في خطوة مثيرة للجدل، فرض البنك المركزي العراقي قراراً يهدف إلى مكافحة غسيل الأموال من خلال إلزام مشتري العقارات بإثبات مصدر الأموال وإيداعها في البنوك إذا تجاوزت قيمتها 100 مليون دينار.
القرار رغم ما يحمله من إيجابيات في تعزيز الشفافية المالية، يثير تساؤلات حاسمة حول تأثيره على سوق العقارات المتأرجح بين الركود والانتعاش، "فهل يؤدي هذا القرار إلى شلل في حركة البيع والشراء، أم أنه يشعل غلياناً جديداً في أسعار الوحدات السكنية؟".
وقبل أيام قليلة، أصدر البنك المركزي توجيهات إلى دائرة التسجيل العقاري تقضي بحظر بيع العقارات التي تتجاوز قيمتها 100 مليون دينار، ووفقاً لكتاب رسمي صدر عن المركزي فإن الآلية والتعليمات الجديدة تنص على "لا يمكن بيع العقارات إلا عبر المصارف بهدف الحد من عمليات غسيل الأموال".
بموجب التعليمات الجديدة، فإن بيع العقارات التي يتجاوز سعرها 100 مليون دينار، سيتم عبر المصارف العراقية المجازة، عبر فتح حساب رسمي لتدقيق الأموال، وذلك ضمن ضوابط العناية الواجبة بمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب الخاصة بدوائر التسجيل العقاري.
سبق لمنصة "الجبال"، أن تحدثت عن انتقال عمليات غسل الأموال بالنسبة للسياسيين من العقارات إلى المولات والمطاعم بعد الإجراءات المعقدة التي صاحبت هذا القطاع.
"قرار لا رجعة فيه"
وقبل صدور القرار بأيام، ترأس وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، وفداً اقتصادياً ومصرفياً في زيارة رسمية إلى واشنطن، بحث من خلالها جملة ملفات أبرزها ما يتعلق بتطوير وإصلاح السياسة النقدية، ومواجهة التحديات الراهنة في المستويين النقدي والمصرفي، وما تعكسه هذه الإجراءات من إصلاح للنظام المصرفي عبر مكافحة الفساد وغسل الأموال.
وفي هذا الصدد، يقول مصدر مسؤول في البنك المركزي العراقي في حديث لمنصة "الجبال"، إن "القرار الأخير الصادر عن البنك جاء نتيجة دراسات وتجارب مكثفة امتدت لعامين كاملين، ويهدف إلى تعزيز الشفافية في سوق العقارات ومكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب".
ويضيف المصدر أن "القرار يساهم في توفير قواعد بيانات شاملة ودقيقة، تُعد أداة أساسية لدعم التحقيقات التي تقوم بها الجهات القانونية والجهات المختصة بالتحريات المالية"، مبيناً أن "هذه القواعد ستُسهم في تعزيز الرقابة على التعاملات المالية داخل السوق العقاري".
وعلى الرغم من وجود رفض لبعض بنود القرار من قبل مجلس النواب العراقي، يشير المصدر إلى أن "البنك المركزي مصرّ على تنفيذ القرار"، مؤكداً في الوقت نفسه "عدم وجود أي نية للتراجع عنه أو إلغائه".
وبشأن هذا الملف الذي أثار الجدل مؤخراً، كشفت عضو اللجنة المالية النيابية محاسن حمدون، عن استضافة محافظ البنك المركزي العراقي علي العلاق لمناقشة قرار بيع وشراء العقارات عبر المصارف، فيما أشارت قبل أيام قليلة إلى أن اللجنة ستقوم في الأسبوع الحالي باستضافة محافظ البنك المركزي للاطلاع على أسباب اتخاذ القرار الأخير، وسط تأكيدات منها على رفضهم بشكل قاطع لهذا القرار.
وفيما يتعلق بتأثير القرار على سوق العقارات، يرى المصدر، أن "التوقعات تشير إلى احتمالية انخفاض الأسعار نتيجة التنظيم الجديد للسوق وضبط حركة الأموال فيه"، مضيفاً أن "القرار يأتي ضمن جهود البنك المركزي لدعم الاقتصاد الوطني ومنع أي استغلال للسوق العقاري في أنشطة غير مشروعة".
ويتابع المصدر قائلاً إن "البنك المركزي يتطلع إلى التعاون مع جميع الأطراف، بما في ذلك الجهات التشريعية، لضمان تحقيق الأهداف المنشودة من القرار، مع الحفاظ على استقرار السوق العقاري وتعزيز الثقة فيه".
خطوة غير إيجابية بحق "البعض"
في المقابل، يرى الخبير الاقتصادي همام الشماع، أن "قرار مكافحة غسيل الأموال، الذي يفرض التحقق من مصادر الأموال عند شراء العقارات بقيمة تتجاوز 100 مليون دينار عراقي، يعد خطوة إيجابية لتنظيم السوق ومنع تدفق الأموال غير المشروعة".
ويقول الشماع في حديث لمنصة "الجبال" إن "القرار يلزم المشتري بإيداع الأموال في البنوك وإثبات أنها ناتجة عن نشاط تجاري مشروع أو عمل مهني قانوني"، مبيناً أن "هذا الإجراء لن يكون عائقاً أمام المواطنين ذوي الدخل المشروع".
يشير الشماع إلى أن "إثبات مصدر الأموال ليس أمراً معقداً بالنسبة للأفراد الذين يمتلكون سجلات تجارية أو مهنية واضحة"، مضيفاً أن "القرار قد يتسبب في تأخير محدود في حركة البيع والشراء لفترة قصيرة، لكنه لن يؤثر بشكل كبير على أسعار العقارات".
وبحسب الشماع، فإن محاولات استغلال القرار من قبل بعض الأطراف المتنفذة لن تُضعف أهميته كخطوة ضرورية لمحاربة غسيل الأموال وتعزيز الشفافية في السوق العقاري، مؤكداً أن تطبيق هذا القرار يعزز الثقة في الاقتصاد الوطني ويحد من الممارسات المالية غير القانونية، وهو ما يخدم المصلحة العامة على المدى الطويل.
وسارع مصرف الرافدين بدوره إلى استناد قرار البنك المركزي، باتخاذه قراراً مهماً حسب وصفه الذي جاء فيه "استنادًا إلى إعمام البنك المركزي العراقي رقم (13/4/9) الصادر بتاريخ 15/1/2025، والمتعلق بإيداع الأموال الناتجة عن البيوع العقارية في القطاع المصرفي، وحرصاً من مصرف الرافدين على دعم تطبيق هذه الإجراءات وتخفيف الأعباء عن المواطنين وزبائن المصرف، فقد تقرر إعفاء كامل من العمولات، تُحدد نسبة العمولات الخاصة بإيداع الأموال الناتجة عن شراء العقارات المشمولة بالسقف المحدد لتكون بنسبة صفر بالمئة، حيث لن يتقاضى المصرف أي مبالغ مقابل هذه الخدمة".
ركود مؤقت في السوق
وفي وقت سابق، قال قاضي محكمة تحقيق النزاهة وغسل الأموال إياد محسن ضمد، إن "العقارات أكثر القطاعات استهدافاً بجرائم غسل الأموال"، مبيناً أن "الرقابة الشديدة التي تفرضها الأنظمة المالية على المستويين المحلي والدولي على حركة الأموال وضرورة معرفة مصادرها قبل قبول إيداعها في المصارف أو إجراء الحوالات البنكية بخصوصها بات يلجأ مرتكبو الجرائم الأصلية إلى إتباع أساليب كثيرة تهدف إلى قطع صلة الأموال بالجريمة التي أنتجتها وإظهار الأموال القذرة وكأنها أموال مشروعة وناتجة عن مشاريع وأعمال قانونية".
بينما يقول الباحث في الاقتصاد أحمد عبد ربه، إن "قرار مكافحة غسيل الأموال، الذي يلزم شراء العقارات بأكثر من 100 مليون دينار عراقي بإثبات مصدر الأموال وإيداعها في البنوك، قد يؤدي إلى ركود مؤقت في أسعار العقارات، لا سيما في المناطق الراقية".
ويوضح عبد ربه، لمنصة "الجبال"، أن "سوق العقارات يشهد حالياً حالة من شبه الركود، ومع تطبيق القرار الجديد، من المتوقع أن ينخفض الطلب بشكل أكبر على العقارات الفاخرة التي تتجاوز قيمتها 100 مليون دينار"، مشيراً إلى أن "هذا الانخفاض قد يؤدي إلى تراجع أسعار العقارات في هذه المناطق".
ويضيف الباحث أن "القرار، على الرغم من تأثيره على حركة البيع والشراء، يحمل فوائد كبيرة، من بينها الحد من عمليات غسيل الأموال في قطاع العقارات وتعزيز الشفافية المالية"، كما توقع أن "يسهم في زيادة نسبة تعامل المواطنين مع القطاع المصرفي، مما يعزز من حجم الحسابات المصرفية ويقوي النظام المالي".
ويتابع عبد ربه، قائلاً إن "تأثير القرار سيكون محدوداً على قطاع الاستثمار في العقارات ذات الكلفة المنخفضة أو المتوسطة، والتي تشهد طلباً مرتفعاً ومستمراً نتيجة الحاجة المتزايدة للوحدات السكنية"، مبيناً أن "القرار يمثل خطوة إيجابية لتنظيم السوق العقاري، لكنه يتطلب وقتاً للتكيف معه وتخفيف تأثيراته على المدى القصير".
وبحسب خبراء في مجال الاقتصاد، فإن العراق يفتقر إلى قوانين تنظم العقارات، سواء البيع أو الإيجار، على عكس دول المنطقة التي تنظم هذه العملية بقانون، وتحدد سعر الارتفاع سنوياً، كما تضمن حقوق طرفي العقد في الإيجارات.
الركود يشل قطاع العقارات
ويقول أبو أحمد، صاحب مكتب عقارات بمنطقة القادسية في بغداد، إن "سوق العقارات في العراق يشهد حالة من الركود الملحوظ منذ إصدار البنك المركزي قراره الأخير، الذي يهدف إلى مكافحة غسيل الأموال وتنظيم التعاملات المالية في القطاع العقاري"، مبيناً أن "القرار رغم أهدافه الإيجابية تسبب في اضطراب واضح في حركة البيع والشراء".
وفي حديث لمنصة "الجبال"، يضيف أبو أحمد صاحب الـ 50 عاماً، أن"الأسابيع الماضية شهدت انخفاضاً كبيراً في الطلب على شراء العقارات، حيث أصبح المشترون أكثر تردداً بسبب الإجراءات الجديدة التي فرضها القرار، إذ أن عمليات البيع والشراء الآن تواجه تعقيدات إضافية بسبب التدقيق المالي المشدد والمتطلبات الإدارية المرتبطة بالتعاملات العقارية".
ووفقاً لحديث أبو أحمد، فإن القرار أدى إلى تقليل عدد المشترين في السوق، خاصةً الذين يعتمدون على السيولة النقدية، حيث باتوا مطالبين بالالتزام بقوانين جديدة تتعلق بتحويل الأموال والتوثيق، مبيناً أن هذا الأمر أثّر بشكل مباشر على الأسعار، وبعض العقارات بدأت تشهد انخفاضاً طفيفاً نتيجة ضعف الطلب.
ويشير أبو أحمد، إلى أن "الوضع الحالي أثر أيضاً على البائعين، الذين أصبحوا يواجهون صعوبة في إيجاد مشترين جادين، ما دفع البعض إلى خفض الأسعار على أمل تسريع عملية البيع"، مستطرداً بالقول "البائعون يشعرون بالضغط نتيجة حالة الركود، وهناك حالة من عدم اليقين تسود السوق".
العديد من أصحاب المكاتب العقارية، والكلام لأبو أحمد، بدأوا يعانون من تداعيات القرار، حيث تراجع حجم الأعمال بشكل واضح، فيما تابع "نحن كأصحاب مكاتب نعتمد على حركة السوق، وعندما يتوقف البيع أو يتباطأ، نتأثر بشكل كبير، وأن السوق بحاجة إلى إجراءات مكملة لدعم القطاع ومنع تفاقم الركود".
وعلى الرغم من الآثار الحالية، اعتبر أبو أحمد، أن "القرار قد يكون له آثار إيجابية على المدى الطويل، إذا تم تنظيم السوق بشكل أفضل وتوفير بيئة أكثر شفافية. لكنه شدد على ضرورة أن تعمل الجهات المعنية، بما فيها البنك المركزي والبرلمان، على تقديم حلول متوازنة تأخذ بعين الاعتبار احتياجات السوق والمستثمرين والعمال في القطاع العقاري".
ويختم حديثه بالقول إن "القطاع العقاري هو أحد أعمدة الاقتصاد العراقي، وأي قرار يمسّه يجب أن يكون مدروساً بعناية لتجنب التسبب في أزمات طويلة الأمد"، معبراً عن أمله بـ "أن تُتخذ خطوات إضافية لدعم استقرار السوق وتخفيف التأثير السلبي على المدى القصير".
وفي 9 كانون الثاني 2022، أعلنت وزارة الخارجية العراقية، رفع اسم العراق من قائمة الاتحاد الأوروبي للدول ذات المخاطر العالية في مجال مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وفق رسالة تسلمها رئيس الوزراء السابق من بعثة المفوضية الأوروبية.
وفي العام الماضي، قال المتحدث الرسمي باسم وزارة العدل العراقية، كامل أمين هاشم، إن "وزارته استحدثت شعبة في دائرة التسجيل العقاري، وهي شعبة غسيل الأموال، لأن إحدى عمليات غسيل الأموال هي شراء العقارات وبيعها"، في خطوة يبدو أنها أتت ثمارها خصوصاً وأن المتخصصين يؤكدون تراجع غسيل الأموال عبر العقارات.