بالتزامن مع استمرار الحديث عن نقص "السيولة النقدية" وتفاقم أزمة تراجع تدفقات الدولار الأميركي، يجد العراق نفسه على حافة أزمة مالية تهدد الاستقرار الاقتصادي ورواتب الملايين من الموظفين.
ومع الدخول في العام 2025، تزداد المخاوف من تكرار سيناريو نقص السيولة، في ظل استمرار الإجراءات الأميركية وعمليات تهريب الدولار، الأمر الذي دفع العديد للتساؤل عن مصير الاقتصاد العام للعراق خلال الأشهر المقبلة.
ويشكو العديد من الموظفين في العراق من تأخر صرف رواتبهم عن موعدها المحدد، حيث أفاد البعض بعدم استلامهم لرواتبهم حتى الآن، فيما أكد آخرون أن التأخير تجاوز 10 أيام عن الموعد الرسمي.
وأثار هذا الوضع استياء كبيراً بين الموظفين الذين يعتمدون بشكل أساسي على رواتبهم لتغطية احتياجاتهم المعيشية، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها البلد.
ويطالب الموظفون، الحكومة والجهات المعنية بتوضيح أسباب التأخير واتخاذ إجراءات فورية لضمان صرف الرواتب في موعدها، مؤكدين أن استمرار هذا الوضع قد يؤدي إلى تفاقم المعاناة الاقتصادية والاجتماعية.
كثرة الحديث عن وجود النقص في السيولة دفع وزارة المالية للحديث عن الموضوع بالقول إن "المعلومات المتداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتي تزعم الاعتذار عن صرف رواتب موظفي الدولة لهذا الشهر بسبب نقص في السيولة غير صحيحة تماماً ولا تمت للواقع بصلة"، مؤكدة الوزارة أنها "ملتزمة تماماً بعملية تمويل رواتب الموظفين، حيث قامت دائرة المحاسبة بتمويل مستحقات الرواتب للوزارات والمحافظات والجهات غير المرتبطة لشهر كانون الأول الحالي وفق الجداول المحددة لكل منها، وهي تواصل جهودها لضمان استمرارية صرف المستحقات المالية دون أي تأخير أو انقطاع".
أزمة حادة والبينات الرسمية "غير صحيحة"
في هذه الصدد، تقول مصادر رفيعة في البنك المركزي، لمنصة "الجبال"، إن "وزارة المالية العراقية تعاني من نقص حاد في السيولة النقدية، خاصة بما يتعلق بتوفير الدينار العراقي وعلى الرغم من إطلاق الوزارة رواتب الموظفين في عدة مناسبات خلال عام 2024، فإن ذلك تم دون تأمين نقدي كاف".
وحسب هذه المصادر، فإن هذا النقص في السيولة يعود إلى تراجع تدفقات الدولار الأميركي إلى العراق، نتيجة للإجراءات الصارمة التي يفرضها البنك الفيدرالي الأميركي، التي تهدف إلى مكافحة تهريب الدولار وتنظيم التعاملات المالية، مؤكدة أن "هذه الإجراءات أدت إلى تقليص مبيعات الدولار، ما أثر بدوره على تأمين السيولة المحلية".
وتشير المصادر التي رفضت الكشف عن أسمها، إلى أن "الكتلة النقدية في العراق تتجاوز 100 تريليون دينار عراقي"، مستطردة بالقول "الجزء الأكبر من الكتلة النقدية مودع لدى المواطنين في منازلهم، بدلاً من القطاع المصرفي، وذلك بسبب ضعف ثقة المواطنين بالمصارف المحلية، الأمر الذي أدى إلى خروج هذه الأموال من الدورة الاقتصادية، مما فاقم الأزمة المالية".
وعن السيناريوهات المتوقعة في العام 2025، توضح المصادر أنه "مع استمرار القيود الأميركية والعمليات المرتبطة بتهريب الدولار، تذهب التوقعات إلى تكرار سيناريو نقص السيولة كما حدث في العام 2024".
هذا ودعا مختصون إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لتعزيز الثقة في القطاع المصرفي العراقي، والعمل على جذب الأموال المودعة في المنازل إلى المصارف، فضلاً عن إيجاد حلول للحد من تداعيات الإجراءات الأميركية واستمرار عمليات تهريب الدولار، التي تضغط بشكل كبير على الاقتصاد الوطني.
وسبق أن نفى البنك المركزي العراقي، في (20 آب 2024)، وجود نقص في السيولة النقدية لدى الحكومة في ذاك الوقت، حيث قال نائب محافظ البنك، عمار خلف، إن "البنك لديه عشرات التريليونات من الدنانير نقداً" مشيراً إلى أن "أي شيء تقوله وزارة المالية واللجنة المالية النيابية حول نقص السيولة هو شأن وتفسير خاص بهما".
ويعتمد العراق بشكل رئيس على القطاع النفطي حيث يكوّن 95% من إجمالي دخل البلاد من العملة الصعبة (الدولار)، مما يجعل الاقتصاد متأرجح بتذبذب أسعار النفط العالمي.
الإيرادات الدولارية مستمرة
وتذهب نحو 70% من الموازنة التشغيلية في العراق إلى رواتب الموظفين الذين يتجاوز عددهم الـ 3 ملايين، بواقع تخصيصات مالية تصل إلى 60 تريليون دينار، وفقاً للتقديرات النيابية.
لكن يستبعد مصطفى حنتوش، الباحث والمختص في الجانب المالي والمصرفي وجود أزمة سيولة لدى الجهات الحكومية لدرجة تؤثر على تمويل رواتب الموظفين العاملين في القطاع الحكومي.
وفي حديث لمنصة "الجبال"، قال حنتوش إن "الدولة العراقية لديها إيرادات دولارية مستمرة وجيدة بسبب استقرار النفط، وهي تعمل على تحويلها إلى الدينار العراقي عبر مبيعات الدولار من قبل البنك المركزي العراقي".
ووفقاً لحنتوش، فإن العمليتين مستمرتين بالوقت الحالي، وقضية تمويل الرواتب التي تمثل الاهتمام والتركيز الأكبر في الإنفاق قبل الاستثمارية ستدفع بشكل انسيابي.
ويشير حنتوش إلى أن "شائعات عدم توفر سيولة مالية قد تؤثر سلباً على الأسواق العراقية وتسبب تباطؤ حركة الانفاق من قبل شريحة الموظفين الكبيرة ما يدفع ليكون العامل هو المتضرر في السوق العراقية".
وكانت وزارة المالية، قد نفت أيضاً في (25 شباط 2024)، عدم وجود سيولة نقدية كافية لتأمين رواتب موظفي الدولة، فيما أكدت عبر بيان "تأمين رواتب الموظفين وشبكة الحماية الاجتماعية ورواتب المتقاعدين دون تلكؤ أو تأخير، من خلال أرصدتها النقدية المدورة للسنة السابقة وإيراداتها النفطية وغير النفطية".
أزمة تتحملها وزارة المالية
وتشير تقديرات الخبراء إلى أن وجود أزمة في السيولة المالية بالعادة يكون نتيجة لأحد السببين، أما لخلل في إعداد الموازنة التي عادة ما تكون تقديرية (واقعية) للإيرادات وتصميم النفقات استنادا للإيرادات، أو لحدوث أمر ما يعطل تدفق النقود إلى خزينة الدولة ويتسبب في تغيير حجم الإيراد للدولة.
ويقول المدير العام السابق في البنك المركزي، والخبير الاقتصادي محمود داغر، لمنصة "الجبال"، إن "البنك المركزي العراقي ملزم بقرض وزارة المالية بالسيولة المطلوبة من أجل سد أي نقص مالي (دفع رواتب الموظفين وغيرها)، بسبب تأخر الإيرادات الدولارية في بعض الاحيان".
ويضيف داغر أن "المشكلة التي تحدث الآن هي نتيجة لعدم وجود تخطيط مسبق لتغطية هذا النقص في السيولة من قبل وزارة المالية، لذلك باتت تتكرر قضية تأخر الرواتب وغيرها من القضايا التي تتعلق بصرف الأموال بين الحين والآخر".
بحسب داغر، فإن السيولة المالية تتأثر أيضاً بقضية عدم استقرار الدينار محلياً نتيجة لتهريب العملة الأجنبية عبر المنافذ غير الرسمية وعدم السيطرة على بعض المصارف.
ويتابع داغر حديثه قائلاً إن "سيناريو تأخر صرف الرواتب وغيرها من الأمور ذات الصلة ستتكرر في العام 2025 في حال عدم وضع خطط واضحة بشأن مواعيد استلام الإيرادات الدولارية القادمة من بيع النفط، والتنسيق مع البنك المركزي لسد العجز المالي في بعض الأشهر".
وقبل فترة قليلة، حذر عضو اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي، جمال كوجر، من أزمة جديدة قد تواجه العراق تتعلق بـ "النقد والسيولة"، فيما توقع أن تلجأ الحكومة إلى زيادة الضرائب في المرحلة المقبلة كجزء من محاولات تعظيم الإيرادات، خاصة بعد إشعار صندوق النقد الدولي إلى العراق بضرورة خفض الموازنة التشغيلية.