ليس العراق وحده من واجه أزمة الديمقراطية والتحول القسري نحو الشمولية، بل حدث الأمر في ظواهر تاريخية عدة؛ أبرزها المانيا النازية في عهد هتلر وروسيا الاتحادية في عهد فلاديمير بوتين وفنزويلا في عهد هوغو شافيز وتركيا في عهد رجب طيب اردوغان، فالديمقراطية ليست محصنة تلقائياً من الانزلاق نحو الشمولية، قبل أن تتمكّن من صياغة مؤسّسات قوية ومجتمع مدني نشط وآليات مراقبة لحماية قيمها من قبيل الإعلام الحر والرقابة المجتمعية الصارمة، تختلف كيفية التحول من النظام الديمقراطي إلى الشمولي وفقاً للبيئة المجتمعية والسياسية من بلد لآخر لكن الجامع الأبرز بينهما يتركز على استغلال الآليات الديمقراطية ذاتها من خلال انتخاب زعيم أو حزب أو مجموعة أحزاب لا تؤمن بالديمقراطية كوسيلة لإدارة الحكم بل هي في بنيتها التنظيمية لا تمت للديمقراطية بصلة.
تسعى هذه الجماعات تدريجياً إلى تقويض وإضعاف دور المؤسسات (القضاء، البرلمان، وسائل الإعلام المستقلة) لتجنّب سبل المساءلة والحساب، وتلجأ أيضاً إلى تشجيع الخوف والاستقطاب من خلال تضخيم التهديدات الداخلية والخارجية لتبرير الفشل في الإنتاج أو نقص الخدمات أو تدهور التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، كما تسعى هذه الجماعات الشمولية إلى إحداث حالة من التعطيل المتعمد للإلزام الدستوري من خلال إجراء تعديلات جوهرية لضمان بقاء أطول، ولأجل بلوغ كل ما مضى ذكره تسعى أيضاً إلى إضعاف أو قمع المعارضة والتضييق عليها من خلال شيطنة الارتدادات المجتمعية كالتظاهر أو الاعتصام أو حملات المدافعة، بل ربطها في أحيان كثيرة بمشاريع معادية أو اتهامها بالعمالة أو السعي نحو الفوضى، هكذا تتحوّل الأنظمة الديمقراطية إلى فرض الشمولية وإلغاء قيم الديمقراطية بالمجتمع.
في العراق، تخضع الحاكمية المطلقة بعد الارتداد على الديمقراطية لمعيار (الحاكمية الشيعية) وإخضاع مؤسسات الدولة لضمان مصالحها قبل مصالح الدولة أو الشعب أو الأمن القومي أو التنمية الاقتصادية والبشرية، حاكمية المذهب تعتلي الجميع ويليها قضم التعددية السياسية عن طريق فرض الولاء للحاكمية العليا لتضطر الأحزاب الأخرى إلى تقديم الولاء للحاكمية العليا وتحافظ على بقائها وترتضي بمعادلة المنافع التي تديرها الآيدلوجية المذهبية المقدسة، هذا النوع من التحول التدريجي غير المحسوس لا ينفك أن يلهج بقيم الديمقراطية والتجربة الدستورية وحرية التعبير كغطاء للنكوص عن قيم الديمقراطية والتحول التدريجي لنظام شمولي ولا ينفك الإعلام الموجّه في الحديث عن تلك القيم العليا آناء الليل وأطراف النهار حتى وإن كان يسابق عقارب الساعة للقضاء عليها.
إزاء هذا، هل النظام السياسي في العراق إذا ما فقد حاكمية المذهب وتمظهراتها العديدة سيكون عصياً على الانهيار بالتزامن مع التحولات الكبرى التي تجرى في الشرق الاوسط؟. لعل من نافلة القول إن الحاكمية المذهبية بالعراق ارتكزت بالدرجة الأساس على السلاح والمال السياسي والنفوذ السلطوي وهي مرتكزات مكّنت من التحول التدريجي نحو الشمولية، فإذا كان سلاح الفصائل بخطر فإن العراق لا يتجه واقعاً لتفكيك سلاح الفصائل وحسب وإنما يتجه إلى تفكيك نظامه السياسي بشكله الحالي على الأقل، وإعادة صياغة نظام سياسي يستند لمعايير جديدة تبنى على أساس إنعاش الديمقراطية كوسيلة لضمان البقاء.
وإزاء من يريد تخفيف الصدمة من خلال قول إن النظام السياسي باق وسلاح الفصائل زائل أقول إن الأمران سيّان، ارتكز النظام السياسي بشكله الحالي على زناد وفوهة سلاح الفصائل ولن يجد له مرتكزا آخر ليبقى .