البلاد بحاجة إلى بناء مراكز مثل "الشماعية".. لماذا يتخوف العراقيون من مراجعة أطباء النفس؟

10 قراءة دقيقة
البلاد بحاجة إلى بناء مراكز مثل "الشماعية".. لماذا يتخوف العراقيون من مراجعة أطباء النفس؟

1 أو 2 من 100 عراقي يعانون "الفصام"

"تراجع طبيب نفسي، إذاً أنت مجنون"، عبارة وضعت حاجزاً كبيراً بين ممن يعانون من مشاكل نفسية والأطباء النفسيين، وأعتُبرت كأنها "وصمة عار"، لكن المفارقة هي أن هناك من يلجأ إلى السحرة والمشعوذين ويرفض الذهاب إلى طبيب نفسي، حتى بات الأخير شبه منسي في العراق.

 

ويضطر أغلب ممن يعانون من مشاكل نفسية للجوء إلى أطباء الأعصاب، بدلاً من الأطباء النفسيين، حتى لا يوصفون بـ"المجانين"، وفق ما يشاع بالمجتمع.

 

وكثيرة هي العوامل التي فاقمت الأزمات النفسية لدى العراقيين، أبرزها الحروب التي شهدتها البلاد، والإغلاق إثر وباء كورونا في العام 2020، فضلًا عن المشكلات اليومية المتعلقة بالأزمات السياسية والظروف الاقتصادية، فضلاً عن انقطاع التيار الكربائي والزحامات المرورية. 

 

ولا يتجاوز عدد الأطباء النفسيين في العراق الـ150 طبيباً، في ظل الكثافة السكانية التي وصلت إلى 43 مليوناً، اي بمعدل ثلاثة أطباء لكل مليون نسمة.

ويعاني شخص أو شخصين في العراق من أصل كل 100 من حالة فصام، وفق أطباء مختصون بالطب النفسي، مما يستدعي الاهتمام بملف الصحة النفسية.

 

"وصمة العار في العيادات النفسية"

 

ويفسر الطبيب النفسي وسام الذنون، أسباب تخوف العراقيين من مراجعة الأطباء النفسيين، فيما كشف عن أفكار "مغلوطة" لدى الكثير ممن يعانون من مشكلات نفسية.

 

"أغلب العراقيين لا يراجعون الأطباء النفسيين، خوفاً من وصمة العار، باعتقادهم أن الطبيب النفسي مرتبط بعلاح المجانين فقط"، يقول الذنون ويضيف لمنصة "الجبال"، أن "هناك تخوفاً من الأدوية النفسية وتأثيراتها السلبية على العقل وتسببها بالادمان وهذا كلها معتقدات خاطئة".

 

ويؤمن الكثير بأن الأعراض النفسية سببها السحر أو التلبس بالجن، وهو ما يجعلهم مترددين عن مراجعة الأطباء النفسيين، ويلجأ بعض الأطباء النفسيين إلى العلاج الدوائي بشكل أساسي بعيداً عن إعطاء الوقت الكافي للمراجع والعلاج النفسي الحواري، مما يخلق فكرة أن الطبيب النفسي لا يعالج إلا بالأدوية فقط، وفق الطبيب النفسي.

ويشير الذنون إلى أن "بعض الذي يعانون من مشاكل نفسية يراجعون أخصائيي الأعصاب بدلاً من الطبيب النفسي، كون المزاج العراقي مرتبط بالأعصاب، ويُفهم المرض النفسي عادة بأن سببه عضوي في الدماغ"، مضيفاً أنه "في حالة عدم توفر طبيب نفسي فيمكن أن يفيد الطبيب العصبي في تقليل أعراض بعض الحالات".

 

ارتفاع حالات الاكتئاب في فترة "داعش" و"كورونا"

 

"كثِرت مراجعة الذي يعانون من مشاكل نفسية، بعد حصول مشاكل أمنية وحروب مثل حرب (داعش) الأخيرة والرعب والصدمات النفسية التي عاشها أهل المناطق المحتلة خلالها، كما ازدادت حالات القلق والاكتئاب والوساس القهري خلال أزمة وباء كورونا"، وفق الطبيب النفسي.

وعن نوع العلاجات التي يتلقاها المرضى النفسيون، يوضح الذنون، أن العلاج النفسي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: "الأول هو العلاج النفسي المعرفي والسلوكي للحالات الخفيفة والمتوسطة الشدة، وهذه يقدمها الأطباء والمعالجون النفسيون معاً، أما الثاني هو العلاج الدوائي للحالات المتوسطة والشديدة الشدة، ويقدمها الأطباء فقط، والثالث هو العلاج الفيزيائي للحالات التي تقاوم العلاجات السابقة كالتحفيز العصبي والمغناطيسي".

 

طبيب واحد لكل 286 ألف مواطن!

 

وينوه الطبيب النفسي، بأن "عدد الأطباء النفسيين في العراق العاملون حالياً، حوالي 150 طبيباً نفسياً، أي بمعدل طبيب نفسي واحد لكل 286 ألف مواطن"، مؤكداً أن "النسبة قليلة جداً، حيث تبلغ النسبة في الدول المتقدمة طبيب نفسي واحد لكل 10 آلاف مواطن".

ويستدرك الطبيب النفسي، "لدينا حوالي نفس هذا العدد من الأطباء النفسيين الذين يعملون خارج البلد، وأغلبهم على تواصل دائم مع زملاءهم في العراق ويحاولون تقديم ما يمكنهم من المساعدة في تطوير الطب النفسي في البلد"، مشيراً إلى أنه "يتخرج سنوياً حوالي 20 طبيباً نفسياً جديداً بعد توسيع قبول الأطباء إلى الدراسة في اختصاص الصحة النفسية".

 

أول خدمة نفسية افتراضية 

 

وعن تجربته في السوشيال ميديا، يبين الذنون، أنه أطلق أول خدمة للطب النفسي عبر السوشيال ميديا في العراق عام 2017 عبر صفحة العيادة، قائلاً: "قد قدمنا أنا وزملائي المعالجين النفسيين في العيادة آلاف الاستشارات للسائلين والمحتاجين إلى استشارات نفسية وعلاج نفسي بشكل تقبله معظمهم واستفاد منه بشكل كبير".

ويمضي بالقول: "خلال أزمة كورونا بدأت الكثير من الخدمات النفسية بالظهور لتقدم خدماتها عن طريق (الاونلاين)، وقد استطاعت تقديم خدمات كبيرة للمحتاجين ممن تقطعت بهم السبل للوصول إلى الخدمات النفسية المحلية لديهم بسبب انقطاع الطرق ومنع التجول وتوقف الأعمال".

 

وقدم الذنون خدمات نفسية من خلال المنظمات الطبية إلى "مخيمات النازحين واللاجئين في العراق وفي سوريا عن طريق الاستشارات النفسية، وما يزال يقدم استشارات نفسية لمرضى نفسيين في مناطق تنقصها الخدمات النفسية بسبب الحروب مثل سوريا وليبيا واليمن، أو يسكنون مناطق غير عربية ينقصها الأطباء العرب مثل ألمانيا وتركيا وأميركا وغيرها من الدول"، وفق تعبيره.

 

الإنفاق الحكومي لا يتجاوز 2%

 

أما فيما يخص اهتمام الحكومة بالصحة النفسية، يرى الطبيب النفسي، أنّ "الاهتمام بخدمات الصحة النفسية في العراق يتراوح بين الاهتمام الجيد والاهتمام الضعيف بالاعتماد على شخصية وزير الصحة".

ويتابع، أنّ "الاهتمام أصبح أكبر خلال فترات الوزير صالح الحسناوي كونه من الأطباء النفسيين المعروفين في العراق، ولفهمه الكبير للحاجات الملحة للمواطنين من الخدمات النفسية".

 

ولا يتجاوز إنفاق العراق على الصحة النفسية نسبة 2 في المئة من ميزانية القطاع الصحي، الذي بدوره لا تتجاوز نسبة مخصصاته في الموازنة حاجز 5 في المئة من الموازنة الثلاثية (2023-2024-2025) على الرغم من أن منظمة الصحة العالمية تشير إلى حقيقة أن مقابل كل دولار يُستثمر في تعزيز علاج الاضطرابات الشائعة مثل الاكتئاب والقلق، يتحقق عائد قدره 5 دولارات في مجال تحسين الصحة والانتاج، لكن ما يزال العراق بعيداً عن هذا.

 

العصبية مرض نفسي

 من جهتها، ترى أخصائية الطب النفسي بتول عيسى عمران، أن هناك شخص أو شخصين في العراق من أصل كل 100 يعانون من حالة فصام، فيما أشارت إلى أنّ العراق بحاجة إلى دور ايواء والتفاتة جادة لبناء مراكز تأهيلية.

 

"هناك التباس لدى المراجعين، بين الطبيب النفسي وطبيب الاعصاب، ويعتقد البعض أن الاثنين اختصاص واحد"، توضح عمران وتضيف لمنصة "الجبال"، أن "الطبيب النفسي هو المختص بمعالجة الامراض النفسية وما يتعلق بها، أما طبيب الاعصاب فيكون مختصاً بأمراض الحبل الشوكي والدماغ كالصرع والتهاب الأعصاب المحيطية (...)".

 

وبحسب أخصائية الطب النفسي، فإن "شدة العصبية تعتبر إحدى عوارض الأمراض النفسية ولا علاقة لها بالأمراض العصبية كما هو مفهوم لدى أغلبية العراقيين"، مؤكدة أنّ "الطبيب النفسي ليس بديلاً ولا يمكن أن يكون بديلاً عن الطبيب النفسي والعكس كذلك".

 

وتشدد عمران على "ضررة التوعية بمفهوم الصحة النفسية من خلال البحث في السوشيال ميديا والصحف والمواقع الالكترونية المختصة والاطلاع على تجارب الدول الأخرى".

"هناك حوالي 150 طبيباً نفسياً في عموم العراق، والإقبال على الطب النفسي من قبل الطلبة الجُدد أفضل من السنوات السابقة"، تلفت عمران وتوضح، أن "عدد الأطباء النفسيين لا يتلائم مع الكثافة السكانية المتمثلة بـ43 مليون عراقي".

 

في موجات الحر

 

"أكثر فترات مراجعة الأطباء النفسيين تكون عند ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف، وارتفاع مادة السيروتونين المرتبط بنوع الغذاء، الذي يسبب الانفعال والعصبية، فضلًا عن عوارض أخرى تتمثل بانقطاع التيار الكهربائي والزحامات المرورية (...)"، وفق الأخصائية في الطب النفسي.

وتكمل قائلة: "يُعالج المرضى النفسيين عن طريق معالج نفسي، سواء أكان اختصاص في علم النفس او الاجتماع، او طبيب نفسي، خاضعين لدورات تدريبية"، مبينة أن "العلاج يتم من خلال علاج سلوكي أو عن طريق الأدوية أو من خلال العلاج بالاختلاج عن طريق الصدمات الكهربائية".

 

مستشفيات تستوعب فوق طاقتها

 

وتشير عمران إلى أنّ "هناك مستشفيات حكومية في العاصمة مختصة بالجانب النفسي، منها مستشفى ابن رشد، ومستشفى بغداد التعليمي في الطابق العاشر، وفي مستشفى الإمامين الكاظمين أيضاً يوجد قسم الصحة النفسية، فضلاً عن مستشفى الرشاد للأمراض العقلية والنفسية (الشماعية) وهي المركز الوحيد الإيوائي التأهيلي لمرضى الفصام وتتضمن ردهة للطب النفسي العدلي للأشخاص الذين يشكلون خطرا بسبب امراضهم العقلية والنفسية ويتم حجزهم بشكل إجباري".

 

"المستشفى فاقت طاقتها الاستيعابية وفيها مرضى من شمال العراق وجنوبه، وهي مخصصة لألف ومائتي مريض لكنها تضم 1500 مريض حالياً، أي أن هناك 300 مريض فائض فضلاً عن أنها متهالكة"، وفق عمران.

 

وتختم حديثها بالقول، إنّ "هناك شخص أو شخصين في العراق من أصل كل مائة يعانون من حالة فصام"، "العراق بحاجة إلى دور ايواء والتفاتة جادة لبناء مراكز تأهيلية كمركز (الشماعية)".

 

ولا يوجد في العراق غير ثلاث مستشفيات عامة متخصصة بالأمراض النفسية هي: الرشاد، وابن رشد (بغداد)، وسوز (السليمانية)، وتعاني من الإهمال وقلّة الكوادر الطبية، وكذلك قلّة الأدوية اللازمة للمرضى.

 

مراجعة الطبيب النفسي "ليس عيباً"

بدورها، تلفت أستاذة علم النفس في جامعة بغداد، شيماء عبد العزيز، إلى أن الجميع معرض لأزمات نفسية، نتيجة الظروف التي يمر بها العراق، وليس معيبا مراجعة طبيب نفسي.

"مراجعة الطبيب النفسي مهمة جداً، وحالها كحال باقي المراجعات الصحية التي يمر بها الإنسان بطبيعته"، تقول عبد العزيز وتؤكد لمنصة "الجبال"، أنّ "أغلب الأمراض النفسية لا تحتاج إلى دواء، بل تحتاج إلى علاجات سلوكية ومعرفية".

وترى أن "وصمة العار التي توارثتها العرب بصورة عامة، والعراق بصورة خاصة، والتي تعتبر أن من يراجع الطبيب النفسي، مجنوناً، وضعت حاجزاً كبيراً بين المرضى والأطباء النفسيين".

 

"الجميع معرض لأزمات نفسية، نتيجة الظروف التي يمر بها العراق، وليس معيباً أن نراجع طبيباً نفسياً"، تذكر عبد العزيز وتستغرب من "مراجعة البعض للسحرة والمشعوذين وافتخارهم بذلك، بينما يعتبرون الذهاب إلى الطبيب النفسي وصمة عار".

وتشير أستاذة علم النفس إلى أن "هناك تقصيراً حكومياً في ملف الصحة بشكل عام، فكيف الحال بالصحة النفسية؟".

وفي العام 2005 صدر قانون الصحة النفسية رقم 1 في العراق، لكنه لم يترك آثاراً إيجابية على المجتمع، وفي أيلول2023، قرأ البرلمان مشروع قانون الصحة النفسية الجديد قراءة أولى، ولم تطّلع عليه حتى الآن غير الحكومة والبرلمان، وعن هذا القانون يقول وزير الصحة إنه سينصف العاملين في مجال الصحة النفسية، الذي يعترف بنقص كوادره.

 

حسين حاتم صحفي عراقي

نُشرت في الجمعة 30 أغسطس 2024 08:55 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

المزيد من المنشورات

© 2024 الجبال. كل الحقوق محفوظة.