من دواء إلى "كارثة طبية".. ما قصة مرض الإيدز في العراق؟

12 قراءة دقيقة
من دواء إلى "كارثة طبية".. ما قصة مرض الإيدز في العراق؟ مركز طبي/ تعبيرية

ظلّ فيروس نقص المناعة المكتسبة "الإيدز" ملفاً شائكاً لعقود، بين ماضٍ جُرح فيه الوطن بشحنة دم ملوثة فتحت أبواب الكارثة، وحاضرٍ يبذل فيه النظام الصحي جهده للسيطرة والحماية.

 

في عام 1986، لم يكن العراق يعرف الكثير عن فيروس نقص المناعة المكتسب (الإيدز)، ولم تكن هناك أي برامج وطنية للتعامل مع هذا المرض الغامض آنذاك. لكن ما حدث في ذلك العام غيّر كل شيء، وترك جرحاً لا يُنسى في ذاكرة القطاع الصحي العراقي.

 

بدأت القصة عندما استوردت وزارة الصحة شحنة من الأمصال الخاصة بعلاج مرضى الهيموفيليا من شركة "ماريو" الفرنسية، وهي شركة شهيرة بإنتاج مشتقات الدم. دخلت تلك الشحنات إلى مستشفيات بغداد كأمل للمرضى، لكنها سرعان ما تحولت إلى مأساة مروعة. فبعد تلقي العلاج، بدأت تظهر على عدد من المصابين أعراض غريبة، وسرعان ما بدأت الحالات تتدهور، ليتبين لاحقاً أن تلك الشحنة كانت ملوثة بفيروس الإيدز.

 

توفي العديد من المرضى، خاصة من المصابين باضطرابات النزيف الوراثية، بعدما انتقلت إليهم العدوى عبر الدم الملوث. وكانت تلك الحادثة بمثابة الإعلان الرسمي عن تسجيل أولى حالات الإصابة بالإيدز في العراق، وسط غياب شبه تام لأي بنية صحية أو معرفية لمواجهة الفيروس.

 

وتحوّلت تلك القضية إلى واحدة من أبرز الكوارث الطبية في تاريخ البلاد، ليس فقط بسبب الضحايا، بل لأنها كشفت حجم الخلل في فحص المواد الطبية المستوردة آنذاك، ودفعت إلى إطلاق أولى المبادرات لاحقاً لمراقبة مشتقات الدم وتعزيز أنظمة الفحص والكشف المبكر.

 

ورغم مرور عقود على الحادثة، لا تزال تُذكَر كعلامة فارقة في تاريخ الصحة العامة في العراق، حين دخل فيروس الإيدز من بوابة علاج كان من المفترض أن يُنقذ الحياة، فإذا به يهددها في الصميم.

 

 العودة إلى جذور الأزمة

 

وخرج عشرات المواطنين العراقيين، الأسبوع الماضي، من ذوي ضحايا مرض العوز المناعي المكتسب (الإيدز)، في وقفة احتجاجية أمام السفارة الفرنسية في بغداد، مطالبين بإنصاف عائلاتهم المتضررة جراء ما وصفوه بـ "فضيحة الدواء الملوث" الذي وردته شركة فرنسية إلى العراق خلال ثمانينيات القرن الماضي.

 

المتظاهرون رفعوا لافتات وصوراً لأحبائهم الذين فقدوهم، إلى جانب نسخ من صحف قديمة وثقت الكارثة الصحية التي بدأت حين استُدعي المرضى إلى المستشفيات الحكومية عام 1984 لتلقي علاج فرنسي لمرضى الهيموفيليا، ليتضح بعد عامين أن العلاج كان ملوثاً بفيروس الإيدز، ما أدى إلى إصابة وموت العشرات، وفرض الحجر الصحي على أسر بأكملها.

 

المتظاهرون شددوا خلال حديثهم لمنصة "الجبال"، على أن ما جرى لا يمكن أن يُنسى، داعين السلطات العراقية إلى "اتخاذ موقف حازم لفتح هذا الملف المغلق منذ عقود، واستعادة حق الضحايا الذين قضوا بسبب دواء كان يفترض أن ينقذ حياتهم، لا أن يسلبها".

 

يذكر أن وزارة الخارجية العراقية، قد أعلنت في العام 2014، رفع دعوى قضائية ضد شركة "ماريو" الفرنسية، على خلفية تصديرها مشتقات دم ملوثة بفيروس نقص المناعة المكتسب (الإيدز) إلى العراق في ثمانينيات القرن الماضي.

 

وشكلت الحكومة العراقية في ذاك الوقت، فريقاً قانونياً خاصاً لجمع الوثائق والأدلة المرتبطة بالقضية، خصوصاً أن جزءاً كبيراً منها ظل مخفياً لعقود، حيث يهدف الفريق إلى تقديم ملف قانوني متكامل لملاحقة الشركة الفرنسية ومطالبتها بتحمل المسؤولية الكاملة عن الأضرار الجسدية والنفسية والاجتماعية التي لحقت بالمصابين وعائلاتهم.

 

وبحسب الإحصاءات الرسمية، فقد بلغ عدد المصابين العراقيين بالإيدز نتيجة تلك الشحنة الملوثة 257 حالة بين عامي 1986 و2004، لا يزال 67 منهم على قيد الحياة، كما تم تسجيل 192 إصابة إضافية لدى وافدين أجانب دخلوا العراق خلال تلك الفترة.

 

 احصائيات وأرقام

 

ووفقاً لمصدر رفيع في وزارة الصحة العراقية، يُصنَّف العراق ضمن الدول ذات المعدلات المنخفضة في عدد الإصابات بفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) مقارنة بالمعدلات العالمية، بحسب الإحصائيات المعتمدة دولياً.

 

وفي حديث لمنصة "الجبال"، ذكر المصدر، أن "العراق لم يشهد خلال العام 2025 أي أنماط جديدة لانتقال الفيروس خارج الطرق المعروفة، كالاتصال الجنسي أو عبر الدم ومشتقاته"، مبيناً أن "معظم حالات الإصابة المسجلة تعود لمواطنين عراقيين، بالإضافة إلى عدد من الوافدين الأجانب من خارج البلاد".

 

أما بالنسبة لإصابات الأطفال التي سجلت خلال العام 2024، فقد بقى الرقم نفسه وهو سبع حالات فقط، جميعها تعود لأطفال حديثي الولادة انتقل إليهم الفيروس عن طريق الأمهات المصابات دون علمهن بحملهن للفيروس في وقت الولادة، في ذاك الوقت، بحسب المصدر.

 

وفي ما يتعلق بالإجمالي العام للإصابات، يشير المصدر، إلى أن "عدد الحالات المسجلة في العراق منذ الثمانينيات وحتى الآن لا يتجاوز 2000 إصابة، أما في عام 2023، فقد كانت بغداد الأعلى من حيث عدد الإصابات، مسجلة نحو 300 حالة، وبالنسبة لعام 2025، فإن العدد الكلي للحالات الجديدة لم يتجاوز 10 حالات حتى الآن، كان آخرها حالة سُجلت مؤخراً في إقليم كوردستان".

 

وقبل أيام قليلة جداً، أعلنت وزارة الصحة في إقليم كوردستان، إصابة ثلاثة عاملات في صالون تجميل نسائي بفيروس "الإيدز"، فيما أكدت رقابتها على المواقع التي تعمل دون رخصة أو رخصتها منتهية، لتؤكد بعد ساعات إصابة زوجين في السليمانية بنقص العوز المناعي.

 

وتقول الوزارة في بيان أطلعت عليه منصة "الجبال"، إن "الجهات الصحية تقوم بمتابعة جميع المواقع لحماية صحة المواطنين، وسيُتخذ إجراء قانوني بحق أي موقع يعمل دون الحصول على رخصة صحية أو بعد انتهاء صلاحيتها".

 

 "الإيدز".. العلامات المبكرة للمرض

 

يحذر أطباء عراقيون من تزايد حالات الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية (HIV) في البلاد، مؤكدين أهمية التعرف المبكر على أعراض المرض للحد من انتشاره.

 

وفقاً لحديث الأطباء لمنصة "الجبال"، فإن الأعراض الأولية للإصابة بالفيروس قد تشمل (الحمى المستمرة، التعب والإرهاق المزمن، تورم الغدد اللمفاوية، خاصة في الرقبة والفخذ، الإسهال المستمر، فقدان الوزن غير المبرر، الطفح الجلدي والتعرق الليلي المفرط)".

 

ويشير الأطباء إلى أن "المرض قد يظل خاملاً لسنوات دون أعراض واضحة، مما يزيد من خطر انتقاله دون علم المصاب وبالتالي لابد من إجراء فحوصات دورية لكل مواطن عراقي".

 

ووفقاً لبيان رسمي للوزارة، فإن العراق لا يزال يصنَّف ضمن الدول منخفضة التوطين لهذا المرض، مشيراً إلى أن أعداد المصابين تجاوزت 2000 حالة، وأن جزءاً منها يتعلق بفئة الأطفال.

 

ويشير البدر، إلى أن بعض الممارسات الشائعة مثل الحجامة والوشم قد تُعد من وسائل انتقال العدوى، إذا لم تُمارَس بطرق صحية وآمنة، محذراً من الاستهانة بهذه الأسباب التي قد تبدو بسيطة لكنها تحمل في طياتها خطراً حقيقياً.

 

 الإيدز تحت السيطرة في العراق

 

وفي تأكيد جديد، أعلنت وزارة الصحة العراقية يوم الثلاثاء الماضي، أن حالات الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) ما تزال محدودة جداً في البلاد، مقارنة بعدد السكان.

 

ويقول المتحدث باسم الوزارة، سيف البدر، في تصريح رسمي تابعته منصة "الجبال"، إن "الحالات المكتشفة على مدار العقود الماضية لا تزال قليلة نسبياً، ويتم الكشف عنها غالباً أثناء إجراءات روتينية مثل الفحوصات السابقة للعمليات الجراحية أو فحوصات ما قبل الزواج ونقل الأعضاء".

 

ويضيف البدر أن "كل حالة إصابة تُتابع بعناية من قبل المركز الوطني للعوز المناعي، بالتنسيق مع الفروع المختصة في بغداد والمحافظات"، مشيراً إلى أن "المستلزمات التشخيصية والعلاجية متوفرة بالكامل دون أي نقص، بما يضمن الاستجابة السريعة والفعالة".

 

أما بخصوص فحوصات الوافدين الأجانب، فيكشف البدر، عن وجود تنسيق مشترك بين وزارة الصحة ومديرية الإقامة والجوازات في وزارة الداخلية، يتضمن إخضاع القادمين إلى البلاد سواء بغرض العمل أو السياحة لفحوصات دقيقة في مراكز صحية محددة، مع توثيق ومتابعة دورية دقيقة لتلك الإجراءات.

 

وفي العام الماضي، كشفت وزارة الصحة العراقية عن تسجيل أكثر من ألفي حالة إصابة بفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) في عموم البلاد، من بينها سبع إصابات بين الأطفال، فيما تصدّر جانب الرصافة من العاصمة بغداد قائمة المناطق الأكثر تسجيلاً للعدوى.

 

وأصدرت وزارة الصحة العراقية، العام الماضي، توجيهات جديدة للوقاية من فيروس نقص المناعة المكتسب (الإيدز)، وسط مخاوف متزايدة من اتساع رقعة الإصابات في البلاد.

 

الوزارة شددت في بيان رسمي على ضرورة استخدام أدوات حقن ووخز نظيفة، والاعتماد فقط على أدوات نقل الدم والسوائل الوريدية التي تصادق عليها وزارة الصحة، إلى جانب التأكيد على أهمية الالتزام بالسلوكيات والعلاقات الجنسية الآمنة كجزء من جهود الحد من انتشار المرض.

 

وجاءت هذه التوصيات عقب إعلان رئيس لجنة الصحة في البرلمان، الدكتور ماجد شنكالي، خلال العام 2024، عن تسجيل 2638 إصابة بالإيدز في العراق حتى بداية العام الحالي، بينها 470 حالة وفاة.

 

ورغم عدم تسجيل أية إصابات جديدة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، إلا أن شنكالي أكد أن العدد الحقيقي للمصابين قد يكون أعلى بكثير من المعلن، بسبب وصمة العار الاجتماعية التي تمنع الكثيرين من التوجه إلى مراكز الفحص أو تلقي العلاج، ما يزيد من خطورة الوضع.

 

وأشار إلى أن العراق لا يزال ضمن المعدلات العالمية المقبولة، مع إمكانية السيطرة على المرض بفضل توفر العلاج وإمكانية التعايش مع الفيروس في حال الكشف المبكر، داعياً إلى تنظيم ورشة عمل متخصصة في البرلمان في الفصل التشريعي المقبل لبحث استراتيجيات الوقاية والدعم.

 

 المصابون يمكنهم التعايش والزواج دون نقل العدوى

 

وأجرى فريق "الجبال"، رصداً دقيقاً للمراكز الصحية المتخصصة في علاج مرضى "الإيدز"، ووجد أن هناك 20 مركزاً متخصصاً منتشرة في عموم العراق، حيث أن هذه المراكز موجودة في المستشفيات الحكومية وكل محافظة لديها مركز واحد.

 

ووفقاً للرصد، تقدم هذه المراكز كافة الاحتياجات لهؤلاء المرضى بشكل مجاني، اذ تقوم المراكز بفحص أي المواطن تظهر عليه أعراض مرض العوز المناعي، وتتم إعادة الفحص والتحليلات في مركز آخر من أجل التأكد من تطابق هذه النتائج.

 

أطباء ومختصون بمرض العوز المناعي، رفضوا الكشف عن أسمهم لأسباب تتعلق بـ "العقوبات الوزارية"، حسب وصفهم، قالوا خلال حديثهم لمنصة "الجبال"، إن "المصاب بفيروس الإيدز يمكنه أن يعيش حياة طبيعية تماماً، بشرط الالتزام بالعلاج الموصوف من قبل الطبيب، والذي يساهم في خفض الحمل الفيروسي إلى مستويات غير قابلة للكشف، ما يعني أن خطر نقل العدوى إلى الشريك يكاد يكون معدوماً".

 

ويضيف الأطباء، أن "العلاجات الحديثة، خاصة ما يُعرف بالعلاج المضاد للفيروسات القهقرية (ART) تساعد في السيطرة على الفيروس بشكل فعال، وتمنح المريض فرصة للحياة لعقود دون مضاعفات كبيرة".

 

ويتابع الأطباء حديثهم بالقول إن "المرضى الذين يلتزمون بالخطة العلاجية يمكنهم الزواج، بل وإنجاب أطفال أصحاء في حال اتُّبعت الإجراءات الطبية الوقائية".

 

رغم أن فيروس نقص المناعة البشرية (HIV) لا يزال يصنّف ضمن الأمراض المزمنة التي لا شفاء نهائي منها حتى اليوم، إلا أن التقدّم الطبي، لا سيما في مجال العلاجات المضادة للفيروسات، غيّر بشكل كبير من طبيعة المرض وأسلوب التعايش معه.

 

وفقًا لآخر إحصائيات منظمة الصحة العالمية، يُقدّر عدد المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية في العالم بـ 38 مليون نسمة في نهاية عام 2021، بينها العراق.

 

ومن المعروف أن فيروس نقص المناعة البشرية ينتقل بشكل رئيس من خلال الاتصال الجنسي غير الآمن، وإبر الحقن الملوّثة، ومن الأم إلى الجنين أثناء الحمل والولادة والرضاعة. في حين يكون تأثير فيروس نقص المناعة البشرية على جهاز المناعة بشكل مباشر وكبير، مّا يجعل الجسم عرضة للأمراض الانتهازية التي قد تُهدّد الحياة.

رامي الصالحي صحفي

نُشرت في الجمعة 6 يونيو 2025 11:40 ص

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.