خاص| انقسامات حادة واستغلال الدين لـ"المقاعد".. كيف يتم توظيف المساجد والحسينيات بموسم الانتخابات؟

خاص| انقسامات حادة واستغلال الدين لـ"المقاعد".. كيف يتم توظيف المساجد والحسينيات بموسم الانتخابات؟ جامع أبو حنيفة في بغداد - AFP

منذ عقود، ظلّ المنبر الديني في العراق أحد أهم أركان الحياة الاجتماعية والروحية، وفضاءً لـ"تعزيز القيم الدينية" كما يقول قائمون عليه، لكن بعد عام 2003 ومع التحولات السياسية الكبرى التي شهدها البلد وصعود الإسلام السياسي بمختلف تشكيلاته بدأ المنبر يتراجع عن دوره الروحي البحت ليتحول شيئاً فشيئاً إلى ساحة للتعبئة الانتخابية وصراع النفوذ بين الكتل والأحزاب.


ومع اقتراب كل استحقاق انتخابي، تتزايد المخاوف من خلط المقدس بالسياسي ومن استغلال المساجد والحسينيات والمجالس الدينية لتوجيه الناخبين واستدرار عواطفهم المذهبية، في مشهد يعكس هشاشة العلاقة بين الدين والسياسة في العراق ما بعد التغيير.

 

ويوم أمس، انتشر مقطع مصور في أحد المساجد، لرجل الدين، جلال الدين الصغير، وهو يوجّه كلامه إلى المقاطعين متسائلًا: "تريدون أن يرجع عبد الزهرة يخدم عمر وأمثاله؟"، حيث اعتبر مدونون أن هذا الخطاب يرسخ "توجهات طائفية" ويستثمر المنبر من أجل المقاعد. 

 

المنبر من الوعظ إلى الدعاية


تؤكد دراسات بحثية مقارنة، أن استغلال المنابر الدينية في الدعاية الانتخابية يمثل انحرافاً جوهرياً عن وظيفتها الأصلية، فالمسجد أو الحسينية وفق المنظور الديني، هو "فضاء للتقوى والإصلاح لا ساحة للترويج السياسي"، ومع ذلك، تحوّلت بعض المنابر في السنوات الأخيرة إلى أدوات انتخابية صريحة يُروَّج من خلالها لمرشحين متهمين بالفساد فقط لأنهم ينتمون إلى مذهب معين أو حزب ذي توجه ديني.


وبهذا الصدد، يحذّر المراقب السياسي والانتخابي رياض الوحيلي في حديثه لموقع "الجبال" من "القلق المتزايد إزاء ظاهرة استغلال المنابر الدينية من قبل بعض المرشحين والكتل السياسية مع اقتراب موعد الانتخابات"، مؤكداً أن "المنابر وجدت لتعزيز القيم الروحية والأخلاقية، لا لتكون أدوات دعائية انتخابية". 


ويهدد هذا التحول بحسب الوحيلي، حياد المؤسسة الدينية ويفقد المنبر قدسيته، إذ يُدخل الخطاب الديني في دائرة المنافسة السياسية ما يجعله عرضة للانقسام والتسييس ويضعف ثقة الناس برجال الدين وخطب الجمعة التي كانت تمثل مرجعية أخلاقية جامعة.


بالمقابل، تُظهر التحليلات القانونية أن غياب النصوص الملزمة التي تجرّم توظيف المنابر في الحملات الانتخابية سمح للأحزاب باستغلال الرمزية الدينية كغطاء لحشد الأصوات.


وفي تفسيره لأسباب الظاهرة أوضح الوحيلي أن "سماح بعض رجال الدين بهذا الاستغلال يعود إلى غياب الرقابة أو إلى ضغوط سياسية تمارسها جهات نافذة وأحياناً إلى اجتهادات شخصية غير منضبطة"، مؤكداً أن المنبر "ليس ملكاً شخصياً للخطيب بل أمانة عامة تجاه المجتمع".


وتشير الدراسات الميدانية إلى أن شبكة المصالح والضغوط الاجتماعية والسياسية لعبت دوراً محورياً في إدماج الخطباء باللعبة الانتخابية لاسيما في المناطق التي يهيمن فيها الإسلام السياسي على المجال العام، حيث يتم استخدام المنبر لتوجيه الخطاب الجماهيري بما يخدم مصالح حزبية ضيقة.

 

استغلال المنابر الدينية


تربط الدراسات الأكاديمية بين استغلال المنابر وصعود الأحزاب الإسلامية بعد 2003، حيث جرى توظيف الحسينيات والخطاب الحسيني في المناطق الشيعية لبناء تعبئة انتخابية عاطفية، فيما استخدمت بعض خطب الجمعة في المناطق السنية لتوجيه الناخبين نحو مرشحين محددين.


ومع مرور الوقت، تجاوز هذا الاستخدام حدود الدعوة العامة إلى دعوات طائفية ومذهبية صريحة وصلت إلى حد تبرير انتخاب الفاسدين بحجة الانتماء المذهبي.


ويرى خبراء تحدثوا لموقع "الجبال"، أن هذا الانزلاق يشكل خطراً مزدوجاً، فهو من جهة يشرعن الفساد باسم الانتماء، ومن جهة أخرى يقوّض مكانة المنبر كفضاء روحي جامع. 


وبالنسبة لدور المرجعيات الدينية، يشير الوحيلي من جديد إلى أن "المرجعيات الدينية السنية والشيعية على السواء، أكدت مراراً ضرورة النأي بالمنبر عن التوظيف السياسي المباشر وحذرت من خلط الدين بالانتخابات لما في ذلك من إساءة لقدسية الخطاب الديني".


لكن هذه التحذيرات، وفق تقديرات مؤسساتية حديثة تظل في إطار الوعظ الأخلاقي غير الملزم، بسبب غياب آليات رقابية حقيقية تجعل هذه التوجيهات قابلة للتطبيق العملي.


ويختم الوحيلي تصريحه بالقول إن "المطلوب اليوم موقف أوضح وأكثر صرامة من المرجعيات، وتفعيل الرقابة الرسمية والشعبية لحماية المنبر الديني من التسييس".


ويرى خبراء الفقه الدستوري، أن هذه الدعوة تمثل اعترافاً صريحاً بخطورة الظاهرة، وأن الحل يكمن في مسارين متوازيين: الأول تشريعي عبر إصدار قوانين انتخابية تمنع استغلال المنابر، والثاني ديني عبر مواقف أكثر حزماً من المرجعيات في ضبط الخطباء والأئمة.

 

"الدين ليس بطاقة انتخابية"

 

بدورهم، يرى ناشطون حقوقيون أن الأحزاب الإسلامية باتت تستخدم المنابر الدينية كوسيلة تأثير رئيسية في اتجاهات الناخبين، مستفيدة من المكانة الوجدانية لرجال الدين في المجتمع العراقي.


وقال الناشط الحقوقي علي عباس في تصريح لموقع "الجبال"، إن "استغلال المنابر الدينية أصبح من أبرز أدوات تيارات الإسلام السياسي في العراق، وهو خطر على نزاهة العملية الانتخابية".


وأضاف عباس، أن "الدين وُجد لإصلاح النفوس لا لترويج الأحزاب، وعلى الدعاة أن يختاروا بين الرسالة الدينية والمعترك الانتخابي، فمن أراد السياسة فليترك المنبر مؤقتاً لمن يحافظ على حياده".


وختم بأن "تلاعب الأحزاب بالمقدسات من أجل كسب الأصوات لا يهدد فقط نزاهة الانتخابات، بل يضرب أخلاقيات العمل الديني ذاته".


من جهته، قال القانوني علي باشخ إن "محاولة زج المؤسسة الدينية في المشاريع السياسية قد تبدو مغرية على المدى القصير، لكنها تحمل مخاطر كبيرة على النسيج المجتمعي"، مشيراً إلى أن "مثل هذه الممارسات قد تعمق الانقسامات داخل المجتمع".


وفي ذات السياق، قال القيادي في تحالف العزم عزام الحمداني إن "محاولة تصوير ما جرى لرئيس حزب تقدم محمد الحلبوسي على أنه استهداف للسنة هي لعبة سياسية مكشوفة تهدف للكسب الانتخابي، لكن الشارع السني بات أكثر وعياً من الانجرار خلف هذه السرديات".


وأكد الحمداني أن “الادعاء بتمثيل مكوّن كامل من قبل جهة واحدة محاولة خطيرة قد تؤدي إلى تفجير الخلافات داخل البيت السني".


ولم تعد ظاهرة تسييس المنابر مجرد نقاش فكري أو إعلامي، بل تحولت إلى "واقع مأزوم" تجلّى مؤخراً في حادثة مأساوية شهدها جامع عبد الكريم ناصر في بغداد، حيث قُتل الإمام والخطيب الشيخ عبد الستار القرغولي في واقعة أثارت صدمة في الشارع العراقي.


وكشفت الحادثة، بحسب مصادر دينية تحدثت لموقع "الجبال" عن انقسامات حادة بين التيارات الساعية للسيطرة على المشهد الديني وتوظيفه انتخابياً، لتتحول المساجد إلى ساحات صراع سياسي بدل أن تكون بيوتاً للعبادة.


ويحذر مختصون من أن هذا التوظيف السياسي للدين يُفقد المنبر قدسيته، ويحوّل الدين من عنصر توحيد إلى أداة تعبئة وانقسام، ما يهدد السلم المجتمعي ويضعف الثقة بالمؤسسة الدينية.

الجبال

نُشرت في الثلاثاء 7 أكتوبر 2025 12:00 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.