يُطرَب بخشابته مَن يجلس في زاخو، لا تقطع المسافة الطويلة بين الجنوب والشمال ترددات سيمفونية البصراوي صاحب البشرة السمراء، فلا يمكن أن تكون الألوان عائقاً؛ ولكن المعاناة، الاستغلال، التمييز، التنمر، ونبذٌ في التعليم وحتى الوظائف والتمثيل السياسي، هو ما يعاني منه أصحاب البشرة السمراء في العراق بشكل عام والبصرة بشكل خاص.
الأفروعراقيون.. أصول تمتد إلى "ثورة الزنج"
قبل الغوص في تناول الواقع الحالي لأصحاب البشرة السمراء في محافظة البصرة، لابدّ من معرفة أصولهم والموطن الذي قدموا منه، وبهذا الصدد، يؤكد المؤرخ التاريخي علي النشمي أن "أصولهم أفريقية وتعود إلى الزنج".
وقال النشمي في تصريح لمنصّة "الجبال": إن "أصحاب البشرة السمراء في العراق بشكل عام والبصرة بشكل خاص هم بقايا الزنج، وأطلق عليهم العباسيون هذا الاسم، حيث جاؤوا بهم وأسكنوهم في البصرة بغية قشط الأملاح في الفاو وباقي المناطق لتصبح أرضاً زراعية".
والزنج وتعني السُود، وصفٌ أطلقه الجغرافيُّون المسلمون في العصور الوسطى على سكان جنوب شرق إفريقيا وخصوصاً سكان منطقة السواحلي وشعوب البانتو، وأصبح هذه المصطلح أصلاً لأسماء عديدة مثل زنجبار وبحر الزنج لاحقاً.
وأضاف النشمي، إن "العباسيين قدموا بأصحاب البشرة السمراء بالآلاف وهؤلاء مساكين لم يوفّر لهم العباسيون حتى الأكل فخُبزهم كان من (النوا) وتمت معاملتهم معاملة العبيد؛ لذلك قاموا بثورة باسم ثورة الزنج ضد العباسيين وكانوا قريبين من الوصول إلى بغداد قبل أن يقضي العباسيون عليهم وقتلوا الآلاف منهم فهرب قسم منهم إلى الخليج وبقي قسم آخر كخدم آنذاك".
الجدير بالذكر هنا، أنه لا توجد رواية تاريخية موثقة حول أصول العراقيين الأفارقة الحاليين، فيما تذهب أغلب الآراء إلى أن أجدادهم استُقدموا إلى بلاد الرافدين في القرن الأول الهجري عقب تأسيس مدينة البصرة، إذ اعتاد العرب آنذاك جلبهم من شرق إفريقيا (السودان وإثيوبيا وزنجبار)، وإسكانهم في محيط نهري دجلة والفرات.
وتمثلت وظيفتهم الأساسية في استصلاح الأراضي الزراعية وفي العمل في الإقطاعات الواسعة التي امتلكها رجال الطبقة الغنية. كان الكثير من هؤلاء الأفارقة عبيداً، كما كان منهم عمّال ومزارعون وجنود أيضاً.
وفي سبعينيات القرن الأول الهجري، بدأت اعتراضات هذه الفئة للمرة الأولى، عندما احتلوا بعض المزارع والضياع، واستولوا على ما فيها من الثمار والمحاصيل. لكن سرعان ما تم القضاء على تلك الحركة على يد الخلفاء الأمويين الذين تعاقبوا على كرسي الخلافة.
وعادت اعتراضات سود العراق، الذين كانت تُطلق عليهم تسمية الزنوج (فيما عُرفت بثورة الزنج كما ذكرنا أعلاه) إلى الواجهة بشكل أكثر عنفاً في منتصف القرن الثالث الهجري.
وبحسب ما يذكر المؤرخ والوزير العراقي الأسبق فيصل السامر في كتابه "ثورة الزنج"، فإن "علي بن محمد -وهو فارسي ادعى النسب العلوي- تمكّن من قيادة جماعات الزنج للثورة ضد الخلافة العباسية وطبقة ملّاك الإقطاعيات".
ويذكر ابن جرير الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"، أن "علياً بن محمد استمال الزنج بالوعود والأماني التي قدّمها لهم، فقال إنه: يريد أن يرفع أقدارهم، ويُملّكهم العبيد والأموال والمنازل، ويبلغ بهم أعلى الأمور".
بعد شهور قليلة، فرض الثوار سيطرتهم على المنطقة الجنوبية الشرقية من العراق واستولوا على البصرة، كما استغلوا ضعف الخلافة العباسية فوسعوا نفوذهم في المنطقة الواقعة بين الأهواز وواسط.
في سنة 270 هجرية، وضع العباسيون حداً لتلك الثورة، حين تمكن ولي العهد أبو أحمد الموفق بالله من حشد جيش كبير العدد وتغلب على قواتهم وقتل علي بن محمد في المعركة، ليُسدل الستار بذلك على تلك الثورة التي طالبت بتحقيق العدالة الاجتماعية.
بعدها، استكان الزنج للأمر الواقع، واندمجوا في المجتمع العراقي على مرّ القرون.
الأعداد وخارطة الانتشار والطقوس
وفي الوقت الحالي، ينتشر "العراقيون الأفارقة" في كل من البصرة والزبير وميسان وذي قار جنوبي البلاد، كما توجد تجمعات قليلة لهم في بغداد وواسط وبعض المدن العراقية الأخرى.
وعن أعدادهم، لا توجد إحصائيات رسمية عن أصحاب البشرة السمراء في العراق، فيما تشير إحصائيات غير رسمية إلى أن عددهم بين 250 و400 ألف نسمة، وتذكر بعض قياداتهم أن عددهم يصل للمليون ونصف المليون عراقي.
على الصعيد الثقافي، يتمتع "الأفارقة العراقيون" بهوية مميزة تشكلت معالمها على مرّ القرون التي عاشوها في العراق، إذ اندمجت العديد من الطقوس الإفريقية المتوارثة مع بعض العادات التي تم اكتسابها في بلاد الرافدين.
من تلك الطقوس "النوبان" نسبة إلى النوبة في جنوب مصر، و"الحبوش" نسبة إلى بلاد الحبشة القديمة، وهناك طقوس أخرى تعود إلى المناطق الساحلية من كينيا، فضلاً عن بعض الرقصات الدينية القادمة من أعماق إفريقيا كالجكانكا والهيوة.
كذلك، اعتاد أصحاب البشرة السمراء على ممارسة الفنون والغناء وعزف الموسيقى، فظهرت منهم فرق "الخشابة" التي تتميز بقرع الطبول واستخدام الآلات الموسيقية المصنوعة من الخشب، كآلة الخشبة التي تشبه إلى حد ما الطبلة، و"البنادق" وهي طبول من الفخار، فضلاً عن آلة "الكاسور" التي ابتكرها سعد اليابس، أشهر فناني التراث من "العراقيين الأفارقة".
من جهة أخرى، يشتهر أصحاب البشرة السمراء بأداء تلك الفنون في "المكايد"، وهي الأماكن التي يخصصها أصحابها لأداء طقوس احتفاليه تُعزف فيها موسيقى الدفوف والطبول مع الألحان الأفريقية الموروثة. ويشيع إحياء تلك الطقوس في المناسبات الدينية وفي ذكرى الأموات والحزن وفي مناسبات الأفراح أيضاً.
ويعود نسل أصحاب البشرة السمراء لشعوب البانتو الساحلية في شرق أفريقيا، ومن المرجح أن يكونوا شعب السواحيلي، الذين استُعبِدوا وأُحضِروا إلى العراق في القرن التاسع أثناء تجارة العبيد عند العرب للعبودية خلال الخلافة العباسية وللعمل في الحقول الزراعية أو كعمال.
ولا يزال معظم "الأفارقة العراقيين" قادرين على الحفاظ على الطقوس المتعلقة بالشفاء والتي تعود إلى أصل زنجي، وتشمل اللغات المستخدمة في هذه الطقوس السواحيلية والعربية. تُستخدم آلات الإيقاع مثل الطبول والدفوف في الاحتفالات، وتتضمن الأغاني "داوا داوا"، وهي مزيج متناغم من العربية والسواحيلية.
كما تُستخدم الأغنية، التي تتحدث عن شفاء الناس من المرض، في احتفال الشتانجا، من أجل الصحة البدنية.
جدل في العراق
هنا في العراق، تكاد لا تكون طبقة أو شخصية تسلم من التنمر أو التمييز وحتى الاستغلال، وهو ما حدث مع أصحاب البشرة السمراء مؤخراً في البصرة، إذ فجّر قرار منحهم قطع أراضٍ جدلاً واسعاً برّرته النائب السابق رحاب العبودة بأنه جاء لكون القرار أشبه بـ"التمييز" ويحمل أهدافًا سياسية، وملفًا يهدف إلى استمالة هذه الشريحة بالتزامن مع موسم الانتخابات المقبلة.
وفي نيسان الماضي، وافق محافظ البصرة، أسعد العيداني، على تخصيص قطع أراضٍ سكنية للمواطنين من ذوي البشرة السمراء.
وتعليقاً على ذلك، انتقدت النائب السابق رحاب العبودة، الطريقة التي تم بها تناول لقاء محافظ البصرة أسعد العيداني مع مجموعة من أصحاب البشرة السمراء من أبناء المحافظة، معتبرةً أن "ما حدث يُعيد إلى الواجهة مفاهيم التمييز والطبقية المرفوضة دستورياً واجتماعياً"، بحسب قولها.
وقالت العبودة، "شاهدنا الصور التي انتشرت وسمعنا مطالب هذه المجموعة، وهي مطالب مشروعة، ولا عيب فيها، فالله خلقنا شعوباً وقبائل، وهذا التنوّع هو ما يميّز البصرة بجمالها الديني والعرقي والقومي".
وأضافت أن "الخطورة لا تكمن في المطالب، بل في طريقة تناول الموضوع من قبل بعض الجهات، وكأن تخصيص الأراضي يُناقش على أساس لون البشرة أو العِرق، وهو أمر مرفوض تماماً ويؤسس لطبقية لا تُليق بالبصرة ولا بتاريخها المتعدد".
واعتبرت العبودة، أن التناول الإعلامي لما حدث كان "مُهيناً ومسيئاً" للكثير من أبناء المحافظة، مشيرة إلى "موجة الغضب والانتقادات الواسعة التي ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي".
وأردفت بالقول: "ما شاهدناه لم يكن في مستوى الحدث، بل بدا وكأنه مادة إعلامية مستهلكة هدفها بث الفتنة وزرع التفرقة بين أبناء المحافظة، بدل أن تكون دعوة لتعزيز الوحدة الاجتماعية".
وتابعت: "اليوم نسمع أوصافاً وتصنيفات مؤسفة مثل (لفوفو) أو (أصحاب البشرة البيضاء) أو (السمراء). هذه اللغة يجب أن تُلغى من قاموسنا تماماً".
وختمت العبودة حديثها بالتأكيد على أن "البصرة ستبقى محافظة موحّدة، جاذبة، ومضرب مثل في التنوّع والتعايش، ولا ينبغي السماح بإعادة بثّ مفاهيم التفرقة سواء لأغراض انتخابية أو مصالح شخصية".
هل هناك تهميش وتمييز؟
وتنص المادة الـ 14 من الدستور العراقي لسنة 2005 على "المساواة دون تمييز على أساس عنصري"، لكن رغم ذلك لا يزال العراقيون من ذوي البشرة السمراء يعانون من الاستهداف والعنصرية.
وعلى مرّ العقود، عانت تلك الفئة من التهميش السياسي، فلم يشغل أيٌّ منهم منصب وزير، أو يُنتخب نائباً في البرلمان الوطني أو في مجالس المحافظات.
ففي سنة 2007، قام الناشط جلال ذياب بتأسيس "حركة العراقيين الأحرار" وكانت الكيان الرسمي الأول لـ"العراقيين الأفارقة". وصفها ذياب بأنها "تجمّع مدني علماني يهدف إلى إحقاق حقوقهم من دون أي بُعد عنصري أو تمييزي"، بحسب ما يذكر الباحث سعد سلوم في كتابه "الأقليات في العراق".
طالبت الحركة آنذاك بتمثيل سياسي لأصحاب البشرة السمراء في الحكومة والاعتراف بوجودهم في الدستور العراقي والاعتذار الرسمي عن التاريخ الطويل من التمييز والعنصرية ضدهم، وتشريع قانون لتجريم كلمة "عبد" التي تُطلق على ذوي البشرة السمراء، والمعاقبة القانونية للتمييز ضدهم، وتضمينهم في المناهج الدراسية.
كما طالبت بالحصول على كوتا الأقليات، على غرار ما حصل عليه المسيحيون والأيزيديون والمندائيون والشبك.
لكن في أبريل 2013، أُجهض مشروع "حركة العراقيين الأحرار" في مهده بعدما اُغتيل جلال ذياب على يد مجهولين رمياً بالرصاص، وقيل وقتها إن استهدافه كان بسبب تأثره وإعجابه بالرموز الأميركية من ذوي البشرة السمراء، مثل مارتن لوثر كينج والرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما.
أما حاليا، فيرى النشمي أن "هذه الطبقة لم تعد مُستغلَّة ولا تعاني من العنصرية"، ويقول: "لا يوجد حالياً اضطهاد بحقهم ولا تفرقة عنصرية لا في القانون ولا في المجتمع لكن هناك أمزجة وحالات عند بعض الناس وهذا لا يعني أن المجتمع كله يميزهم".
ويؤكد النشمي لـ"الجبال": أن "هذه الطبقة غير مستغلة حالياً لا اجتماعياً ولا دينياً ولا حياتياً ولا قانونياً لذلك تلاحظ الكثير منهم رياضيين وأساتذة وعلماء وفنانين وأصدقاء ومطربين وليس هناك أي شيء يميزهم".
من جانبه، يتفق مدير إعلام مفوضية حقوق الإنسان سرمد البدري قليلاً مع النشمي؛ لكنه لا ينفي "وجود اضطهاد حتى لو كان سابقاً لهذه الفئة".
ويقول البدري لـ"الجبال": إن "أصحاب البشرة السمراء من أكثر الفئات هشاشة في المجتمع، وغالبا يكونون من الطبقة الكادحة، ورغم أن الكثير من العلماء وأساتذة الجامعات وغيرهم هم من ذوي البشرة السمراء لكن هذا لا يعني بأن هذه الفئة تعتبر الأفضل في المجتمع".
وأضاف، "على الرغم من الجهد الحكومي فلا يزال المجتمع يعاني من الضعف بالجانب الاقتصادي والجانب المعنوي والمادي وضعف الرواتب وقد تكون في بعض الأحيان قلة فرص العمل وقلة فرص التعيين لها نتائج، لكن هذه الفئة من المجتمع أحباؤنا وإخواننا واستضفناهم في الكثير من البرامج والندوات واستمعنا إلى همومهم وتم توثيقها في مكتبنا بالبصرة كونها تعتبر مركز أبناء هذه الفئة ومكتب البصرة قام بجهود كبيرة بهذه المجال مع شخصيات دولية ووطنية وعالمية وأيضا مؤسسات دولية بما يتعلق برعاية حقوقهم لأنهم مكوّن حقيقي علينا ومن أكثر المجتمعات هشاشة في المجتمع".
وأكمل البدري: "أما بالنسبة للظروف التي مرّوا بها فهي ظروف متراكمة وليست وليدة اللحظة وكان جزء من هذه المشاكل هي سياسات النظام السابق الذي كان مضطهدهم وكانوا بزمنه عديمي الفرص بالكثير من الأمور".
وأوضح أن "حالات التنمر تحدث بالوقت الحالي بحق هذه الفئة من المجتمع رغم أن المؤسسة الدينية ثقفت كثيراً على هذا الموضوع، فضلاً عن أن أهل البيت كانوا يثقفون كثيراً على هذا الموضوع سواء كانوا من ذوي البشرة السمراء أو أقلية دينية وغيرهم الكثير".
وشدد البدري بالقول: "يجب أن لا يتم التعامل معهم بمبدأ الاستعلاء، ونحن كمؤسسة واجبنا أن نتصدى لها، سواء بالقانون أو غير القانون، أي التثقيف، ولهذا نرجو من المحافظات التي تُعتبر مركزاً لذوي البشرة السمراء أن تضع في عين الاعتبار أن تنظر لهم نظرة خاصة ونركز معهم على حماية حقوقهم".
كما دعا أصحاب البشرة السمراء الذين يحملون المناشدات، إلى "التوجه للسلطات المحلية في محافظاتهم كونهم يملكون الحق في التعليم والرعاية والحق بالمعيشة والسكن والوظيفة"، مؤكدا أن "هذه الحقوق واجبة لهم كما وُضعت لأبناء الأقليات الأخرى".
وختم مدير إعلام مفوضية حقوق الإنسان حديثه لـ"الجبال" بالقول إن "أصحاب البشرة السمراء فئة مهمة في المجتمع، والمحافظة عليهم يعني تقوية المجتمع، هنالك أشخاص منهم يعملون في منظمات إنسانية دولية وهذه المنظمات لها صوت سواء على المستوى الدولي أو على المستوى الدولي، لذلك فإن هؤلاء سيكونون سفراء العراق في الخارج وإذا رأوا أن فئتهم تعاني الاضطهاد ممكن أن يوصلوا أصواتهم ويصبح علينا مؤشر دولي كون العراق موقّع على اتفاقية دولية تخص التمييز العنصري ويحضر كل عام المؤتمرات التي تتعلق بذلك".