مع قرارات حكومة تصريف الأعمال برئاسة محمد شياع السوداني، وتوجهها نحو "تقليص الانفاق"، أو ما عرف في السنوات الأخيرة بـ"التقشف"، يؤشر العديد من السياسيين والمراقبين عمق الأزمة المالية التي يمر بها البلاد وتنتظره في الأشهر المقبلة.
وأمس الاثنين، عقد المجلس الوزاري للاقتصاد، اجتمعاً استثنائياً، ناقش خلاله "تقليص الإنفاق الحكومي وتعظيم الإيرادات"، برئاسة رئيس حكومة تصريف الأعمال محمد شياع السوداني، ووجّه بـ "إجراء مراجعة لرواتب ومخصصات الرئاسات الثلاث، تحديث التقرير الخاص بتوحيد سلّم الرواتب لعموم الموظفين، تخفيض إيفاد موظفي الدولة بنسبة 90%، بالإضافة إلى إعادة النظر بالبطاقة التموينية وتوجيهها لمستحقيها الفعليين"، بينما قرّر المجلس "رفع توصية لمجلس الوزراء بإعادة النظر في دعم محصول الحنطة، بشكل يضمن أن يكون الدعم الحكومي بنسبة (170%) عن سعرها بالبورصة العالمية".
ويؤكد النائب في البرلمان العراقي، ماجد شنكالي، سوء الواقع الاقتصادي والمالي للعراق خصوصاً في ظل انخفاض أسعار النفط (المورد الرئيس للاقتصاد العراقي) إلى دون 60 دولاراً، مؤكداً أن التوصيات التي رفعها المجلس الوزاري الاقتصادي العراقي أمس تدل على أن الوضع المالي في البلد أصعب مما هو معلن".
وقال شنكالي في تدوينة عبر حسابه على منصة "إكس"، اليوم الثلاثاء 16 كانون الأول 2025: "عندما كان يتحدث بعض النواب والأساتذة المختصون في المال والاقتصاد عن الوضع المالي والاقتصادي الصعب، كانت وزارة المالية تسارع الى النفي وتؤكد أن الوضع المالي مستقر"، مضيفاً أن "توصيات المجلس الوزاري الاقتصادي تدلّ على أن الوضع أصعب مما تحدث به أولئك النواب والمختصون خاصة في ظل انخفاض أسعار برميل النفط دون ال60$".
ولفت النائب في كلامه إلى أنه "من المرجح هبوط أسعار النفط أكثر في سنة 2026"، مشيراً أن "المستغرب في الأمر أن هذه التوصيات تم اتخاذها في الوقت بدل الضائع من عمر الحكومة.. أو كما يقال بعد خراب مالطا".
"كارثة وشيكة"
وأكد مختصون في الشأن الاقتصادي والمالي، اليوم الثلاثاء، أن قرارات المجلس الاقتصادي لمواجهة الأزمة المالية تؤكد خطورة الوضع المالي خلال المرحلة المقبلة.
وقال الخبير في الشأن المالي، عبد الرحمن الشيخلي، لـ"الجبال"، إن "هذه القرارات جاءت نتيجة تراجع ملحوظ في الإيرادات العامة مقابل ارتفاع الإنفاق، مما هدّد الاستقرار المالي للدولة، خاصة أن الإيرادات العامة في النصف الأول من 2025 بلغت نحو 62 تريليون دينار عراقي، مقارنة بانخفاض بحوالي 6% عن العام السابق، بينما انخفضت الإيرادات النفطية بنسبة 3.4%، فيما تراجع الإيراد غير النفطي بنسبة 14%".
وبيّن الشيخلي أن "العراق يعتمد بشكل شبه كامل على النفط لتأمين الإيرادات العامة، حيث بلغت إيرادات النفط نحو 56.7 تريليون دينار، أي حوالي 91% من إجمالي الإيرادات، بينما لم تتجاوز الإيرادات غير النفطية حوالي 6.2 تريليون دينار في النصف الأول من العام، وهذا الاعتماد المفرط على النفط يجعل الموازنة عرضة لتقلبات أسعار الخام في الأسواق العالمية، وهو ما يتطلب تعديل السياسات المالية".
وأضاف الخبير المالي أن "الأسباب الرئيسية لضرورة هذه الإجراءات، فارتفاع الإنفاق الجاري، خصوصاً الأجور والرواتب التي تشكل نسبة كبيرة من النفقات العامة، وتراجع الاستثمار العام، حيث تبيّن أن الإنفاق على المشاريع الاستثمارية لا يتجاوز نسبة ضئيلة مقارنة بالإنفاق التشغيلي الذي يلتهم الجزء الأكبر من الميزانية، فضلاً عن ضعف تنويع مصادر الدخل وعدم كفاية الإيرادات غير النفطية، مما يزيد من هشاشة المالية العامة".
وبحسب الشيخلي فإن "تداعيات ذلك يمكن أن تسهم في تحسين إدارة الموارد المالية وتقليص العجز في الموازنة من خلال تخفيض النفقات التشغيلية غير الضرورية، وتوجيه الدعم إلى مستحقيه الحقيقيين، لا سيما بعد إصلاح البطاقة التموينية واستهداف الفئات الهشة في المجتمع، وتعزيز جباية الكهرباء وزيادة الإيرادات المحلية من خلال التحول إلى الأنظمة الإلكترونية والحصرية للدفع".
وأكد الخبير في الشأن المالي على "وجوب الحذر من أن التأثير على الخدمات العامة والمشاريع الاستثمارية قد يؤدي إلى بطء في التنمية ما لم يصاحب ذلك تنمية الإيرادات غير النفطية والاستثمار في قطاعات منتجة، فتنفيذ هذه الإجراءات يتطلب رقابة صارمة وتعاوناً بين جميع الجهات الحكومية لضمان تحقيق الأهداف المرجوة دون تحميل المواطنين أعباء إضافية غير مبررة".
وختم الشيخلي حديثه مشدداً على أن "الالتزام بهذه المعالجات أصبح أمراً ملحاً لتفادي اتساع فجوة العجز المالي، وهو ما لوحظ في السنوات الأخيرة نتيجة الاعتماد شبه الكامل على النفط كمصدر رئيس للإيرادات، ما جعل الموازنة عرضة لتذبذب الأسعار العالمية والتغيرات في الإنتاج والتصدير".
انهيار
من جهته، قال الخبير في الشأن الاقتصادي، رشيد السعدي، لـ"الجبال"، إن "القرارات الأخيرة التي اتخذها المجلس الاقتصادي، رغم أهميتها، هي متأخرة إذا لم تنفذ بسرعة وبحزم كامل، خاصة أن العراق على شفا أزمة مالية خطيرة بسبب ارتفاع النفقات التشغيلية، خاصة الأجور، مقابل تراجع الإيرادات غير النفطية والاعتماد شبه الكامل على النفط، وهو ما يجعل الموازنة عرضة لأي تقلبات في الأسواق العالمية، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن الانهيار المالي ليس بعيدا".
وأضاف السعدي أن "الإجراءات الأخيرة تشمل تخفيض تخصيصات الإيفاد بنسبة 90%، إعادة هيكلة دعم الحنطة، خفض الإشراف على المشاريع الجديدة، وتوحيد سلم الرواتب لكافة موظفي الدولة، والتأخير في تطبيق هذه الإجراءات أو التهاون في الرقابة عليها قد يؤدي إلى انهيار الخدمات الأساسية، تفاقم الفقر، وتأثير مباشر على استقرار المجتمع".
وفق قول السعدي "الاقتصاد العراقي يقف أمام مفترق طرق حرج، فإما الالتزام الصارم بهذه الإجراءات وتحسين إدارة الموارد المالية، أو مواجهة تداعيات أكبر تشمل العجز المالي المتزايد، تعطيل المشاريع الاستثمارية، وزيادة الديون الداخلية والخارجية بشكل غير مسبوق". وإنه "لا يمكن المراهنة على النفط وحده لتغطية العجز، فالتقلبات العالمية للأسعار قد تجعل العراق عاجزاً عن تمويل حد أدنى من الخدمات الحكومية".
و"الحل الوحيد هو ضبط الإنفاق، توجيه الدعم لمستحقيه، وزيادة الإيرادات غير النفطية فوراً، والتأجيل في الإصلاحات يعني المزيد من المعاناة للمواطنين، فقدان الثقة بالمؤسسات الحكومية، وتفاقم أزمة البطاقة التموينية والكهرباء والخدمات الأساسية"، الكلام للسعدي الذي حذر الحكومة من أن "التقاعس عن التنفيذ الفوري قد يدفع العراق نحو أزمة مالية حادة لا يمكن السيطرة عليها بسهولة".
محاولات متأخرة
وكان الخبير القانوني سالم حواس، قد ذكر بمدونة عبر حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي، في وقت سابق من اليوم، أن "ملف تخفيض رواتب الرئاسات الثلاث ليس جديداً في الخطاب العام، وإن رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، عندما شغل موقع نائب في مجلس النواب، كان من أبرز المطالبين بتقليص رواتب ومخصصات الرئاسات العليا، واعتبرها آنذاك عبئاً على المال العام ومخالفة لمبدأ العدالة الوظيفية".
وقال حواس إن "المفارقة تكمن في أن القوى السياسية التي تولت رئاسة السلطات الثلاث خلال الدورات السابقة، ورغم امتلاكها الصلاحية الدستورية والتنفيذية، لم تُقدم على أي خطوة فعلية لتخفيض تلك الرواتب، الأمر الذي كرس فجوة بين الخطاب الإصلاحي والممارسة العملية، وأسهم في تعميق فقدان الثقة الشعبية".
شدّد حواس على أن "إعادة طرح الملف في توقيت انتهاء عمر الحكومة وتصريف الأعمال وانتهاء الولاية، يثير تساؤلات دستورية مشروعة بشأن دوافعه، وما إذا كان يندرج ضمن محاولات تصحيح متأخرة، أو يدخل في إطار رسم معادلة سياسية جديدة تتعلق بالمرحلة المقبلة وترتيبات ما بعد تشكيل الحكومة".
وأوضح المستشار القانوني في حديثه أن "الإشكالية لا تكمن في المبدأ، فمراجعة رواتب الرئاسات مطلب شعبي مشروع، وإنما في التوقيت والسياق"، متسائلاً عمّا إذا كان الهدف "توجيه رسالة أخلاقية، أم وضع قيود مسبقة على الرئاسات الثلاث القادمة، أم الاكتفاء بخطوة إعلامية لا تجد طريقها إلى التنفيذ كما حدث في تجارب سابقة؟".
(أرشيف ـ المكتب الإعلامي للسوداني)