قبل قرابة سبع سنوات، وتحديداً في العام 2019، ظهر قيس الخزعلي، في خطاب أمام أنصاره، قال فيه بصوت عال: "لن نكون أرستقراطيين، سنبقى شروكية ومعدان". بدا هذا الخطاب وكأنه اكتشاف لـ"هوية جديدة" بالنسبة للخزعلي أمام الخصوم السياسيين، حتى بقي يردّد فيه عند كل مناسبة تستدعي التهديد أو استنهاض الغبن الطائفي أو الطبقي داخل البيئة السياسية العراقية.
بعد نحو عامين، وعند زيارته حشداً من أنصاره الذين تظاهروا بالقرب من بوابة المنطقة الخضراء في بغداد اعتراضاً على نتائج انتخابات 2021 التي شهدت خسارة مدوية لـ"عصائب أهل الحق"، وإثر مقتل أحد منتسبي فصيله خلال اشتباكات مع القوات الأمنية، توعد الخزعلي بالثأر، وخاطب رئيس الوزراء السابق، مصطفى الكاظمي بعبارة: "اسمعها من شروكي أصيل"، ولم تمض سوى أيام، حتى قصف منزل الكاظمي، مخلّفاً أزمة وصلت آثارها إلى العالم، وانتهت فيما بعد باشتباكات دامية على أبواب الخضراء في آب/أغسطس 2022.
لِم يؤكد الخزعلي على أنه "شروكي أصيل"؟ هذا سؤال طرح مرات عديدة في سياق تحليل نشأة الفصائل العراقية وامتداداتها الاجتماعية، لكنه لم يأخذ حقه من البحث والتحليل، وهو بالنسبة لباحثين، يشكّل أهمية جوهرية في سؤال الهوية الاجتماعية والصراع بين الحركات الشيعية منذ تسعينيات القرن المنصرم وإلى اللحظة الحالية.
كان الفضاء الشيعي ينقسم بين عوائل دينية "أرستقراطية"، أما نجفية أو ذات أصول إيرانية، أو"نخبوية" مثل "حزب الدعوة"، ولا ينتمي الخزعلي لكل هؤلاء. كان شاباً ذهب إلى النجف ملتحقاً بالمرجع الشيعي محمد محمد صادق الصدر، الذي مثّل ظهوره بداية غير طبيعية في محاولات كسر هيمنة العوائل الدينية التقليدية، مستقوياً بأتباع يبحثون عن تمثيل واعتراف في زمن الحصار.
بقي الخزعلي تابعاً لـ"آل الصدر"، الوالد والابن، لكن دخوله المعتقل الأميركي، كان بداية تحول غير مسبوق في الفضاء الصدري. حيث خرج من المعتقل ومن عباءة مقتدى الصدر معاً، ليكون بعنوان جديد: أمين عام لفصيل مسلح اسمه "عصائب أهل الحق". استمكن هذا الفصيل في ظروف ضعف الدولة وتحوّل السلاح إلى وسيلة للوصول إلى المال وتحقيق السلطة، خاصة في فترة ما بعد 2014، لتبلغ ذروتها مع دعم حكومة عادل عبد المهدي لهذه الفصائل بداية العام 2018.
ومع إعلان نتائج انتخابات العام 2025، تفجّرت أسئلة بخصوص الخزعلي، ومنها بحسب صحفيين ما هو "تضليلي"، خصوصاً مع ما يطرحه عديدون من افتراضات حول صعود الخزعلي سياسياً بـ 28 مقعداً بعد أن دخل بمقعد واحد قبل دورتين انتخابيتين، مشيرين إلى أن "ذلك هو ما يميّز الخزعلي عن الحركات الشيعية الأخرى".
ويرى منتقدو الطرح أعلاه، أن جميع الفصائل العراقية، عزّزت حضورها داخل البرلمان، وليس جماعة الخزعلي لوحدهم، حيث فازت كتلة "بدر" بـ19 مقعداً في البرلمان، و"حقوق"، الجناح السياسي لـ"كتائب حزب الله"، بستة مقاعد، و"سند"، الجناح السياسي لـ"جند الإمام" بستة مقاعد، وتحالف "خدمات"، بقيادة شبل الزيدي التابعة لـ"كتائب الإمام علي"، بخمسة مقاعد، وهو صعود يعود إلى "التهديدات الإقليمية وما خلقته من أجواء داخل العراق، خاصة بعد ما حدث في سوريا ولبنان".
رأي أميركي: مقاطعة التيار الصدري هي السبب
ولا تنظر الولايات المتحدة الأميركية بارتياح لهذا "الصعود الفصائلي" في الانتخابات العراقية، خاصة مع وجود دونالد ترامب في الرئاسة الأميركية.
ويقول الباحث في معهد واشنطن، ورئيس الأبحاث في "هرايزون إنجيج" (Horizon Engage)، وهي شركة استشارية استراتيجية متخصصة في قطاع الطاقة، مايكل نايتس إنه "يُنظر إلى صعود عصائب أهل الحق على أنه نتيجة لعملية شراء جماعي لبطاقات الاقتراع من قبل هذه المجموعة الإرهابية"، على حد تعبيره.
ويعتبر نايتس في حديث لـ"الجبال"، أن "هذا الأمر ومقاطعة التيار الصدري السببين الرئيسيين في زيادة عدد مقاعد العصائب بخمسة أضعاف".
وأكد، أنه "تنظر الحكومة الأميركية في عهد ترامب نظرة سلبية للغاية تجاه الزيادة الهائلة في أعداد النواب المنتمين إلى جماعات مصنفة على قوائم الإرهاب الأميركية، والذين يشكلون الآن أكثر من 10% من أعضاء البرلمان العراقي". مايكل نايتس هو رئيس الأبحاث في "هرايزون إنجيج" (Horizon Engage)، وهي شركة استشارية استراتيجية متخصصة في قطاع الطاقة.
ليس صعوداً.. استثمار مسلّح
هل كان أقوى المتفائلين يظن أن الخزعلي وفصيله ينافسون على مقاعد شيعية؟ يسأل هذا السؤال، أحمد كاظم، وهو صحفي مهتم بالحركات الشيعية، مضيفاً في حديث لـ"الجبال"، أن "الخزعلي استخدم العنوان الشروكي لأنه بلا مظلة عائلية أو علمية أو دينية أمام المنافسين الشيعة"، مشيراً إلى أنه "أيضاً للعبور على عدة أزمات داخلية في قيادته، خاصة بعد استغراق فصيله بالابتزاز الاقتصادي والنشاطات المافيوية، وهي معوقات كانت تحد من قدرته على تجذير نفسه اجتماعياً وإعادة إنتاج شرعياته داخل البيئة الجنوبية، وبالتالي أراد أن ينافس على جمهور شيعي بهذا العنوان، لكنه لم ينجح حتى الآن، والسبب في أن أتباعه يستفيدون من الرواتب ولا علاقة كاريزمية أو عقائدية لهم مع الخزعلي".
وسؤال صعود الخزعلي داخل الفضاء الشيعي، لا يراه كاظم غريباً، لأنه "يستفيد من التحالف غير المعلن بين النظام السياسي والميليشيات"، فضلاً عن "استثماره في البيئات غير المتعلمة التي تعاني من عقود التجهيل والحروب"، مؤكداً أن "رفض الخزعلي للخطاب الأرستقراطي، هو ليس نابعاً من تصورات ثورية نبيلة، وإنما محاولة لبناء مجتمع جنوبي، لا يرى في الخزعلي أي ميزة قيادية مؤثرة".
ويقول كاظم لـ"الجبال"، أيضاً إن "الخزعلي منذ حكومة عادل عبد المهدي استخدم كل النشاطات المافيوية لهذا الصعود، فلا يوجد ذكاء سياسي ولا خبرة انتخابية، وإنما استثمار تمنحه البيئة العراقية التي لا احترام فيها للديمقراطية ولا التنافس السياسي، وإنما للقوة والصواريخ والاستغلال".
ولا يعتقد كاظم بـ"وجود أي ميزة سياسية للخزعلي وفصيله، وإنما هو يمتلك كل آليات التنافس بالمال والسلاح والإعلام، ولو كان الفضاء ديمقراطياً، لجلس الخزعلي في البيت، وإنما يعتبر الفضاء العراقي مريضاً طائفياً، الغلبة فيه للقوي، وهو ما يفسّر أسباب وجود الحركات المسلّحة في النظام".
الإطار هو السبب
ومع الآراء التي لا ترى أي "ميزة" في الشروكي الذي يرفض أن يكون أرستقراطياً، يعتقد الخبير في الشؤون الاستراتيجية علي ناصر أن "كتلة صادقون مرّت بتحوّل كبير، من العمل المسلّح ضد داعش إلى الدخول في مجال السياسة والعمل السياسي"، مبيناً أن "هذه الخيارات التي لم يعمل بها الكثير من الكتل الأخرى، إضافة إلى الخطاب الموحد الذي اتسّم بالواقعية وعدم التغيير من فترة إلى أخرى، وهناك رمزية لشخصية قيس الخزعلي وهذه أثّرت أيضاً في زيادة عدد مقاعد صادقون في مجلس النواب العراقي".
وبالوقت نفسه، يرى مدير مركز "الرفد" للإعلام والدراسات الاستراتيجية عباس الجبوري، أن "انتماء الخزعلي إلى الإطار التنسيقي، يعطيه فرصة للتواجد في الساحة السياسية العراقية، كذلك المواقف السياسية القوية، حيث يتميز الخزعلي بمواقفه السياسية القوية، خاصة فيما يتعلق بقضايا العراق ، مثل رفضه للتدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للعراق".
وبيّن أنه "على مستوى الانتخابات النيابية، فحقّق الخزعلي نجاحاً كبيراً في الانتخابات النيابية العراقية، حيث حصل على عدد كبير من الأصوات، أما عن تفرده عن قادة الإطار التنسيقي، فإنه يمكن القول إن الخزعلي يتميز بمواقفه المستقلة، وإن كان يظل جزءاً من الإطار التنسيقي، ومع ذلك، فإن هناك خلافات بينه وبين بعض قادة الإطار التنسيقي، خاصة فيما يتعلق بملف الحشد الشعبي".
وختم مدير مركز "الرفد" للإعلام والدراسات الاستراتيجية حديثه بالقول إنه "بالإضافة إلى "حجم الدعاية الانتخابية وقوة المرشحين، كذلك وجود تنظيمات منضبطة، ساهمت جميعها في الحصول على هذا العدد من الأصوات لصالح العصائب، الذي بدأ يزداد بين دورة وأخرى".
"نظام اللوردات من أوصل الخزعلي لهذا الرقم"
وبالنسبة للصحفي مصطفى ناصر، فإن "من يصف أمين عام عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، بالقيادي والسياسي الناجح، فهو مخطئ؛ لكونه صعد عبر نظام اللوردات".
وقال ناصر في حديث لمنصّة "الجبال"، إن "من يعتقد أن هناك عملية انتخابية في العراق، كالتي تجري في البلدان الديمقراطية، فهو مخطئ"، مشيراً إلى أن "ما يجري في العراق عبارة عن جمع جمهور لإنتاج شرعيات للوردات متحكمة بالمشهد السياسي كل 4 سنوات".
وأضاف: "لا يوجد نظام سياسي في العراق، ولا نظام حزبي ولا ديمقراطي، كل ما يجري هو عملية شراء أصوات بأموال فاسد وبأموال الدولة. بالنتيجة من لديه المليارات هو الوحيد القادر على المنافسة".
وتابع: "لدينا 9 لوردات يمثّلون العملية السياسية في كل دورة، هؤلاء هم ذاتهم يحصلون على أعلى الأصوات في كل دورة انتخابية، لذا ما جرى من صعود للخزعلي في الانتخابات يعود إلى كونه أحد اللوردات المتشاركة في هذه الطبقة السياسية، كما كان المالكي سابقاً، أصبح الآن لدينا عمار الحكيم وقيس الخزعلي ومحمد الحلبوسي والخنجر وهادي العامري. هؤلاء الوحيدون القادرون على شراء الأصوات بحكم ثرواتهم الطائلة".
ولفت إلى أن "صعود قيس الخزعلي مؤشر على اشتراكه في جسد العملية السياسية، فهو واحد من الخمسة الأوائل في البيت الشيعي، بالإضافة إلى اثنين من السنة والكورد، لذا من يحاول أن يصنع من قيس الخزعلي بوصفه قيادياً أو سياسياً ناجحاً، هو مخطئ؛ لأن نظام اللوردات هو الذي يتحكم بالمشهد السياسي العراقي".
(مواقع التواصل)