لا يزال ثامر جاسم، مربي الأغنام (55 سنة)، يعتاش من هذه المهنة التي ورثها عن أبيه في قرية "البو هلال" شمال الناصرية. يمضي أيامه بين تربية الماشية وبيعها، دون أن يدرك خطورة الأمراض التي تصيب الحيوانات، خاصة "الحمى النزفية"، التي تنتقل عبر حشرة القراد وتصيب الماشية وقد تُهدد حياة ثامر وعائلته.
يُواجه مربّو الأغنام في العراق وخاصة في المناطق النائية، تحديات كثيرة، وفي مقدمتها خطر "الحمى النزفية"، إذ أنّ غياب الوعي الصحي يُفاقم من معاناتهم.
في أيار/مايو الماضي، أعلنت وزارة الزراعة العراقية، تسجيل 40 إصابة بالمرض في بالبلاد من بينها 5 وفيات، منذ مطلع العام الحالي، لكن الأعداد تضاعفت خلال الشهرين الأخيرين.
يكشف جاسم في حديثه لـ"الجبال" عدم معرفته بمرض "الحمى النزفية"، سوى أنه يلاحظ أحيانًا هذه الحشرة (القراد) على أغنامه، خاصة قرب آذانها، فيحاول إزالتها بيديه أو شراء مبيد حشري لعلاجها دون معرفة نوع المبيد الفعّال في الوقاية من المرض.
لم تسجّل أي إصابة في عائلة جاسم حتى الآن بحسب كلامه، ولكنّه يتذكر قلقاً ساد أغلب القرى المجاورة العام الماضي، عندما سجلت المنطقة القريبة منه، إصابات وقامت الفرق البيطرية آنذاك بتطهير الأماكن ومعالجة الماشية.
يأمل جاسم أن تصله تلك الفرق الآن، إلى قريته لـ"رش" مواشيه، فيما لم يبادر هو حتى الآن لإبلاغ هذه الكوادر بحجة عدم توفر الوقت الكافي للذهاب إلى المستوصف.
"النزفية" ..أرقام متضاربة بالعراق
شهد العراق تفاقماً مقلقاً في أعداد الإصابات بـ"الحمى النزفية" خلال عامي 2022 و 2023، إذ سجل قفزات كبيرة في حالات الإصابة، مما دفع منظمة الصحة العالمية إلى التدخل بعد تلقيها بلاغاً من وزارة الصحة العراقية بوجود إصابات.
وتصدرت محافظة ذي قار قائمة المحافظات الأكثر تأثراً بهذا الوباء، على الرغم من الجهود التي بذلتها دوائر البيطرة.
وتُعدّ "حمى القرم-الكونغو النزفية" مرضاً مُتوطّناً في العراق منذ عام 1979، حيث سجلت أول 10 إصابات، وشهدت السنوات اللاحقة استمرار ظهور حالات من هذا المرض، بواقع 6 حالات بين عامي 1989 و 2009، و 11 حالة في عام 2010، و 3 حالات مميتة في عام 2018.
وتشير منظمة الصحة العالمية إلى أن تربية الأغنام والماشية، وهي منتشرة بكثرة في العراق، وتُعدّ بيئة خصبة لانتشار هذا المرض فقد أظهرت الدراسات أنّ هذه الحيوانات تُصاب بانتظام بأنواع مختلفة من القراد، خاصةً قراد "هيالوما" الزجاجي العين، وهو الناقل الرئيسي لـ"حمى القرم-الكونغو النزفية".
تركزت الإصابات بـ "الحمى النزفية" بشكل خاص في مدن العراق الجنوبية؛ ففي عام 2023، سجلت وزارة الصحة أكثر من 540 إصابة، مما أدى إلى 70 حالة وفاة، فيما تصدرت مدن البصرة وذي قار وميسان قائمة المدن الأكثر تضرراً، حيث بلغ عدد الإصابات فيها 250 حالة، و 26 حالة وفاة أي ما يعادل 24% من إجمالي الإصابات في العراق.
في أيار الماضي، أعلن وزير الصحة في حكومة إقليم كردستان، سامان برزنجي، وجود 50 إصابة بالحمى النزفية، و8 وفيات، في العراق.
بالمقابل قالت مسؤول إعلام دائرة البيطرة التابعة لوزارة الزراعة زينب رحيم حسين في الشهر نفسه، إنّ أعداد الإصابات بالحمّى النزفية بلغت 40 إصابة، بينها خمس وفيات، حيث تصدرت محافظة ذي قار أعداد الإصابات بـ15 حالة بينها حالتا وفاة، فيما كانت لنينوى 6 إصابات ووفاة واحدة، وبابل أربع إصابات ووفاة واحدة، أما أعداد إصابات بغداد فبلغت 6 إصابات ووفاة واحدة.
مدير قسم الوبائيات في دائرة البيطرة العامة التابعة لوزارة الزراعة، ثائر الأسدي يتحدث لـ"الجبال" عن تراجع الإصابات هذا العام مقارنة بالسابق، لكنه يكشف عن أرقام جديدة ضعف ما ذكرتها وزارة الزراعة.
يشير الأسدي إلى أن "أسوأ الأعوام التي شهدت تصاعد الإصابة بالمرض كان في 2022، ويعزو ذلك إلى "توقف عمليات التطهير والرش للمواشي خاصة خلال جائحة كورونا".
ويقول الأسدي إنّ "الوزارة كثفت الجهود في العام الماضي والحالي بزيادة عمليات الرش إلى جولتين في العام الواحد" مما أسهمت في خفض معدل الإصابات منذ بداية عام 2024 وحتى الآن.
ويكشف أن الإصابات منذ مطلع العام الحالي وحتى الآن، بلغت "126 إصابة مع 16 حالة وفاة"، وذي قار كالعادة، كانت هي الأعلى من بين بقية المحافظات حيث سجلت " 27 إصابة و 4 حالات وفاة".
وتابع الأسدي أن التغيرات المناخية ساهمت في تفاقم المشكلة، لاسيما بعد أن تقلصت الخطة الزراعية نتيجة الشح المائي، ما أدى إلى خروج 50% من الأراضي الزراعية في العامين الماضيين"، وهذا الأمر "تسبب بعدم مكافحة الأراضي الزراعية من قبل وقاية المزروعات، وإن جزءاً من المبيدات الزراعية تسهم بشكل كبير بالقضاء على هذه الحشرة".
مجازر البصرة
الدكتور رياض محمد علي مدير المستشفى البيطري في البصرة أوضح لـ "الجبال" أنّه تم تسجيل "11 إصابة بالحمى النزفية في المحافظة منذ بداية العام الحالي وحتى الآن" دون أيّ وفيات.
ويُعدّ هذا الرقم أقل بكثير من عدد الإصابات في العام الماضي الذي تجاوز الـ 80 إصابة، بحسب مدير مستشفى.
هذا الانخفاض، يعزوه علي، نتيجة المكافحة المبكرة والتوعية المكثفة ومتابعة ظاهرة الرعي العشوائي في الأسواق.
ومع ذلك يقول مدير المستشفى انه "لا تزال هناك حاجة ماسّة إلى تحسين البنية التحتية الصحية في البصرة، خاصة فيما يتعلق بوجود مجازر نظامية، إذ لا توجد أي مجزرة نظامية في المحافظة".
وكشف مدير المستشفى، عن غلق المجزرة الوحيدة الموجودة بسبب مخالفتها للضوابط الصحية والبيئية، فيما تنتظر البصرة افتتاح مجزرة جديدة تمّ تشييدها مؤخراً عن طريق الاستثمار.
حشرة بمواصفات خاصة
إلى ذلك يقول مدير المستشفى البيطري في ذي قار الدكتور محمد عزيز لـ "الجبال" أن هذه الحشرة المسببة لـ"الحمة النزفية"، لديها قدرة على التكيف مع "أشد الظروف البيئية قساوة، وهي تتغذى على الدم".
ويبين مدير المستشفى، أن "مناطق الأرياف التي يضربها الجفاف هي المكان الملائم والأفضل لانتشار الحشرة المسببة للمرض"، موضحاً أن الحشرة "تستطيع العيش تحت الأرض بمسافة تصل إلى 30 سم، وبالتالي يمكنها أيضاً تجنب المبيدات"، لذا يتطلب من الفرق البيطرية العودة أكثر من مرة إلى المكان الذي تم تطهيره لمواجهة الحشرة.
وذي قار شأنها شأن البصرة، حيث تعاني هي الأخرى من نقص في مجازر المواشي، إذ لا تمتلك سوى مجزرتين؛ واحدة في سوق الشيوخ وأخرى في الناصرية.
وقد أصدرت دائرة البيئة في وقت سابق، قراراً بإغلاق مجزرة الناصرية لمخالفتها الضوابط الصحية ولكنها لا تزال تعمل لعدم وجود البديل.
بيئة سيئة
أما ميسان، فقد سجلت هذا العام انخفاضاً واضحاً بعدد الإصابات بـ"الحمى النزفية"، مقارنة بالعام الماضي، بحسب مدير المستشفى البيطري في المحافظة الدكتور باسم فيصل العريبي، الذي أكد أن الإصابات هذا العام بلغت "6 إصابات بينها 2 وفاة".
ويشير مدير المستشفى إلى أن حملات تعفير وتطهير أماكن تربية المواشي تواجه مشكلة دائمة هو عدم اهتمام المربين بأماكن وجود المواشي ما يخلق بيئة مناسبة لنمو وتكاثر الحشرات، فضلًا عن "عدم مبادرة المربين للوصول إلى المستوصف البيطري أو إبلاغهم بوجود الحشرة".
خطة لمواجهة انتشار المرض
تضم المحافظات الجنوبية الثلاث من ماشية الأغنام والماعز والأبقار والجاموس والأبل أكثر من 1686000 رأس ماشية.
ويقترح الطبيب البيطري باسم عبد الحسين، خطة لمكافحة انتشار فيروس الحمى النزفية في ذي قار وبقية المحافظات، عبر تقسيم المحافظة إلى دوائر متعددة وذلك لـ"ضمان سهولة عملية أخذ عينات الدم من الماشية بشكل عشوائي، وإجراء لها فحص عينات الدم بنظام الـ PCR وهو نظام فحص مشابه لنظام فحص الكورونا، وذلك للكشف عن وجود الإصابة بالفيروس من عدمه".
ويقول إنه في حال "وجود حالة موجبة يتم تركيز جهود المكافحة على المناطق التي يتم فيها اكتشاف، وبالتالي قطع انتشار الفيروس إلى باقي المناطق".
وأشار الطبيب البيطري، إلى "أهمية تكرار عملية تطهير الأماكن للتأكد من القضاء على الحشرات بعد مرور 14 يوماً تقريباً، وهي المدة التي تفقس فيها بيوض حشرة القراد، ومتابعة نقل مخلفات المواشي التي تستخدم كأسمدة التي قد تكون الحشرة بينها".
عبد الحسين لا يستبعد أن تتكيف هذه الحشرة مع التغيرات المناخية عبر ارتفاع درجات الحرارة، ويؤكد أنّ "البيئة ذات المناخ الحار هي ملائمة لظهور الحشرة، إذ تجدها تبدأ بالظهور من شهر آذار وحتى أيلول من كل عام".