاجة، شريطة أن تبقى نسبة التغطية مرتفعة وفق المعايير المذكورة".

 

ويتابع صالح، حديثه قائلاً: إن "السياسة النقدية في العراق تسير وفق معايير متوازنة مع السياسة المالية، وتنسجم مع دورة الأصول النفطية، ففي حال هبوط أسعار النفط إلى مستويات متدنية، يمكن اللجوء إلى تمويل العجز عبر الاقتراض من المصارف وخصم الاقتراضات لدى سلطة الإصدار النقدي، شرط الحفاظ على معادلة التغطية حتى انتهاء دورة انخفاض الأسعار".

 

ويشير صالح، إلى أن "انخفاض أسعار النفط إلى ما دون قيمته الحقيقية في أسواق الطاقة ليس أمراً غير مألوف، ويحدث أحياناً، مما يستوجب التعامل معه بآليات نقدية ومالية متوازنة لضمان استقرار الاقتصاد الوطني".

 

يذكر أن البنك المركزي العراقي قد أصدر، في العام 2018، طبعة ثانية من الأوراق النقدية للفئات (25000، 10000، 1000، 500، 250).

 

وسبق أن قام المركزي أيضاً في العام 2013 بإضافة بعض التحديثات الفنية والتقنية على إصدارية 2003 لجميع أنواع العمل المحلية عدا فئة (50) ديناراً التي سحبت بعدها من التداول في العام 2015، في حين أصدر في نهاية 2015 فئة (50000) دينار ليكمل السلسلة الحالية المتداولة.

 

سلبيات وإيجابيات الطباعة

وفي هذا الصدد، يقول الخبير المالي جليل اللامي، خلال حديثه لمنصّة "الجبال"، إن "مسألة طباعة العملة المحلية تُعد من أكثر السياسات الاقتصادية حساسية، نظراً لتأثيرها المباشر على الاستقرار المالي والاقتصادي في البلاد".

 

العراق، والكلام للامي، يواجه أحياناً أزمات سيولة نقدية بسبب التحديات الاقتصادية والسياسية، يمكنه من الناحية الفنية اللجوء إلى طباعة العملة لسد العجز، لكن ذلك لا يعتمد فقط على القدرة التقنية، بل يخضع لمحددات اقتصادية معقدة مثل مستوى الاحتياطي النقدي الأجنبي، السياسة النقدية للبنك المركزي العراقي، والاستقرار الاقتصادي العام.

 

ويضيف اللامي، أن "البنك المركزي العراقي، باعتباره الجهة الوحيدة المخولة بإصدار العملة، يلتزم بمعايير صارمة لضمان عدم الإضرار بالاقتصاد الوطني"، محذراً من "التوسع النقدي غير المدروس، الذي قد يؤدي إلى عواقب اقتصادية وخيمة".

 

وحول إيجابيات طباعة العملة، استعرض اللامي بعض الإيجابيات المحتملة لطباعة العملة، ومنها توفير سيولة نقدية سريعة، الأمر الذي يساعد في تمويل الرواتب والمشاريع وسداد الالتزامات العاجلة، فضلاً عن دعم الاقتصاد في الأزمات مثل الحروب أو الأوبئة، بالإضافة إلى تحفيز الطلب المحلي من خلال زيادة المعروض النقدي".

 

وعن سلبيات طباعة العملة، يرى اللامي، أنها قد تؤدي إلى التضخم المفرط حيث أنه عندما يتم إصدار النقد دون غطاء اقتصادي حقيقي، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار بشكل غير منضبط، فضلاً عن فقدان الثقة في العملة الوطنية، بالإضافة إلى تدهور سعر الصرف نتيجة زيادة المعروض النقدي دون دعم اقتصادي كافٍ، كما يمكن أن تتسع الفجوة بين الأجور والأسعار.

 

واقترح اللامي، عدداً من الحلول المستدامة التي يمكن أن تساعد العراق في مواجهة أزمات السيولة دون اللجوء إلى طباعة العملة، ومنها "إصلاح النظام الضريبي من خلال تحسين جباية الضرائب وتقليل التهرب الضريبي لزيادة الإيرادات الحكومية وتنويع مصادر الدخل بالإضافة إلى الاقتراض الداخلي والخارجي وتقليل النفقات غير الضرورية".

 

ومن المقترحات الأخرى، بحسب اللامي، "تعزيز الاستثمار الأجنبي وإصلاح القطاع المالي والمصرفي".

 

وكان محافظ البنك المركزي السابق مصطفى مخيف، أعلن في عام 2022، أن "البنك يعمل على إكمال فئة جديدة بقيمة 20 ألف دينار بناء على دراسة وأبحاث مقارنة مع دول الجوار، ويعمل على استكمال شكل الورقة وخلال الأيام المقبلة سوف يتم الإعلان عنها".

وتحدث في حينها أيضاً عن "قضية حذف الأصفار من العملة المحلية"، وأكد أن "عملية حذف الأصفار من العملة تحتاج إلى تشريع قانون، وإجراء بعض التعديلات".

 

أرقام وإحصائيات

واتخذت الحكومة العراقية قراراً بتغيير سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الأمريكي، في العام 2020، حيث تم تعديل السعر من 1182 ديناراً للدولار الواحد إلى 1450 ديناراً للدولار الواحد.

 

وقد أثار هذا القرار استياءً شعبياً واسعاً، خاصة بعد أن شهدت أسعار المواد الغذائية وجميع السلع في الأسواق ارتفاعاً ملحوظاً، كما ثبت هذا التغيير في الموازنة الاتحادية التي أقرها مجلس النواب العراقي في 31 آذار 2021.

 

وتشير بيانات الخبير الاقتصادي نبيل التميمي، إلى أن طباعة أي عملة تسهم بشكل واضح في زيادة التضخم، حيث يؤدي ارتفاع حجم النقد المتداول إلى ارتفاع الأسعار، ولهذا تحرص الدول على تجنب طباعة الأموال لسد العجز في موازنتها إلا بنسب محدودة ومدروسة، تحاول من خلالها تحقيق التوازن بين حجم التداول النقدي والنشاط الاقتصادي، أي الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يعرف بالتضخم الطبيعي.

 

ويتابع التميمي، في حديثه لمنصّة "الجبال"، قائلاً: "وفي بعض الحالات، قد تلجأ السلطات النقدية إلى سحب جزء من النقد وتجفيف الأسواق للسيطرة على التضخم، رغم التباطؤ الاقتصادي الذي قد ينتج عن ذلك".

 

ووفقاً للتميمي، فإن "زيادة حجم الطباعة تؤدي إلى ارتفاع الطلب على العملة الصعبة، خاصة في الدول التي تعتمد على استيراد السلع والخدمات مثل العراق، فكلما زاد النقد المحلي المتداول بالدينار، ارتفع الإنفاق الاستهلاكي، ومعظم هذا الإنفاق يذهب إلى سلع وخدمات مستوردة تُسدّد قيمتها بالعملة الأجنبية، مما يؤدي إلى ارتفاع الطلب على الدولار".

 

في ظل سوق حُرّ، والكلام للتميمي، "قد يؤدي ذلك إلى تقلبات في سعر الصرف، أما في حالة تدخل البنك المركزي من خلال مزاد العملة، فإن حجم المبيعات اليومية سيرتفع للحفاظ على الاستقرار النقدي". وتشير البيانات إلى أن مبيعات البنك المركزي العراقي من الدولار وصلت إلى ما يقارب 300 مليون دولار يومياً، مقارنةً بنحو 180 مليون دولار يومياً في السنوات السابقة.

 

ويضيف، أن "البنك المركزي العراقي يعتمد في احتياطياته من العملة الأجنبية على إيرادات الحكومة الناتجة من بيع النفط، والتي تتغير وفقاً لتقلبات السوق النفطية، حيث يتراوح الاحتياطي بين 50 و100 مليار دولار، ولضمان الاستقرار النقدي يجب أن تُبنى حسابات البنك المركزي على أساس الحد الأدنى من الاحتياطي أي 50 مليار دولار، لتغطية الاستيرادات وضبط الطلب المحلي على العملة الصعبة عند هذا المستوى تقريباً".

 

وختم التميمي، حديثه قائلاً "شهدت الفترة من 2003 إلى 2019 سياسة نقدية متزنة نسبياً فيما يتعلق بطباعة العملة، حيث بلغ إجمالي النقد المصدّر خلال هذه الفترة حوالي 55 تريليون دينار، إلا أن السياسة النقدية خلال عامي 2020 و2021 أدت إلى تضخم واضح، مع مضاعفة حجم النقد المصدر ليصل إلى أكثر من 100 تريليون دينار. وقد انعكس ذلك على ارتفاع ملحوظ في الأسعار، حيث بلغ معدل التضخم نحو 15%".

 

وقبل سنوات عديدة، قال مدير الإصدار في البنك المركزي إحسان الياسري، إن "المركزي العراقي يطبع ألف ورقة من فئة 25 ألف دينار في أرصن الشركات العالمية بتكلفة أقل من 60 دولاراً"، مشيراً إلى أن "البنك لن ينفق سيولة مالية كبيرة لطبع الفئات النقدية الجديدة، لأن كلفتها قليلة".

 

 

رامي الصالحي صحفي

نُشرت في السبت 8 فبراير 2025 04:31 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.