في محافظة ذي قار، حيث وُلدت أولى المدن ودوِّنت الحكاية البشرية على ألواح الطين قبل أكثر من ستة آلاف عام، لا يزال التاريخ يبحث عن طرق جديدة ليحكي نفسه ومن بين أطلال سومر وأور ولكش خرجت فكرة فنية غير مألوفة حوّلت قطعة أناقة يومية إلى رسالة حضارية عابرة للحدود "ربطة العنق السومرية".
الفنان أمير سكر أحد فناني ذي قار ومن سكنة قضاء الدواية شمالي المحافظة، قرر هذه المرة أن يذهب أبعد من اللوحة والمعرض، ليعيد إحياء أسماء ملوك سومر بلغة معاصرة، واضعاً التاريخ على الصدر لا في المتاحف وحدها.
ويقول أمير في حديث لمنصة "الجبال" إن بذرة الفكرة تعود إلى عام 2020، حين كان يستعد لحفل تخرجه من كلية الفنون الجميلة، باحثاً عن حضور مختلف يعبّر عن هويته الحضارية إلا أن الفكرة بقيت مؤجلة حتى تحولت إلى واقع ملموس قبل نحو شهر.
البداية كانت بربطة عنق حملت اسم "الأمير كوديا"، أحد أبرز حكّام مدينة لكش السومرية (2144–2124 ق.م) المعروف بنصوصه الإصلاحية وتماثيله الشهيرة التي ركزت على العدالة وبناء المعابد وتُعد اليوم من أهم الشواهد السياسية والفنية في تاريخ سومر، هذه الربطة أهداها أمير إلى الباحث الآثاري عامر عبد الرزاق، بالتزامن مع استعداد الأخير للسفر إلى طوكيو للمشاركة في مؤتمر دولي عن الآثار العراقية.

لم تمرّ الفكرة بهدوء فخلال ظهور عبد الرزاق في المؤتمر مرتدياً "الربطة السومرية" تحولت القطعة من تفصيلة أناقة إلى سؤال حضاري مفتوح عن العراق وتاريخه وأثره في نشأة الإنسانية، ذلك الظهور أثار دهشة الحضور وفضول الباحثين وفتح موجة اهتمام واسعة، إذ تلقى الفنان طلبات من الجالية العراقية في الخارج ومن محافظات عراقية عدة، ما دفعه إلى افتتاح ورشة صغيرة لتلبية الطلب المتزايد.

ويشير أمير إلى أن العبارات المكتوبة على الربطات لا تقتصر على اسم كوديا بل تشمل أسماء ملوك سومر مثل "أورنمو" مشرّع أول قانون مكتوب في التاريخ إضافة إلى أسماء المدن التاريخية كـ"سومر" و"أور" و"لكش"، وحتى أسماء أشخاص يرغبون بربط أسمائهم بهويتهم الحضارية القديمة.

من جانبه، يقول الباحث الآثاري، عامر عبد الرزاق، أول من ارتدى ربطة العنق السومرية، إن ربطة العنق عادة ما تحمل دلالات تتعلق باللون أو الحجم أو المناسبة، "لكن هذه الربطة حملت معنى مختلفاً تماماً".
ويضيف أن "ارتداء ربطة تحمل اسم الأمير كوديا حاكم مملكة لكش داخل مؤتمر دولي في طوكيو جعل التاريخ العراقي حاضراً بصمتٍ أنيق، وفتح نقاشات واسعة حول حضارة بلاد الرافدين ودورها في تأسيس مفاهيم الدولة والفن والقانون".

ويطالب أمير سكر باعتبار أن الفكرة ثمرة جهد إبداعي فردي قابل للتوسع، بحمايتها قانونياً عبر الجهات المختصة، ولاسيما وزارتي الثقافة والتجارة لما تحمله من قيمة فكرية وبُعد ثقافي يعكس هوية العراق ويستثمر تاريخه بأسلوب إبداعي معاصر، مع ضمان حفظ الحقوق الفكرية ومنع استغلال الفكرة أو تشويه مضمونها الحضاري.
يأتي هذا الابتكار في وقت يُعد فيه العراق واحداً من أغنى بلدان العالم بالمواقع الأثرية، بوصفه مهد أقدم الحضارات الإنسانية. وتشير تقديرات هيئة الآثار والتراث إلى أن البلاد تضم أكثر من 15 ألف موقع أثري مسجّل، لم يُنقّب منها فعلياً سوى نحو 10% فقط، فيما لا تزال الغالبية مدفونة تحت الأرض.

وفي هذا المشهد، تحظى ذي قار بمكانة استثنائية، إذ تضم أكثر من 1200 موقع أثري مسجّل، ما يجعلها من أعلى المحافظات كثافة بالمواقع الأثرية وتتركز فيها أبرز مدن الحضارة السومرية مثل أور (المدرجة على لائحة التراث العالمي لليونسكو)، وإريدو إحدى أقدم مدن العالم، ولكش وتل العبيد وتل اللوائح ورغم هذا الثراء، لا يتجاوز عدد المواقع المنقّبة في المحافظة عشرات المواقع فقط.
وتعمل حالياً في ذي قار نحو 10 بعثات تنقيبية أجنبية ومحلية مشتركة من دول مثل الولايات المتحدة وإيطاليا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، إضافة إلى بعثات وطنية أسهمت خلال السنوات الأخيرة في الكشف عن معابد وأحياء سكنية ونصوص مسمارية أعادت تسليط الضوء على دور جنوب العراق في نشأة المدينة والقانون والطقوس الدينية.
بهذه الفكرة، لم يكتفِ فنان من ذي قار بابتكار منتج فني، بل أعاد طرح سؤال الهوية بأسلوب معاصر، مؤكداً أن "آثار العراق لا تزال قادرة على السفر إلى العالم"، حتى وإن كان ذلك عبر ربطة عنق تحمل اسم سومري وتاريخ حضارة.

ربطات عنق منقوشة بعبارات سومرية