خاص| أهالي أهوار الناصرية توزعوا في المدن.. التغير المناخي أفقدهم هويتهم ورزقهم وذاكرتهم

خاص| أهالي أهوار الناصرية توزعوا في المدن.. التغير المناخي أفقدهم هويتهم ورزقهم وذاكرتهم صورة جوية تظهر الجفاف في هور "الطار" - الجبال

بعد ان كانت الشمس تشرق على مسطح الماء الهادئ ويعلوه صوت الطير على وقع المجاذيف، كان ناجي أرحيم يعيش حياة طالما ورثها عن آبائه وأجداده، مملكة من الماء في هور "الطار" أقصى جنوب الناصرية لا تعرف الإسمنت ولا الضوضاء، كانت مصدر رزقه وملاذه الآمن لصيد السمك وتربية الجاموس ويطارد الطيور بحذر ورهبة كأنه أحد مكونات هذا العالم البريّ العذب.

 

لكن هذه المملكة تلاشت شيئاً فشيئاً حتى تحولت إلى أرض متشققة لا أثر فيها للماء ولا طيف للسمك أو الجاموس ومعها، تبدّلت حياة ناجي.

 

منذ أكثر من خمس سنوات ترك ناجي مدينته الغارقة بالجفاف، وهاجر مع عائلته إلى كرمة بني سعيد جنوب الناصرية، باحثاً عن حياة جديدة، ولو كانت بعيدة عن روحه إذ يقول لمنصة "الجبال": "كنت أعيش من خير الأهوار أصيد السمك والطيور، وأربي الجاموس.. واليوم أعمل في تنظيم علوة لبيع الأسماك، مهنة لا تشبهني، لكنها كل ما تبقّى لي".

 

أبناؤه أيضاً تركوا مهنة الآباء والأجداد، فاتجهوا إلى العمل في البناء وبيع الخضار وأعمال حرة تكاد تسد رمق العيش لكنهم كما يقول "يفتقدون الماء أكثر مما يفتقدون المال".

 

ولم يكن ناجي الوحيد، إنما أبو حسين الصيّاد السابق في هور الجبايش هو الآخر غادر موطنه المائي تاركاً خلفه مهنة كانت توفر له دخلاً يومياً يزيد على 100 ألف دينار تقريباً ليعتمد اليوم على راتبه التقاعدي كمصدر رزقٍ وحيد بعد أن جف الهور، وجفت معه الحياة التي عرفها.

 

 

ويقول حيدر سعدي، رئيس لجنة التغيرات المناخية في ذي قار، في تصريح لمنصة "الجبال"، إن "موجة النزوح من مناطق الأهوار أثرت بشكل كبير على النسيج الاقتصادي والمهني لتلك المناطق"، واصفاً الأمر بأنه "أصبح أشبه بتبديد للثروة"، محذراً من أن "تحول الصيادين والمربين من منتجين إلى مستهلكين قد يشكّل ضغطاً على المدن ويخلق تهديداً اجتماعياً واقتصادياً طويل الأمد".

 

وتابع أن "هناك عشرات العوائل نزحت بالفعل من الأهوار إلى مراكز المدن أو مدن أخرى، ومع هذا النزوح ارتفعت نسب تسرب الأطفال من المدارس واستقر الكثير منهم في مناطق تفتقر لأبسط الخدمات، ما يتطلب موازنات إضافية لمواجهة هذا الواقع".

 

 

 ناجي وعلى الرغم من واقعه الجديد لا يزال يحمل لقباً يحاول أن يحافظ عليه إذ يشغل منصب رئيس جمعية الصيادين في جنوب الناصرية ويقول إن "قرابة ألف صياد إمّا هاجروا إلى مدن الفرات الأوسط بحثاً عن مصدر رزق أو تركوا المهنة نهائياً".

 

ويعيش الصيادون في المدينة وهم يتحدثون عن ذكرياتهم، حيث تحولوا اليوم إلى بيّاعي سمك، بدلاً من صيده ويتمنون عودة المياه أكثر من أي شيء آخر، وفق مقابلات أجريت معهم. 

 

 

وترى منار ماجد، التدريسية في جامعة ذي قار والمتخصصة في الجغرافية البيئية، أن "تأثيرات تغيّر المناخ لم تعد بيئية فقط بل باتت تهدد الأمن المجتمعي بشكل مباشر إذ دفعت كثيراً من الأفراد إلى ترك مهنهم الأصلية، التي تعلموها ومارسوها لعقود، والبحث عن مصادر رزق أخرى لا تمت بصلة لتخصصاتهم أو مهاراتهم كما هو الحال مع صيادي الأسماك ومربي الجاموس في مناطق الأهوار والريف".

 

وتوضح ماجد أن "المشكلة تتفاقم بسبب أن معظم سكان الأهوار والقرى الريفية لا يتقاضون رواتب تقاعدية أو إعانات من شبكة الحماية الاجتماعية، ما يدفعهم، وخصوصاً فئة الشباب إلى اللجوء لخيارات معيشية خطرة أو غير قانونية في محاولة للهروب من واقعهم الصعب والبحث عن دخل يسد الرمق". 

 

 

وأشارت ماجد إلى أن "النزوح القسري من الريف إلى المدينة لا يُفقد المجتمع الأهواري ثقافته وهويته فقط، بل يؤدي أيضاً إلى تراجع في الأمن الغذائي بسبب اتساع الفجوات الغذائية الناتجة عن ترك الأراضي الزراعية دون استصلاح، بفعل انخفاض منسوب المياه وارتفاع ملوحة التربة، ما أدى إلى تراجع الإنتاج الزراعي بشكل حاد".

 

وتؤكد الباحثة أن "محافظة ذي قار فقدت أحد أهم مواردها الاقتصادية والمتمثل في الثروة السمكية مشيرة إلى أن قضاء الجبايش وحده كان يصدّر ما بين 90 إلى 100 طن من الأسماك في فترات الوفرة المائية، أما اليوم فقد انخفض الإنتاج إلى الصفر تقريباً بسبب الجفاف وتدهور البيئة المائية".

 

أما على صعيد الزراعة فتبيّن ماجد أن المساحة المسموح بزراعتها في عموم المحافظة انخفضت من نحو 500 ألف دونم إلى أقل من 200 ألف دونم فقط. 

 

 

وكشفت المنظمة الدولية للهجرة (IOM) في تقرير صدر سابقاً يبين حجم التأثير الكارثي الذي خلّفه التدهور البيئي والتغير المناخي في العراق، مؤكدة أن "أزمة المياه والجفاف كانت من أبرز أسباب النزوح الداخلي وتدهور الواقع المعيشي في عدد كبير من المحافظات".

 

وأشار التقرير الذي رصد الفترة الممتدة من يونيو 2018 حتى سبتمبر 2023، إلى أن "أكثر من 21798 عائلة اضطرت إلى ترك مناطقها الأصلية بسبب نقص المياه وتراجع الموارد الطبيعية"، مبيناً أن "النزوح شمل 12 محافظة عراقية تأثرت بدرجات متفاوتة".

 

 

وتصدّرت محافظة ذي قار القائمة من حيث عدد العائلات النازحة، تلتها محافظة ميسان ثم النجف، ما يعكس حجم الأزمة التي تعانيها مناطق الجنوب بفعل الجفاف وغياب السياسات المائية المستدامة.

 

التقرير يسلّط الضوء على الحاجة الملحة لتحرك وطني ودولي عاجل لوقف نزيف النزوح الناتج عن التغير المناخي، والحد من آثاره على الأمن المجتمعي والاقتصادي في البلاد.

 

 

وأوضح أستاذ علم الجغرافيا في محافظة ذي قار، الدكتور حسين الزيادي، لمنصة "الجبال" أن "هناك تدهوراً غير مسبوق في مساحات الأهوار المغمورة بالمياه خلال السنوات الماضية"، مشيراً إلى أن "ذروة الإغمار سُجلت في عام 2019 حين بلغت المساحات المغمورة أكثر من 4478 كيلومتراً مربعاً، نتيجة موسم مطري استثنائي".

 

إلا أن هذا الواقع لم يدم طويلاً بحسب الزيادي، إذ شهدت الأهوار تراجعاً حاداً في عام 2021 بسبب قلة الإطلاقات المائية، ما أدى إلى انخفاض المساحات المائية إلى نحو 1490 كيلومتراً مربعاً، قبل أن يتفاقم الجفاف بشكل غير مسبوق في عام 2022.

 

 

وأكد الزيادي أن عام 2023 يعد من أسوأ السنوات الهيدرولوجية في تاريخ العراق حيث تراجع الخزين المائي إلى مستويات حرجة، وانخفضت مساحة الأهوار المغطاة بالمياه إلى أقل من 600 كيلومتر مربع وفقاً لتحليلات صور الأقمار الصناعية.

 

ووصف الزيادي هذا التراجع بـ"الكارثي"، مشدداً على أن "العراق يمر بمرحلة جفاف تاريخية تتطلب استراتيجيات عاجلة لإنقاذ ما تبقى من النظام البيئي في مناطق الأهوار".

 

 

ويقول بسام الغزي مدير دائرة الهجرة والمهجرين في ذي قار، لـ"الجبال" إن "التغير المناخي كان السبب الأبرز في نزوح 10300 عائلة خلال خمس سنوات". ولفت إلى أنه "نحن نعمل مع الوزارة والمنظمات لتوفير الإغاثة، وتم تقديم أكثر من 5 آلاف سلة غذائية وسلع منزلية للعوائل المتضررة".

 

الجبال

نُشرت في الخميس 5 يونيو 2025 01:30 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.