لم تكن "أم ليث" تفكر كثيراً في الإجراءات الطبية ولا تفاصيل الخروج من المستشفى، كل ما شغل بالها حين وضعت طفلها الأول كان أمراً واحداً: ألا يخطو الصغير خارج باب المشفى قبل أن تُلبسه سواراً صغيراً يحمل "سبع عيون". تقول السيدة ولا تكترث إن قالوا عنها مجنونة: "كنت أشعر أن العيون السبع تنظر معاً لكل خطر غير مرئي قد يحيط بطفلي، هذا السوار يحميني قبل أن يحميه، هو راحتي النفسية وسط خوف لا ينتهي".
ما فعلته "أم ليث" ليس استثناء في المجتمع العراقي، إنه امتداد حي لطقوس شعبية متوارثة، تمزج بين الإيمان بالخطر غير المرئي، والرغبة في الاتقاء منه بما تيسّر من رموز. فالتمائم كالـ"سبع عيون" أو "كف فاطمة" المعروفة أيضاً بـ"خمسة وخميسة"، لم تكن يوماً مجرد زخرفات فضية أو خيوط ملونة. اعتبرها المجتمع العراقي أدوات روحية تُعلّق على رقاب المواليد الجدد، أو تُطرّز على ثيابهم، وتُعلّق فوق الأبواب، أو تُنقش على أكواب الماء، وربما تُرسم سراً فوق الجدران.
يؤمن العراقيون، كما العديد من شعوب المنطقة، أن الحسد والعين الشريرة قادران على إلحاق الأذى بالناس، لا سيما بالأطفال حديثي الولادة أو النساء الحوامل أو من تُعرف بجمالها أو نجاح الآخرين. ومن أجل صدّ هذا الشر، نشأت طقوس ودلالات فنية واجتماعية ظلت تتناقلها الأجيال، وبرز من بينها "سبع عيون" التي يُقال إنها تُبطل أثر العين، وترتد بها إلى الحاسد نفسه.
ولم يكن غريباً إذن أن تُدمج هذه الرموز في حياة العراقي اليومية (تلبسها المرأة كخاتم أو قلادة، تُطرّز على فساتين الأطفال، وتُباع بجانب العطور والمسابح في الأسواق الشعبية). ويُعد "كف فاطمة" أو "خمسة وخميسة" رمزاً شائعاً آخر، يتخذ شكل كف اليد المفتوحة، ويُعلّق في البيوت والسيارات، دلالة على طلب الحماية من أي شر.
في حديث مع الفنانة الحرفية "أم ناظم"، التي تبيع التمائم المطرزة في سوق الشورجة، قالت: "أحيانًا تشتري النساء خمسة أساور دفعة واحدة، واحدة لها وأربعة لأولادها، وتقول لي بالحرف: (حتى ما يصدهم حسد ولا بلاء)".
بعيداً عن التفسيرات العلمية أو الدينية التي قد تُشكك بجدوى هذه التمائم، تظل قيمتها الكبرى في كونها جزءاً حياً من الهوية الثقافية والروحية للمجتمع العراقي. إنها ليست مجرد إكسسوارات. على مدار قرون، وجدتها الشعوب كطقوس مقاومة للخوف غير المنطوق.
السبع عيون
يقول الباحث في التراث الشعبي الدكتور حسين عبد الأمير، إن للرقم "سبعة" دلالة تتجاوز الحساب والمنطق في الموروث الرافديني، إذ يُعدّ من الأرقام المقدسة التي حملت معاني روحية وسحرية منذ آلاف السنين. ويشرح: "الرقم سبعة له جذور تعود إلى ما لا يقل عن خمسة آلاف سنة، حيث اعتبره البابليون والكلدانيون رقماً سحرياً مكتملاً، لا يُجزّأ ولا يُضاف إليه شيء".
ويُضيف أن، رمزية هذا الرقم تنبع من كونه حاصل جمع الرقمين "3" و"4"، وهما رقمان ساميان في الثقافة السومرية، فـ"الثلاثة" تمثل السماء والآلهة الكبرى (أنو، إنليل، إنكي)، بينما "الأربعة" تشير إلى العناصر الأساسية للطبيعة: الماء، التراب، الهواء، والنار. هكذا تشكل "السبعة" رمزاً للكمال الأرضي المرتبط بالكون والماورائيات معاً.
ويوضح عبد الأمير أن لهذه الرمزية انعكاسات واسعة في طقوس الحياة والموت لدى شعوب ما بين النهرين، إذ ارتبط الرقم 7 بمفاهيم مثل طرد الشياطين، واستدعاء القوى الإلهية، وتكرار الأفعال الطقسية سبع مرات، وحتى البوابات السبع للعالم السفلي. ويقول: "ليست مصادفة أن تُعلّق سبع عيون على عنق طفل أو تُطبع على منتج شعبي، بل هي امتداد لوعي جمعي يرى في هذا الرقم حاجزاً يحول دون الشر".
الأزرق السماوي
"ترتبط العين الزرقاء، بجذور موغلة في حضارات وادي الرافدين، لا سيما تلك المتعلقة بالإله "عشتار" أو "إنانا" – آلهة الحب والحرب. ويشرح أن اللون الأزرق في المخيل البابلي يعتبر تجسيد للسماء التي نزلت منها "عشتار"، وحين حزنت، هبط الخراب على الأرض. من هنا، نشأت فكرة مواجهة قوى الشر بآلهة مضادة، وتجسدت هذه الفكرة في معبد "العين" بتل البراك، حيث وُجدت تماثيل ذات عيون واسعة ومحدّقة، ما اعتُبر أول تمثيل رمزي للحماية من العين الشريرة، على حد قول الباحث.
ويضيف عبد الأمير أن "السبع عيون" تحديداً تعود جذورها إلى رمزية الآلهة "سبيت"، وهي واحدة من بنات عشتار، وتُمثلها النجوم السبعة. لهذا، فإن استخدام تمائم بسبع عيون كان طقساً معروفاً في المعابد البابلية، خصوصاً ضمن طقوس الكهنة التي تهدف لدرء الحسد وإبعاد الأرواح المؤذية. ويقول: "كان الاعتقاد السائد أن العالم ينقسم بين قوى خيرة تنسجم مع الإنسان، وأخرى شريرة تسكن العالم السفلي. ومن أجل الاتقاء من الأخيرة، ظهرت التمائم، ومنها 'السبع عيون' التي كانت تُعد درعاً روحياً أمام الشياطين".
"الشياطين في المخيل البابلي هم أولاد الآلهة، وأنهم يُرسَلون لمعاقبة البشر عند الخطأ. ولهذا كان يُعتقد أن تصميم التميمة بسبع فتحات هو حيلة هندسية روحية: فكلما حاولت روح شريرة الدخول إليها، وجدت مخرجًا يُجبرها على الخروج، فلا تستقر.
أما اللون الأزرق الذي تلوَّنت به معظم هذه التمائم، فيعود لما يحمله من قداسة ورهبة في نظر البابليين، إذ ارتبط بالسماء والألوهية. ويختم عبد الأمير: "لهذا نراها حتى اليوم معلّقة على أبواب المنازل، أو موضوعة في عربات الأطفال، أو ضمن حُلي النساء. ليست موضة، بل إرث حيّ يرفض الموت".
خمسة وخميسة/ كف فاطمة
هي كفٌّ مفتوحة بخمسة أصابع، موجهة إلى الخارج، تُعلَّق على الأبواب وتُلبَس قلادة في الأعناق، ويُخبَّأ في باطنها سرٌّ قديم. تُعرف في العراق وسوريا وشمال إفريقيا باسم "خمسة"، أو "الخميسة"، أو "كف فاطمة"، لكن هذا الرمز الذي يشتهر اليوم كتميمة ضد الحسد، له جذور أعمق بكثير، تعود إلى الآلهة الأم في حضارات الشرق القديم.
ويُفسر الباحث، الدكتور كاظم عبد الله، تميمة "كف فاطمة" باعتبارها واحدة من أبرز رموز الحماية من العين الشريرة، ويقول: "رغم ارتباطها الظاهري بالإسلام وكرامات السيدة فاطمة الزهراء، فإن جذورها تمتد عميقاً في الأديان السابقة، فقد عرفها اليهود باسم 'كف موسى'، فيما يسميها المسيحيون في بلاد الشام 'كف مريم'. أما في الحضارات الرافدينية القديمة، فكانت تُعرف بـ'كف إنانا' أو 'كف عشتار'".
ويضيف عبد الله أن هذا الرمز، انتقل عبر العصور وتحوّل إلى تميمة شائعة، تتعلق بها المجتمعات كوسيلة لطرد الحسد وحماية المنازل والأرواح من الشرور. ويقول: "كفُّ فاطمة، طقس شعبي له امتداد ديني، تُصاغ من معادن مختلفة كالنحاس أو الذهب أو الفضة، وتُعلّق على صدر المرأة، أو توضع فوق مدخل الدار، أو تُلبس للأطفال تبركاً ودرءاً للعين".
ويوضح الباحث أن هذا الرمز يُرى بكثرة عند أبواب البيوت العراقية، حيث تُعلّق الكف في الإطار الأعلى لباب الدار، غالباً مصنوعة من السيراميك الأخضر أو النحاس الأصفر، كأنها يد مباركة تستقبل الضيف وتصدّ الشر.
ويبين الباحث أن أبحاث أثرية أشارت إلى أن أول استخدام معروف للرمز ظهر في سوريا وبلاد الرافدين، حيث ارتبط بآلهات الخصب والحرب والحب، مثل "عشتار" و"إنانا"، ثم تنقّل عبر الأزمنة والثقافات ليصبح عند الإغريق "كف أفروديت"، وعند الرومان "كف فينوس". وعندما حمل الفينيقيون عباداتهم إلى المتوسط، أخذوا معهم يد عشتار، فاستوطنت هذه التميمة الذاكرة الجماعية لشعوب المنطقة، حتى بعد دخول المسيحية والإسلام.
"بعض الباحثين وجدوا تشابهاً بين "خمسة" والرمز المصري القديم "مانو بانتيا" (Mano Pantea)، وهي يد تحمل رمزية الحماية، وتجمع بين الآلهة الثلاثة: إيزيس، أوزوريس، وحورس، لكنها تختلف شكلاً، حيث تُغلق إصبعان وتُفتح ثلاثة. يقول الدكتور عبد الله.
"خمسة": يدُ الله، ويدُ عشتار، ودرعُ البشَر ضد الشر
وجدت الكف طريقها إلى الديانة اليهودية باسمها نفسه: חַמְסָה (خمسة). حتى غدت تُعرف في بعض التفاسير بـ"يد الله"، واستُشهد عليها بآية من سفر التثنية (5:15): «واذكر أنك كنت عبداً في أرض مصر، فأخرجك الرب إلهك من هناك بيدٍ شديدة وذراعٍ ممدودة».
ولم يكن حوض المتوسط أقلّ حظاً من هذا الرمز؛ فجنوب أوروبا، وخاصة إسبانيا، ومعها شمال إفريقيا، شهدت شيوع "الخمسة" بين العرب والبربر واليهود، منذ أن حملها الفينيقيون من قرطاج، حيث كانت – كما في الأصل الرافديني – يد عشتار، رمز الخصوبة ودرع العين الشريرة. وقد احتفظت "خمسة" بذات الوظيفة في كل تحولاتها: جلب البركة، رد الحسد، وحماية النساء. حتى اليوم، تُزيَّن بها البيوت، تُلبَس في الأعناق، وتُردَّد حولها العبارات الشعبية المعروفة: "خمسة وخميسة بعين الشيطان"، و"خمسة بعيونك"...