البندقية العراقية.. من "القضية" إلى "الارتزاق"

البندقية العراقية.. من "القضية" إلى "الارتزاق" (تعبيرية / مواقع التواصل)

قبل شهرين تقريباً، حكمت محكمة جنايات النجف بالسجن المؤبّد على شخص متّهم بتجنيد عراقيين للقتال في الحرب الروسية–الأوكرانية، استناداً إلى قانون مكافحة الاتجار بالبشر. وعلى الرغم من أن تقارير عديدة تكشف، بشكل متواتر، مشاركة أعداد من العراقيين في هذه الحرب، فإن الموضوع لم يتحوّل إلى قضية رأي عام في العراق، على الأقل لمساءلة الأسباب التي تدفع بالشباب إلى محرقة حروب لا علاقة للعراق بها.

 

لا يمكن اتهام السلطات الرسمية بتجاهل الموضوع، لكن إجراءاتها غير فاعلة. وآخر الأخبار في هذا الشأن أن روسيا قامت بتسهيل الإجراءات للعوائل العراقية للقدوم إليها لتسلّم جثامين أبنائهم، وهو مشهد محزن ومؤلم يكشف عبثية الحياة العراقية وهشاشة الوضع الداخلي في العراق. فنسبة كبيرة من هؤلاء المتطوّعين ذهبوا بحثاً عن فرصة للحصول على الجنسية الروسية، وفق الوعود التي قُطعت لهم، فيما ذهبت نسبة أخرى في البداية للدراسة أو العمل، ثم وجدت نفسها تتعرّض لإغراءات الكسب السريع أو الحصول على الجنسية لقاء التجنيد في مناطق القتال داخل الأراضي الأوكرانية.

 

ارتحال المتطوّعين للقتال في حروب الآخرين موضوع شائع ومعروف في بلدان عديدة، لكنه يرتبط عادةً بالدول غير المستقرّة أو المناطق التي تعاني من أزمات مزمنة، كما هو الحال مع مجنّدي الأويغور (المسلمين الصينيين) الذين شاركوا في جبهات مختلفة، من أفغانستان حتى سوريا.

 

قصة العراق مع المتطوّعين في حروب الآخرين طويلة، وتمتدّ ربما إلى منتصف القرن الماضي. فعلى الرغم من المشاركة الرسمية للجيش العراقي في حرب 1948 في فلسطين، فإن العشرات من الطلبة والعسكريين السابقين أو المفصولين ورجال العشائر العراقية تطوّعوا في مليشيات غير نظامية، كان أشهرها "جيش الإنقاذ العربي".

 

تلا ذلك تطوّع عراقيين في الفصائل الفلسطينية المسلّحة خلال الخمسينيات والستينيات، بل والذهاب حتى إلى الجزائر للمشاركة في كفاح الجزائريين ضد الاحتلال الفرنسي، ثم المشاركة في حروب اليمن، من حرب الانقلابيين القوميين ضد النظام الملكي، وصولاً إلى نزاعات الحوثيين الحالية.

 

كما تطوّع عراقيون للقتال في صفوف الأفغان ضد السوفييت، وشارك آخرون في الحرب الأهلية اللبنانية ضمن فصائل عدّة، فيما غادر آخرون للعمل في خدمة الجمهورية الإسلامية بعد ثورة 1979 في إيران.

 

أما أسوأ الصفحات، فهي القتال في الساحة السورية. فحتى منتصف عام 2024، تشير التقارير إلى وجود نحو ثلاثة آلاف مقاتل عراقي في صفوف "داعش" داخل مناطق تواجده في سوريا، إضافة إلى ما يقارب أربعة آلاف متطوّع عراقي في صفوف المليشيات الداعمة لنظام بشّار الأسد، بقي منهم نحو مئتي مقاتل حتى سقوط النظام هناك.

 

لا يوجد اليوم مقاتلون عراقيون في سوريا، سوى المنضوين في صفوف "داعش"، وربما سيكون إنهاء ملفهم لحظةً تاريخية، لا تتعلّق بهذا التنظيم الإرهابي فحسب، بل بقصة كبرى اسمها: ارتحال البندقية العراقية إلى خارج الحدود.

 

في كلّ هذه التحوّلات، منذ منتصف القرن الماضي وحتى اليوم، كانت هذه البندقية تسافر من أجل عقيدة أو مبدأ ما، وكأن العراق لا يحتاج إلى إيمان أبنائه به، أو كأن هؤلاء الأبناء ضاقوا بالعراق فراحوا يبحثون عن إطار هوية أوسع. وهذه جناية العقائد الكبرى العابرة للوطنية، وجناية العراق على أبنائه في الوقت نفسه.

 

لكننا، مع قصة المتطوّعين في الحرب الروسية، أمام شيء جديد؛ هروبٌ، ربما، من كلّ العقائد، بحثاً عن فرصة حياة تأتي عبر الموت: الحصول على الجواز الروسي، والإقامة والعمل في مكان خارج العراق.

 

وربما ثمة تفصيلة بحاجة إلى بحث أعمق، تتعلّق بالتصوّرات التي تشيعها قراءات عقائدية تنظر إلى روسيا على أنها حليف لمحور المقاومة، وأن القتال في صفوفها يحمل شيئاً من الشرعية، وأن الحرب الروسية–الأوكرانية ليست سوى جبهة أخرى في مواجهة هذا التيار مع الغرب وحلفائه.


أحمد سعداوي كاتب وروائي

نُشرت في الجمعة 19 ديسمبر 2025 10:20 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.