أغنام على طريق شارع البياع، بجوار شقق حي السلام (حي صدام) سابقاً، روائح دماء الحيوانات وفضلاتها تنتشر على طول المسافة والمذبح أو المجزر هو الرصيف المخصص للمشاة.
تغطي المواطنة أم حسن البالغة من العمر 40 عاماً والتي تسكن بمنطقة شقق البياع في العاصمة بغداد، كامل وجهها وتشدد الغطاء على الفم والأنف حين تغادر شقتها. ويعود سبب ذلك الى الروائح الكريهة التي تنبعث من مخلفات مجازر الذبح العشوائي للحيوانات، حيث اتخذ بعض أصحاب هذه المجازر من هذه المنطقة السكنية موقعاً لعملهم دون أدنى شعور بالمسؤولية أو خوف من الجهات الرقابية.
في منطقة طريق البياع، تنتشر الأغنام والأبقار بشكل لافت، وتنبعث روائح الدم ومخلفات ذبح المواشي بشكل يزكم الأنوف وينذر الأهالي بمخاطر صحية وكوارث بيئية، فشلت الجهات المعنية منذ سنوات بمعالجتها وإيجاد حلول مناسبة لها، على الرغم من كثرة الشكاوى بخصوصها.
ونوهت أم حسن إلى "إصابة بعض المواطنين بأمراض مختلفة جراء الروائح الكريهة ومخلفات ذبح الأبقار والأغنام"، مشيرة ، إلى أن "بعض المواطنين حين يئسوا من إيجاد حل حكومي لمشكلة الذبح العشوائي اضطروا إلى ترك منازلهم والانتقال إلى مناطق أخرى من بغداد".
بدوره، أكد المواطن رحيم طعمة علي 43 عاماً، في حديث لمنصة "الجبال" أن "وجود مجزرة الذبح العشوائي بطريق البياع، في منطقة مأهولة بالسكان، أدى إلى انخفاض كبير في أسعار الشقق"، مبيناً أن "لا أحد يغامر بشراء شقة في هذه المنطقة في ظل التهديد الصحي والبيئي الذي يسببه الذبح العشوائي".
وانتشرت مجازر ومحال الذبح العشوائي في العديد من مناطق بغداد والمحافظات الأخرى بعد عام 2003 كغيرها من العشوائيات، وتسببت بموت مئات المواطنين سنوياً جراء الإصابة بأمراض شتى، أبرزها مرض الحمى النزفية الذي انتشر في العراق بشكل كبير خلال الأعوام الأخيرة.
ويفسر معنيون انتشار ظاهرة الذبح العشوائي بقلة أعداد المجازر الصحية في العراق.
مدير قسم الوبائيات في دائرة البيطرة التابعة لوزارة الزراعة، ثائر الأسدي، قال في تصريح خاص للجبال: "بسبب قلة المجازر الرسمية في العراق وضعف الرقابة الحكومية، اتخذ بعض أصحاب المجازر ومحال الذبح العشوائي مواقع لهم بالقرب من المناطق السكنية، ومنها المجزرة الواقعة على طريق البياع في جانب الكرخ من العاصمة بغداد "، مبيناً أن "هذه الظاهرة تسببت بالكثير من الأمراض، وأخطرها مرض الحمى النزفية".
وأضاف أن "مسؤولية متابعة هذه المجازر تقع على عاتق وزارة البيئة وأمانة بغداد ودوائرها البلدية والجهات الأمنية"، لافتاً إلى أن "وزارة الزراعة تراقب هذه الظاهرة باستمرار وترفع التقارير باستمرار بشأنها".
أكد الأسدي أن "مرض الحمى النزفية يعد من الأمراض الانتقالية، اذ ينقل فايروس هذا المرض نوع من أنواع القراد يسمى (الهايلوما) إلى الحيوانات التي تنقله بدورها إلى البشر القريبين من الحيوانات مباشرة، أو عن طريق التماس مع سوائل الحيوانات كالحليب والدم، وهذه جميعها تعد وسائل انتقال إلى البشر"، مشيراً إلى أن "من الممكن انتقال هذا المرض من إنسان لآخر عن طريق تلوث الإبر ودم المصاب".
ولفت مدير قسم الوبائيات إلى أن "دائرة البيطرة بوزارة الزراعة، دأبت سنوياً لإقامة حملتين ربيعية وخريفية لرش الحيوانات من أبقار وجواميس وتغطيس الأغنام والماعز"، منوهاً إلى أن "أعداد الإصابات بالحمى النزفية في العراق كانت قليلة منذ عام 1979، وتراوحت بين 5 إلى 10 إصابات سنوياً بين البشر في تلك الأعوام".
وتابع: "أعداد الإصابات سجلت ارتفاعاً ملحوظاً في العراق، بلغت عام 2022 نحو 380 إصابة، فيما بلغت 587 إصابة خلال العام الماضي"، مؤكداً "انخفاض أعداد الإصابات قليلاً هذا العام، بعد رش الحيوانات بالمبيدات وتغطيسها بالمياه للقضاء على القراد وقطع سلسلة المرض ومنع وصوله إلى الإنسان".
وذكر الأسدي أن "الإصابات بمرض الحمى النزفية، لم تتجاوز 126 إصابة هذا العام، وأن جهود وزارة الزراعة مستمرة لمكافحة المرض الخطير"، لافتاً إلى أن "الإجراءات التي تتخذها الدوائر البيطرية للحد من مرض الحمى النزفية، تكمن في رش البؤرة المرضية والمنطقة المحيطة بها إلى مسافة 15 كلم بالمبيدات، وتعاد هذه العملية بعد 14 يوماً، إضافة إلى منع حركة الأغنام والحيوانات من البؤرة المرضية إلى المناطق الأخرى، ومخاطبة رؤساء السلطات الإدارية في المحافظات التي تظهر فيها إصابات لتشكيل لجنة للسيطرة على المرض".
تصل مخلّفات الذبح العشوائي في المناطق السكنية إلى مئات الأطنان، وخاصة في الأعياد والمناسبات الدينية.
واقتصر دور أمانة بغداد، وهي إحدى الجهات الرقابية المسؤولة عن هذه الظاهرة، على القيام بجولات تفتيشية فقط، دون اتخاذ إجراءات قانونية بحق المخالفين.
وحسب مدير العلاقات والإعلام في أمانة بغداد، محمد الربيعي، فإن "معالجة مجازر الذبح العشوائي مسؤولية مشتركة بين عدد من الجهات الحكومية، واعترف الربيعي في تصريحات سابقة بـ "عدم معالجة هذه الظاهرة حتى الآن في مركز العاصمة بغداد"، مبيناً أنه "تم العمل على رفع بعض مواقع الذبح العشوائي بالتعاون مع دائرة البيطرة، من خلال حملات متابعة تتم بفترات زمنية متباعدة".
شدد الربيعي على ضرورة أن "تكون هناك حملات منظمة ومجدولة، يستخدم فيها أسلوب المتابعة والعقوبات الرادعة من قبل دائرة البيطرة وقيادة عمليات بغداد"، لافتاً إلى أن "أمين بغداد وجه بتطبيق توجيهات رئيس مجلس الوزراء بمراعاة الجمال والذوق العام في العاصمة بغداد".
وقلل أعضاء في مجلس النواب من قدرة الإجراءات الحكومية على ردع المخالفين من أصحاب محال ومجازر الذبح العشوائي.
وأكد عضو لجنة الصحة في البرلمان العراقي باسم الغرابي، في حديث لـ"الجبال" أن "الحمى النزفية غير متفشيه بصورة كبيرة وأن الإصابات هذا العام أقل من العام السابق".
يضيف الغرابي أن "الرعي والجزر العشوائي في الشوارع، يتطلب حملة إرشادية وإجراءات علاجية من قبل وزارة الصحة العراقية التي لديها معلومات كاملة عن الحمى النزفية، كما أن بروتوكول العلاج متوفر ويتم القضاء على حشرة القراد من خلال المبيدات وتغسيل وتغطيس الأغنام وغيرها".
وتسبب الذبح العشوائي فى زيادة المصادر المؤثرة في التلوث البيئي، نتيجة مخلفات الذبائح من الدم والجلد والقرون والعظام والحوافر والأجزاء التي لا تصلح للاستخدام البشري، ومحتويات الصوف والشعر التي تحدث تلوثاً للمياه السطحية والجوفية والتربة، بحسب نشطاء بمجال البيئة رصدوا جملة من الأضرار يسبّبها إلقاء مخلفات الحيوانات في الشوارع، ومنها جذب الحشرات والقوارض وتلوث الهواء، الروائح الكريهة الناتجة عن التعفن والتي تسبب كثيراً من الأمراض الصدرية والتنفسية، فضلاً عن تلوّث المسطحات المائية خلال القاء المخلفات في المياه.
وأشار الخبير البيئي المسؤول في وزارة البيئة، راضي جعفر، إلى أن "وزارة البيئة والجهات الحكومية المعنية، فشلت فشلاً ذريعاً في معالجة عشوائيات الذبح العشوائي". وأضاف أنه "كان يمكن لوزارة البيئة وأمانة بغداد بناء مجازر صحية، وبناء حدائق وواحات خضراء في مواقع الذبح العشوائي بعد رفعها لتنقية الهواء والحيلولة دون عودة أصحاب المجازر العشوائية لممارسة عملهم المخالف للقانون"، مؤكداً أن "عدم إنشاء مجازر رسمية ومناطق خضراء بمواقع العشوائيات يشكل فشلاً كبيراً للجهات المعنية، ويساعد المخالفين على استئناف العمل بعشوائياتهم".
شكلت مجازر الذبح العشوائي ومخلفاته مخاطر صحية فادحة، وسجلت الاحصائيات الرسمية وفاة أكثر من 30 شخصاً من المرضى المصابين بالحمى النزفية هذا العام.
وكان قسم الإشراف الصحي على المجازر في دائرة البيطرة التابعة لوزارة الزراعة أكد في إحصائية رسمية أن عدد المجازر الحكومية تبلغ نحو 52 مجزرة في عموم البلاد، وآخر مجزرة حكومية كانت قد شيدت في ثمانينيات القرن الماضي، الأمر الذي أسهم حسب معنيين بتفشي وباء الحمى النزفية.
صرح الطبيب البيطري باسم عبد الحسين جار الله، رئيس جامعة الشطرة، لمنصة الجبال بأن "مرض الحمى النزفية هو من الأمراض المستوطنة في العراق، وتم عزل الفايروس في السبعينات بعد اكتشافه بخمسينيات القرن الماضي".
وأضاف "ينتقل هذا المرض للإنسان عن طريق حشرة القراد التي تمتص الدم من الحيوان، وهو ينتقل للجزارين والفلاحين والأطباء البيطريين عن طريق السوائل"، مشيراً: "بعض المحافظات سجلت العام الماضي 93 إصابة بمرض الحمى النزفية، منها 48 إصابة في محافظة ذي قار، فيما توزعت بقية الإصابات على محافظات ميسان والنجف والديوانية والبصرة".
وأوضح جار الله أن "حل مشكلة الذبح العشوائي وما ينتج عنه من أخطار، يكمن بدعم المستشفيات المتخصصة، وتثقيف العاملين بشكل مباشر مع الحيوانات"، مشدداً على أنه " يجب قبل كل شيئ إنشاء مجازر استثمارية صحية خارج المدن لتوفير محرقة للتخلص من آثار الذبح العشوائي وتجنب الأمراض".
وكانت وزارة الصحة العراقية أصدرت في وقت سابق عدّة توصيات، شدّدت خلالها على ضرورة الالتزام بالإجراءات الوقائية للحد من انتشار مرض الحمى النزفية، ومنها: ارتداء الجزارين للقفازات والملابس الواقية،وغسل المكان وتنظيفه من مخلفات الحيوانات بشكل جيد، وتجنب التعامل مع الدماء.
وأوصت الوزارة أيضاً ربات البيوت، بغسل اليدين بشكل جيد قبل وبعد التعامل مع اللحوم، وارتداء القفازات عند المباشرة بالتعامل مع اللحوم، وتعقيم السكين واللوح الخشبي بالمواد المعقمة قبل وبعد الاستخدام، فضلاً عن الطهي الجيد للحوم.
ويشير خبراء الصحة إلى أهمية تعزيز التنسيق والتعاون بين الوزارات العراقية المعنية، كالزراعة والصحة والبيئة والداخلية، لمواجهة خطر تفشي داء الحمى النزفية، إغلاق مجازر الذبح العشوائي بشكل تام لتجنب المزيد من الكوارث الصحية والبيئية في البلاد.