مياه النهرين أقل من شرب العراقيين بـ20%.. لماذا أزمة الجفاف الحالية لا تشبه سابقاتها؟ 

مياه النهرين أقل من شرب العراقيين بـ20%.. لماذا أزمة الجفاف الحالية لا تشبه سابقاتها؟  نهر دجلة - AFP

طوال العقدين الماضيين، اختبر العراق الكثير من الأزمات المزمنة والطارئة، لكن هذه الأزمات وحتى المزمنة منها، تبقى في حدود كونها أزمة مثل الكهرباء على سبيل المثال، إلا أن بعض الأزمات قد تتطور إلى "كوارث" أو ترتقي لأن تكون خطراً مهدداً للبقاء أو للأمن القومي ذاته.

 

وفي الوقت الحالي، ربما تكون قصة الضربات الإسرائيلية او الأميركية المحتملة، أو تورط العراق في الجولة الثانية المتوقعة من معركة إيران و"إسرائيل"، هو التهديد الأكثر إشغالًا للأجواء السياسية والإعلامية، غير أن أزمة المياه والجفاف في العراق، يوازي خطره الحالي، خطر المخاوف الأمنية.


ولكن، أزمة الجفاف ليست حديثة، فالعراقيون اعتادوا عليها للعام السادس على التوالي، وهو ما يدفع للسؤال عن "ما هو الجديد؟"، ولماذا انتقلت أزمة المياه من كونها "أزمة مزمنة" إلى تهديد يوازي المخاوف الأمنية؟


ربما يكفي للوهلة الأولى، إدراك أسباب كون أزمة الجفاف الحالية لا تشبه سابقاتها، بمجرد الاطلاع على مواقف السلطات الحكومية حول أزمة المياه، فطوال السنوات الخمس الماضية، وفي جميع مراحل الجفاف القاسية، لم تصل وزارة الموارد المائية إلى الحديث عن أن الجفاف قد يهدد مياه الشرب، فطوال السنوات الماضية، كانت الوزارة عندما تتحدث عن الجفاف وانخفاض المخزون المائي، تقول إن مياه الشرب مؤمّنة ولا خوف عليها، لكن التأثير يتعلق بالزراعة، فتضطر إلى المناورة بالمساحات المزروعة وتقليصها، والاعتماد على مياه الآبار، لكن الآن، تتحدث السلطات المختصة وكأنها "تكافح" لتلبية احتياجات السكان من مياه الشرب، بل أن وزير الخارجية فؤاد حسين وصف بشكل واضح أن أزمة المياه التي يعاني منها العراق تنعكس مباشرة على تأمين مياه الشرب.

 

المؤشر الآخر الذي يبيّن مدى قسوة الجفاف الحالي مقارنة بالسنوات الخمس الماضية، إعلان وزارة الموارد المائية قبل أسابيع، أن العراق خرج من مرحلة شح المياه ودخل إلى "ندرة المياه"، كل هذا بعيداً عن إعلان أن الخزين المائي هو الأدنى في تاريخ العراق، لأن الخزين المائي وصل لمستويات أدنى في السنوات السابقة، لكن الأزمة المائية لم تكن بهذه الخطورة الحالية، لذلك، تعمل "الجبال" من خلال هذا التقرير على تفكيك الأزمة بالأرقام، للتوصل إلى "ما هو الجديد"، ولماذا تعد هذه الأزمة لا تشبه سابقاتها، لتؤدي إلى تهديد مياه الشرب، وتحول العراق إلى "مرحلة الندرة".


بداية القصة كان آخر عام فيضاني شهده العراق، هو عام 2019، حيث بلغت كمية الإيرادات المائية للعراق في ذلك العام أكثر من 90 مليار متر مكعب، تم استخدام أقل من 60 مليار متر مكعب منها للزراعة والاستخدامات المنزلية والصناعية، ومن ذلك الحين انخفضت إيرادات المياه إلى النصف في العام التالي ثم إلى الربع وصولاً إلى 2023 و2024 حيث بلغت الإيرادات أقل من 25 مليار متر مكعب، بالمقابل تبلغ أدنى كمية مياه مجهزة لمختلف الاستخدامات حوالي 35 مليار متر مكعب، أي أن الدولة احتاجت لاستخدام جزء من الخزين المائي لسد كمية العجز البالغة 25‎%‎، بمعنى أن الإيرادات المائية كانت تسد حوالي 75‎%‎ من الحاجة، والمتبقي يتم تعويضه من الخزين المائي.


حتى الان، تبدو الصورة مسيطر عليها، فالعجز المائي يبلغ بين 7 إلى 10 مليار متر مكعب في أحسن الأحوال، بالمقابل كان الخزين المائي في العراق حوالي 11 مليار متر مكعب، لذلك يمكن استخدام جزء منه لسد العجز. 


2024.. رفع الخزين إلى الضعف 


خلال العام الماضي 2024، تذبذبت الإيرادات المائية بحسب الأشهر، لكنها عموماً، كانت في اسوأ الأحوال قد بلغت 350 متر مكعب/ثا في نهر دجلة، و170 متر مكعب/ثا في نهر الفرات، فيما جاءت أوقات ارتفعت إيرادات دجلة فيها لـ400 م3/ثا، والفرات الى 500 م3/ثا، لكن مع احتساب الحد الأدنى من الإيرادات، سيكون لدى العراق حوالي 500 م3/ثا في مجموع النهرين، وبهذا سيكون لدى العراق 16 مليار متر مكعب خلال العام، لكن في الحقيقة، كانت كمية الإيرادات أعلى من ذلك، حتى أن العراق تمكن من رفع الخزين المائي حتى نهاية 2024 الى 15 مليار متر مكعب، بعد أن وصل لأدنى مستوى له في أواخر 2023 وبلغ حينها 6.6 مليار متر مكعب فقط.


وبالنظر إلى الخزين المائي في 2023 الذي بلغ 6.6 مليار متر مكعب فقط، مقارنة بالخزين المائي الحالي في 2025 والبالغ 8 مليار متر مكعب، يتضح أن الخزين الحالي أعلى من 2023، لكن مع ذلك، لم يكن عام 2023 عاماً مائياً خطراً كما الآن، ولم يصل التهديد إلى مياه الشرب أو الدخول بالندرة المائية، والسر يكمن في الإيرادات المائية حينها التي تجاوزت الـ20 مليار متر مكعب.


الفرات يتفوق على دجلة "لأول مرة"


لكن، ما يجري الآن، في إجابة على سؤال "ما الجديد الآن في الأزمة المائية" التي أوصلت العراق لمرحلة الخطر المسيطرة على الأجواء؟"، يتضح بوضوح في أرقام الإيرادات المائية، فبعد أشهر الربيع، بدأت إيرادات نهر دجلة بالتناقص، بعد أن كانت طوال الأعوام الماضية، أفضل بكثير من نهر الفرات، ولأول مرة، أصبحت إيرادات الفرات أعلى من دجلة منذ سنوات، فبلغت إيرادات الفرات في بداية العام الحالي أكثر من 400 م3/ثا، بعد أن كانت 170-190 أو 240 م3/ثا في أحسن أحواله.


بالمقابل، تراجع نهر دجلة إلى 150 م3/ثا، وبعد أشهر الربيع الماضي، تراجعت إيرادات نهر الفرات هي الأخرى إلى 170 م3/ثا، ليكون مجموع الإيرادات 320 م3/ثا، بل في الأشهر التي سبقت زيارة رئيس البرلمان، محمود المشهداني إلى تركيا في مطلع تموز الماضي، كان إجمالي ما يصل في النهرين يبلغ 200 م3/ثا فقط، وبعد زيارة المشهداني والإعلان عن موافقة تركيّة لرفع الإطلاقات الى 420 م3/ثا خلال اشهر حزيران وتموز واب، لم تتحقق الكميات المعلن عنها، وبلغت الايرادات حتى الآن 350 م3/ثا فقط، أي أقل من المتفق عليه بحوالي 20‎%‎.


العجز المائي 70%.. لهذا الأزمة مختلفة اليوم 


وباحتساب معدل الاطلاقات عند 300 م3/ثا كمتوسط، ستكون إيرادات العراق خلال 2025 حوالي 9 مليار متر مكعب فقط، مقارنة بأكثر من 15 مليار متر مكعب في 2024. 


وبعد أن كان العجز المائي يحوم حول 30% في السنوات السابقة، سيكون العجز المائي في هذا العام حوالي 70‎%‎، فالإيرادات لا تتجاوز الـ9 مليار متر مكعب هذا العام، مقارنة باحتياجات مائية تبلغ أكثر من 30 مليار متر مكعب، الأمر الذي يكشف حجم الخطر وسر الاختلاف الكبير بين أزمة المياه 2025، والأزمة في السنوات الخمس الماضية، بالرغم من أن حجم الخزين حالياً أكبر من خزين 2023، إلا أن المعضلة الأساسية تكمن في الإيرادات المائية.


بصورة أوضح، يبلغ العجز المائي حالياً حوالي 20 مليار متر مكعب، بعد أن كان لا يتجاوز الـ10 مليارات متر مكعب في اسوأ الأحوال خلال السنوات الماضية، بالمقابل يبلغ الخزين المائي 8 مليار متر مكعب فقط، ما يعني أن الخزين يسد 40% فقط من حجم العجز المائي، بل أن الإيرادات الكلية مع الخزين الكلي سيكون 17 مليار متر مكعب، بينما تبلغ الحاجة أكثر من 30 مليار متر مكعب، أي أن كل المياه المتوفرة تسد 55%‎ فقط من إجمالي الحاجة المائية لمختلف الاستخدامات في العراق.


وفي حال استبعاد كل الاستخدامات الأخرى، والتركيز على مياه الشرب والاستخدامات اليومية لوحدها البالغة 11 مليار متر مكعب سنوياً لحوالي 46 مليون نسمة من السكان، يتضح  أن الإيرادات المائية البالغة قرابة 9 مليارات فقط لا تكفي حتى لسد الحاجة لمياه الشرب لوحدها، هذا بافتراض إلغاء جميع الفعاليات والاحتياجات الأخرى مثل الزراعة والصناعة، وتوفير المياه للشرب والاستخدامات المنزلية، بما يعني ان نسبة العجز فقط في مياه الشرب ستكون 20‎%.

علي الأعرجي صحفي عراقي

نُشرت في الأحد 7 سبتمبر 2025 02:45 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.