أكد زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم أن البلاد لا تدار بالارتجال أو بالمجاملات، مشيراً إلى ضرورة التحلّي بـ"الشجاعة" في اتخاذ القرارات الصعبة.
جاء ذلك في كلمة ألقاها، اليوم السبت 20 كانون الأول 2025، خلال الحفل التأبيني الذي يقيمه تيار الحكمة في "ذكرى استشهاد السيد محمد باقر الحكيم" في العاصمة بغداد.
فيما يلي نص كلمة عمار الحكيم:
"الحمدُ للهِ ربّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدِنا ونبيّنا محمدٍ، وعلى آلهِ الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين الميامين.
أصحابَ الفخامةِ والدولة والسيادةِ والمعالي والسعادة... أصحابَ السماحةِ والفضيلة والنيافة ... السادةً والسيداتِ ... الحضورَ الكريم... السلامُ عليكم ورحمةُ اللّٰه وبركاته.
نرحب بكم في هذا المحفل الكريم ونحن نستذكر مناسبة وطنية عزيزة وملهمة لنا ولجميع العراقيين في (يوم الشهيد العراقي) .. ذكرى استشهاد شهيد المحراب الخالد.. آية اللّٰه السيد محمد باقر الحكيم (رضوان اللّٰه تعالى عليه).. تلك القامة السياسية والفكرية التي شكّلت أحد الأعمدة الأساسية في مسيرة العراق المعاصر.. وفي مواجهة أعتى الأنظمة استبدادًا وظلمًا في تاريخ المنطقة.. مضحيا بدمائه الطاهرة في سبيل إعلاء كلمة الحق وسيادة حقوق العراقيين بجميع مكوناتهم وأطيافهم..
لقد كان شهيد المحراب الخالد.. حاضرًا في معركة الموقف قبل معركة السلطة والمناصب.. مؤمنًا بأن خلاص العراق لا يكون بالاستبداد ولا بالإقصاء.. بل يكون ببناء دولة عادلة تحتكم إلى إرادة شعبها.. وتحترم تنوعه وتؤسس لعملية سياسية قائمة على الشراكة والمسؤولية الوطنية..
ومنذ اللحظات الأولى بعد سقوط الدكتاتورية.. كان شهيدنا الخالد من أوائل الداعين إلى ترسيخ المسار السياسي.. وبناء مؤسسات الدولة.. وقطع الطريق أمام الفوضى ولغة الانتقام.. واضعًا أسس التعايش السلمي.. والوحدة الوطنية.. والعمل السياسي المشترك.. رغم حجم الجراح والتضحيات والألم.
إن استذكار هذه المناسبة لا يقتصر على بعدها الرمزي فحسب.. بل يحمل في جوهره رسالة سياسية وأخلاقية واضحة.. مفادها أن الدولة تُبنى بالاعتدال والمنطق.. وتحفظها الوحدة الوطنية.. ويصونها القرار السيادي المستقل..
إخوتي وأخواتي الكرام..
في الظروف والمسارات الصعبة التي تمر بها الأمم.. فإن الشعوب تستذكر مواقف قادتها ورموزها.. مستلهمة منهم العزيمة والصبر والايثار.. واتخاذ المواقف الصحيحة والمهمة بما يحفظ المبادئ والقيم التي ضحى من أجلها أولئك الرجال العظام والقادة الكبار..
إن أول الدروس التي نستحضرها من سيرة شهيد المحراب الخالد.. هي وحدة الموقف الوطني التي تمثل الركيزة الأساسية لأي دولة مستقرة.. قادرة على الصمود بوجه التحديات..
فالاختلاف السياسي ليس أمراً مشروعا فقط بل هو حاجة ضرورية .. لكن تحويله إلى انقسام حاد أو تعطيل للمؤسسات.. هو أمر يُضعف الدولة ويقوّض ثقة المواطن.. ويفتح المجال أمام التدخلات والضغوط الخارجية.. وذلك لأن الفراغ السياسي أخطر من الاختلاف مهما كانت تداعياته..
إن العراق اليوم بحاجة إلى تماسك داخلي حقيقي.. وإلى خطاب سياسي مسؤول.. يقدّم المصلحة الوطنية العليا على الحسابات الضيقة.. ويجعل من التنوع مصدر قوة لا عامل انقسام وتشرذم..
نحن نؤمن أن العراق ليس بحاجة إلى مغامرات سياسية.. بل إلى قرارات محسوبة تحمي شعبه ومستقبل أجياله..
وانطلاقاً من هذه المناسبة الكريمة.. وبناءً على حجم المسؤولية الوطنية الملقاة على عاتقنا.. أود الإشارة إلى نقاط حساسة ومهمة:
أولا/ وحدة البيت العراقي وتقوية أواصر الحوار البنّاء والفاعل:
لا يخفى على الجميع أهمية وحدتنا الوطنية والنتائج المترتبة عليها تجاه بلدنا وشعبنا.. ولقد لمسنا ذلك في المواقف والمنعطفات الحساسة التي مرت بها العملية السياسية طيلة العقدين الماضيين..
واليوم بفضل تكاتفنا ووعي شعبنا استطعنا بفضل اللّٰه تجاوز الكثير من المعوقات.. وما زلنا على المسار السليم لاستكمال منظومة الإصلاح الشاملة في البلاد.. وهذا ما لا يمكن تحقيقه من دون تلك الوحدة والإصرار على حمايتها من التحديات والمخاطر..
نحن اليوم أمام استحقاق وطني كبير.. يتمثل في تشكيل حكومة قوية وواعية لمتطلبات المرحلة وتداعياتها..
حكومة يتشارك فيها الجميع.. ويتحمل مسؤوليتها الجميع.. لتكون حكومة قرار لا تردد.. حكومة مسؤولية لا تنصل.. حكومة قوية لا هشة..
إن شعبنا ينتظر حكومة قادرة على تحويل الاستحقاق الانتخابي إلى استقرار فعلي.. وخدمات ملموسة.. وفرص عمل.. واقتصاد منتج..
فقوة الحكومات لا تُقاس بشعاراتها.. بل بقدرتها على الإنجاز.. وبمستوى الانسجام بين مؤسساتها.. وبمدى احترامها للدستور.. والالتزام ببرنامج واضح يخضع للمحاسبة والمتابعة والتقييم.
وفي هذا الصدد أقترح أن يُبنى البرنامجُ الحكومي على ثلاث مراحل زمنية متدرجة:
أولاً: "مئةُ يوم" للإنجازات العاجلة... وفيها تقاس جدية الحكومة من خلال ملفاتٍ يلمسها المواطن يوميًا: الكهرباء، الماء، البطالة، انسيابية الخدمات، إجراءات النزاهة، وترتيب الأولويات المالية.
ثانيًا: "عام الاصلاح" للإدارة والحوكمة... وفيها تُستكمل الإصلاحاتُ الهيكلية: عبر محاربة البيروقراطية، وإصلاحُ منظوماتٍ الجباية والإنفاق، وتطويرُ الإدارة، وتثبيتٌ مبادئ الشفافية في العقود والمشاريع.
ثالثاً: "أربعُ سنوات" للأثر التنموي المستدام... وفيها يُقاس نجاحُ الدولة بقدرتها على خلق فرص العمل, وجذب الاستثمار، وتحسين البنى التحتية، وبناء اقتصاد متنوع.
إنَّ البلادَ لا تُدارُ بالارتجال، ولا بالمجاملة، ولا بتأجيل القرارات الصعبة. الدولةُ تحتاج شجاعةً في الإصلاح، وشجاعةً في الاعترافِ بالخلل، وشجاعةً في مواجهة الفساد، وشجاعةً في حماية السيادة.
ولا يمكنُ الحديث عن إصلاحٍ حقيقي من دون نهضة علمية وتقنية والاهتمام بالرقمنة والحوكمة. فالتحول الرقمي لم يعد ترفًا إداريًا، بل بات أقصرَ طريقٍ لمحاربة الفساد وتقليل الاحتكاك وتحسين الخدمة العامة.
ومن خلال وحدتنا وتكاتفنا وحوارنا الفاعل.. يمكننا أن نصل إلى ذلك بإذنه تعالى..
لقد قلنا سابقًا . ونؤكد اليوم - إننا بحاجةٍ إلى "طاولةِ حوارِ الشجعان"، وإلى شجاعةِ الاعترافِ بالمسؤولية، وشجاعةٍ تقديم المصلحة العامة، وشجاعةِ اتخاذ القرار الصعب، وشجاعةِ حماية الدولة من التحول إلى ساحةٍ للتجاذب. إلى طاولة يجلسُ عليها الشركاءُ ، لا ليقتسموا المواقع، بل ليقتسموا همَّ الوطن، وليصوغوا عقدَ إدارةٍ يليق بالعراق.
ثانيا/ مواجهة التحديات الإقليمية والدولية بروح وطنية مسؤولة.
إذ تمر منطقتنا اليوم بمرحلة شديدة الحساسية تتسم بتصاعد الأزمات.. وتداخل الصراعات.. وتغيّر موازين القوى.
وفي ظل هذه التحولات فإن العراق مطالب بأن ينتهج سياسة خارجية متزنة.. مستقلة.. وواضحة المعالم..
تحمي مصالحه الوطنية.. وتمنع زجه في صراعات تزعزع استقراره السياسي والاقتصادي والأمني..
فلا ينبغي أن يكون العراق ساحة صراع.. أو منصة لتصفية الحسابات.. بل دولة فاعلة تسهم في الاستقرار..
وتدير علاقاتها على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
نحن مع الحق والعدالة، ومع حماية المدنيين، ومع إيقاف المآسي الإنسانية أينما كانت، وفي مقدمتها ما يجري على أرض فلسطين وما يعصف بالمنطقة من أزمات متلاحقة.
فعلى الرغم من التحديات المتراكمة.. فإن العراق ليس دولة عاجزة.. ولا بلدًا فاقدًا للأمل..
لدينا إمكانات اقتصادية كبيرة.. وطاقات بشرية شابة.. وتجربة سياسية يمكن تصحيح مساراتها وتطويرها..
من واجبنا أن نُعزز الثقة الواقعية.. ولا نغرق في خطاب الإحباط والمغامرات.. وأن نمارس النقد البنّاء دون أن نحطم معنويات المجتمع أو نضعف ثقة المواطن بدولته..
إن بناء الأمل مسؤولية سياسية وأخلاقية.. لا تقل أهمية عن إدارة الأزمات..
إن سيادة القرار العراقي تمثل جوهر الدولة.. وعنوان استقلالها.. وأساس احترامها في محيطها الإقليمي والدولي.
السيادة لا تعني الانغلاق أو القطيعة.. بل تعني امتلاك القرار.. وبناء علاقات متوازنة تقوم على الندية.. لا التبعية.. وعلى المصالح المتبادلة.. لا الإملاءات..
إن تعدد مراكز القرار لا يصنع قوة.. بل يستهلك الدولة من الداخل ويفكك وحدتها ويعرضها إلى مخاطر جسيمة..
كما لا يمكن تحقيق سيادة حقيقية من دون اقتصاد وطني قوي.. ومؤسسات دستورية فاعلة.. و أمن مستقر .. ووحدة داخلية صلبة..
كل ذلك يجب ان يكون حاضرا في سياستنا الخارجية.. لننطلق من خلالها نحو تقوية السياسة الداخلية وتماسكها لتحقيق أهداف التنمية الشاملة المرجوة في بلادنا..
ثالثا/ التعامل بلغة الأولويات.. والتركيز نحو اكمال المنجزات
ليس لدينا مشكلة في التشخيص.. ورؤانا موحدة نحو اكمال مسيرة النهوض والاعمار في البلاد.. لكننا يجب أن نتفق على مسار واحد تحدده الأولويات بعيدا عن التشتت وضياع الوقت.. ولا أعتقد أننا نختلف على أن الأولوية المقبلة هي أولوية اقتصادية.. وهذه الأولوية هي التي تحدد نوع سياستنا الخارجية.. وهي التي تحدد معايير اختيارنا لمناصب المسؤولية.. وهي التي تجعل حوارنا منتجا في أهدافه وآلياته المطلوبة..
يجب أن يركز مجلسنا النيابي من خلال لجانه الفاعلة والمختصة على إحداث ثورة تشريعية وقانونية تساعد الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية على تحقيق تلك الأولوية الاقتصادية..
وكذلك الحال مع بقية مؤسسات الدولة في سلطاته التنفيذية والقضائية.. ولابد أن نتحول جميعاً إلى قطب بناء وحراك نحو تحقيق هذه الأولوية بأسرع وقت ممكن.. وأن نستثمر جميع الجهود والعلاقات الدولية والإقليمية نحو هذا المسار.. بما يضمن مصالح العراق العليا وثوابته وقيمه المعروفة..
أيها الحضور الكرام..
إن استحضارنا اليوم لمسيرة شهيد المحراب ليس استذكارًا لهذه التجربة الكبيرة فحسب.. بل تجديدًا للالتزام بالمسار الذي آمن به.. في مسار الدولة والوحدة والقرار المسؤول..
العراق يستحق منا أن نختلف بحكمة.. وأن نتفق بشجاعة.. وأن نعمل بعقل الدولة لا بمنطق اللحظة..
أسأل اللّٰه أن يحفظ عراقنا.. وأن يوفق قياداته لما فيه خير شعبه وشبابه.. وأن يجعل من وحدتنا مصدر قوة.. ومن تنوعنا عنصر غنى.. ومن سيادتنا ركيزة استقرار وبناء..
إنه نعم المولى ونعم النصير ..
رحم الله شهداءنا الأبرار وقادة الانتصار والشهيدين الصدرين وشهيد المحراب وعزيز العراق.
والسلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته..
عمار الحكيم