على غير ما ألفه سكان الناصرية، وبين الأزقة الهادئة في محلة الصابئة، يلفت الأنظار محل صغير لا تتجاوز مساحته ستة أمتار مربع، لكنه يحمل حكاية أكبر من جدرانه الضيقة، ليس لأنه جديد فحسب بل لأن من تقف خلف مكواة البخار فيه امرأة قررت أن تكسر الصورة النمطية وتشق طريقها بثبات في مهنة اعتادها الرجال لعقود طويلة.
هناك تقف أم منتظر بملامح امرأة أربعينية، تتنقل بين الملابس المعلقة بعناية وترفع المكواة بيدٍ ثابتة وابتسامة تختلط فيها القوة بالتعب لتروي لـ "الجبال" كيف تحوّل حلم بسيط إلى مصدر رزق وحياة جديدة لها ولأولادها الأربعة الذين تعيلهم وحدها بعد أن أصبحوا يتامى.
تقول أم منتظر وهي تمسح قطرات البخار عن جبينها: "عملتُ سنوات طويلة في محال تجارية، في الكوزمتك وغيرها، لكني شعرت أن الوقت حان ليكون لي مشروعٌ مستقل، خطوة أساعد بها نفسي وأبنائي وأثبت أن المرأة قادرة على خوض أي مجال إذا امتلكت الإرادة".
بدأت الفكرة قبل شهور حين أخذت تبحث وتسأل وتتنقل بين الأحياء لتتأكد من عدم وجود منافسة مباشرة، كانت تريد مكاناً ترتكز عليه فاختارت حي الصابئة وافتتحت "مكوى روز"، أول مشروع نسائي لكوي الملابس في الناصرية، مشروع صغير بحجمه كبير بمعناه، خطوة شجاعة كتبت بها امرأة من الناصرية فصلاً جديداً من الشغف والكفاح.
وتوضح أمّ منتظر أن ما يمنح مشروعها تميّزاً عن بقية محال الكوي التقليدية هو قدرتها على إزالة البقع الأكثر صعوبة عن الملابس والبطانيات باستخدام مساحيق خاصة وأساليب تنظيف مدروسة، إضافة إلى ما تصفه بـ"اللمسة النسائية" التي تُظهر أناقة الأقمشة وتعيد إليها حيويتها، مؤكدة أن هذا الاهتمام بالتفاصيل جعل الكثير من الزبائن يلمسون فرقاً واضحاً في جودة العمل.
وتضيف أن مشروعها هذا ترك أثراً إيجابياً في محيطها الاجتماعي، فرغم نظرات الاستغراب الأولى من بعض المارة الذين لم يعتادوا رؤية امرأة تدير مكوى للملابس، إلا أن الدعم الذي تلقّته من سكان الأحياء المجاورة كان لافتاً، إذ يقصدها كثيرون من مناطق بعيدة تشجيعاً لها وإسناداً لتجربتها.
تقول أم منتظر إن كلمات التشجيع التي تسمعها يومياً جعلتها أكثر إصراراً على الاستمرار، وأن كثيراً من النساء بدأن يرون في مشروعها نموذجاً مشجعاً لكسر القيود النمطية التي حصرت أعمالاً معينة بالرجال دون غيرهم.
في نفس الإطار، أظهر تقرير للبنك الدولي أن مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل لا تزال منخفضة، إذ سجّل العراق نسبة مشاركة نسائية بلغت 11% فقط خلال العام الماضي وهي من أدنى النسب في المنطقة، وتوقع التقرير أنه في حال تمكنت البلاد من رفع المشاركة النسائية بمقدار 5% خلال عام 2025 فإن ذلك سيرفع الناتج المحلي الإجمالي بنحو 1.6%، الأمر الذي قد يسهم في تعزيز الانتعاش الاقتصادي وتخفيف معدلات الفقر.
وبيّن التقرير، استنادا إلى استبيان أُجري لقياس اتجاهات الرأي العام، أن نسبة التأييد المجتمعي لعمل المرأة ما تزال منخفضة إذ يرى جزء كبير من المستطلعين أن بيئة العمل الحالية لا توفر ظروفاً مناسبة للنساء.
كما أظهرت البيانات أن 52% من النساء غير العاملات يرغبن في الالتحاق بسوق العمل إذا حظين بدعم من الأزواج أو أولياء الأمور إلا أن 10% فقط منهن قمن بالبحث الفعلي عن فرصة عمل.
وحدّد التقرير مجموعة من العوائق الرئيسية التي تعرقل دخول المرأة إلى سوق العمل، أبرزها مسؤوليات رعاية الأطفال التي تأتي في مقدمة الأسباب لدى 32% من النساء وقلة فرص العمل المناسبة بنسبة 15% وضعف الدعم الأسري والاجتماعي، إضافة إلى اعتراض الأزواج في بعض الحالات بنسبة 13%.
ويُظهر التقرير بوضوح أن تعزيز مشاركة المرأة في سوق العمل لا يرتبط فقط بالسياسات الحكومية، بل يرتبط أيضاً بمدى توفر بيئة اجتماعية واقتصادية داعمة، قادرة على إزالة الحواجز التي تقف أمام المرأة وتمنعها من الانخراط في التنمية الاقتصادية.
وتكمل أم منتظر حديثها بحنين واعتزاز عن أبنائها الأربعة، "ثلاثة منهم يدرسون في الجامعات، فيما يواصل الرابع دراسته الإعدادية"، مؤكدة أنها تقف يومياً في محلها المتواضع لتأمين احتياجاتهم الدراسية والمعيشية، وأن هذا المشروع لم يكن مجرد مصدر رزق فحسب بل إرادة حياة تريد من خلالها أن تثبت لأبنائها وللمجتمع أن المرأة قادرة على العمل والإبداع في أي مجال تختاره.
وتكشف المرأة الأربعينية، أمّ منتظر، أنها وعلى الرغم من حصولها على شهادة الإعدادية وقبولها في المعهد الطبي، فإن حلمها في إكمال الدراسة لم يكتمل. فقد وقفت الظروف المادية القاسية حاجزاً أمام طموحها، لتجد نفسها مضطرة إلى الاكتفاء بهذا المستوى الدراسي والبحث عن مصدر رزق يعيل أسرتها.
وتروي بأسى ممزوج بالإصرار لمنصة "الجبال": "كنت أتمنى أن أكمل تعليمي وأحقق حلمي، لكن الحياة لم تُمهلني. تحمّلت مسؤولية أولادي بعد أن أصبحوا أيتاماً، وكنتُ أمام خيارين: الانتظار.. أو الوقوف على قدمي والعمل. فاخترت الطريق الثاني".
ورغم أن أبواب التعليم أُغلقت في وجهها، إلا أنها فتحت لنفسها باباً آخر من خلال مشروع مكوى الملابس، لتعيد صياغة واقعها بجهدها وإيمانها وقدرتها على النهوض، ولتثبت أن الفرص تُصنع ولا تُنتظر.. وأن المرأة تستطيع مهما كانت التحديات.
من جانبه، كشف رئيس غرفة صناعة ذي قار عبد الوهاب الطرشة، أن المحافظة سجلت 158 مشروعاً صغيراً ومتوسطاً تقودها نساء تتنوع بين مشاغل الخياطة والحرف اليدوية ومنتجات العناية بالبشرة وغيرها من الأعمال المنزلية والمشاريع الريادية.
وأوضح الطرشة أن الدعم المقدم للنساء لا يقتصر على التدريب أو الإرشاد، بل يشمل إجراءات جوهرية أبرزها تسجيل اسم المشروع رسمياً لضمان حمايته قانونياً ومنع أي نزاع عليه، إضافة إلى منح إجازات عمل تُمكّن صاحبات المشاريع من ممارسة نشاطهن دون عراقيل رقابية.
وأشار إلى أن الغرفة تعمل أيضاً على تسهيل حصول رائدات الأعمال على القروض المالية التي تساعدهن في تطوير مشاريعهن، مبيناً أن هذه الخطوات تسهم في تعزيز استقلال النساء اقتصادياً وتوسيع دورهن في السوق المحلي.
المكتب الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة و"الإسكوا" كشف خلال العام الحالي عن مؤشر جديد يعكس عمق الفجوة بين الجنسين في سوق العمل العراقي بأن معدل بطالة النساء في العراق تجاوز حاجز الـ60% ليضع البلاد في صدارة الدول العربية من حيث بطالة الإناث، ولا سيما بين فئة الشابات.
وبحسب التقرير، فقد سجّل العراق خلال عام 2024 معدل بطالة نسائية بلغ 28.3% لمن تجاوزن 15 عاماً متقدماً بذلك على دول عربية مثل تونس 20.5% والجزائر 20.6% وسوريا 22% فيما لم يتفوق عليه إلا الوضع الاقتصادي المتدهور في فلسطين بنسبة 40.4%.
أما الصورة الأكثر قتامة فتظهر في بطالة الشابات العراقيات بين عمر 15 و24 عاماً إذ قفزت النسبة إلى 62.2% في واحدة من أعلى المعدلات المسجّلة عربياً، متجاوزة دولاً مثل لبنان 21.4% والإمارات 23% ومصر 50.5% بينما تخطتها فقط ليبيا بمعدل بلغ 67.8%.
أم منتظر داخل محلها في الناصرية