العراق: دولة المواطن أم الفقيه؟

4 قراءة دقيقة
العراق: دولة المواطن أم الفقيه؟

في العديد من المناسبات خلال العشرين سنة الماضية كان بعض المثقفين والصحفيين يكتب بارتياح: الحمد لله نحن لسنا بلداً من بلدان "الوليّ الفقيه"، فمرجعية النجف، التي يتّبعها نسبة كبيرة من شيعة العراق، لا تعترف بولاية الفقيه ولا تطبّقها، بل أن هوية هذه المرجعية الأساسية تحاول تبيان أنها تحافظ على تقاليد المؤسسة الدينية الشيعية العريقة والاستمرار بها.

 

من وقت مبكّر كتب توماس فريدمان، الصحفي الأميركي المعروف، مقالة بيّن فيها؛ أن النظام السياسي الجديد في العراق سيكون في منطقة وسطى ما بين نظامي تركيا وإيران، فسيكون أكثر علمنة من إيران، وأكثر تديّناً من تركيا.

 

في واقع الحال لعب الدين والمؤسسات الدينية المختلفة، على رأسها مرجعية النجف الشيعية، أدواراً بارزة في الحياة السياسية العراقية خلال العقدين الماضيين، وتصارعت النخب المختلفة، السياسية والمجتمعية في محاولة إبراز الجانب المدني العلماني للدولة العراقية أو أصالة وعمق الارتباط الديني، وضرورة أن ينعكس ذلك على شكل الدولة ومؤسساتها. وظل هناك شيء من التوازن الحذر ما بين القطبين والجانبين. يعكس ربما محددات التشريع الذي وضع الشريعة الاسلامية ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان على قدم سواء، ولم يفرض جانباً على آخر. فالفقرة (أ) من المادة الثانية في الدستور العراقي تنصّ على أن الإسلام مصدرٌ أساسٌ للتشريع، ثم تؤكد الفقرتان (ب) و (ج) على أنه لا يجوز سنّ قوانين تتعارض مع مبادئ الديمقراطية والحقوق والحريّات الأساسية.

 

وعلى حدّ رأي القانوني الراحل طارق حرب، فإن فلسفة التشريع هنا تعرف تماماً حدود التناقض ما بين المطلبين، ومع ذلك هي تعوّل على تنشيط الاجتهاد السياسي والقانوني لتوليد توافقات ما بين الحدّين المتناقضين.

 

وبالتأكيد حين يسيطر جوّ متشدّد دينياً فإن التأويلات ستحاول سحب التشريعات إلى جرف الشريعة الإسلامية، وحينما يسود الانفتاح فإن التشريعات ستذهب باتجاه مبادئ حقوق الإنسان أكثر.

 

هذه هي مساحة اللعب السياسي والقانوني المتاحة، ولا يمكن لطرف سياسي، مهما كان ثقله، أن ينقض الدستور أو يلغيه هكذا بجرّة قلم. وبعد ذلك يمكننا أن نفهم المقاصد البعيدة لكل هذه الهجمة المرتدّة التي تريد إخافة الناس، المتديّنين منهم حصراً، بهراوة الشريعة والدين وسلطة الفقيه. إنها دعايات سياسية وربما ترويج انتخابي مبكّر، ليس إلا.

 

إن كانت بعض الأصوات تنادي بالعودة إلى سلطة الفقيه، وأنه هو المشرّع، وهو الذي يحق له وحده أن يحكم بالقوانين "الحقّة"، فعليه أولاً أن يدعو إلى تعديل الدستور العراقي. وهذا مطلبٌ شبه مستحيل.

 

نعم، لا أحد من القوى السياسية العراقية الحالية يلتزم بالدستور حرفياً، وهناك الكثير من الأعمال المخالفة للدستور ارتكبتها كلّ الأطراف السياسية تقريباً، بل إن اللعب خارج القانون أصلاً كان عنصراً فاعلاً وأساسياً في تحديد المسارات السياسية، على الأقل من انتخابات 2021 الى اليوم.

 

ولكن هذا كلّه شيء، والعمل بالضد من الدستور، ومحاولة الاستقواء بقوى الأمر الواقع، وترهيب الناس وتخويفهم بالله والشريعة والدين، هو أمرٌ آخر.

 

يتحجّج الفقهاء الذين يخرجون على وسائل الإعلام بأنهم لا يريدون فرض رؤيتهم على كلّ العراقيين، وإنما الشيعة فحسب، وأن ما يقولونه هو مطلب للشيعة. ولكن هذا هو أيضاً مصادرة على رأي الشيعة، لأنهم لم ينتخبوا هذا الفقيه، ولم يفوّضوه الحديث باسمهم. ثم أن لا يوجد "شيعة" على أرض الواقع وفق الوصف الذي يتخيّله هؤلاء الفقهاء. وكأنهم لون واحد وشكل وصوت واحد. إن الموجودين على أرض الواقع مواطنون عراقيون، من اصول دينية شيعية، ولكنها ليست الأصول الحاكمة الوحيدة؛ فالأصل الاجتماعي والعشائري والمستوى المادي والتعليمي، وأيضاً الاختيارات السياسية، وطرق التفكير لا تجعلهم جماعة واحدة متماسكة ومنسجمة تحت عنوان أنهم "شيعة".

 

الأكثر أصالة وقوّة هو أن العراقيين، شيعة وسنّة وكرداً وغيرهم، قد صوّتوا على دستور، وينتخبون كلّ أربع سنوات، ممثلين عنهم. وما سوى ذلك لا يحقّ لأحد أن يتحدّث باسمهم أو بالنيابة عنهم. وما يقوله هؤلاء الفقهاء إنما هي أهواء السياسة ومطامح السلطة ليس إلا.

 

 

أحمد سعداوي كاتب وروائي

نُشرت في الأحد 1 سبتمبر 2024 03:00 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

المزيد من المنشورات

© 2024 الجبال. كل الحقوق محفوظة.