شهدت محافظة ذي قار في جنوب العراق، تصاعد الإصابات بفيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، وهو الأمر الذي بدأ يثير القلق في الأوساط الصحية، في ظل بيئة اجتماعية تهتم كثيراً لموضوعي "الوصمة والإنكار".
وبحسب مصدر طبي سجلت المحافظة قرابة الـ 200 إصابة تراكمية مؤكدة وسط مخاوف من وجود عشرات، وربما مئات الحالات غير المكتشفة نتيجة عدم خضوع أصحابها للفحص الطوعي إما بسبب الخوف من "العار المجتمعي" أو بسبب قلة الوعي بخطورة المرض.
محافظة ذي قار التي يزيد عدد سكانها على مليونين وثلاثمائة وثمانين ألف نسمة تحتل المرتبة الرابعة في العراق من حيث الكثافة السكانية، وتُعرف بأعرافها العشائرية وتقاليدها، وهذه العوامل ـ بحسب مختصين ـ "تخلق حاجزاً كبيراً أمام التوعية الصحية"، خاصة عندما يتعلق الأمر بأمراض ترتبط بسلوكيات يراها المجتمع "محرّمة" أو "مخجلة".
ويُعد فيروس HIV المسبب لمرض الإيدز من أكثر الفيروسات خطورة إذ يهاجم جهاز المناعة ويقوض قدرته على مقاومة العدوى، مما يعرّض المصابين إلى أمراض وانتهاكات صحية متعددة، وعلى الرغم من وجود علاجات حديثة تتيح للمصابين التعايش مع الفيروس، إلا أن الكشف المبكر يظل حجر الأساس في الحد من انتشاره، بحسب مختصين.
تاريخياً، سُجلت أولى حالات الإصابة بالإيدز في العراق عام 1986 بحسب الباحث بهاء عيسى، عندما تم استيراد عامل التجلط الثامن لعلاج مرضى نزف الدم الوراثي، وتبيّن لاحقاً أنه ملوث بالفيروس، ما أدّى إلى تفشي المرض بين عدد من المرضى. ونتيجة لذلك، أسست وزارة الصحة البرنامج الوطني لمكافحة الإيدز.
لكن بعد عام 2003، ومع فتح الحدود أمام السفر الخارجي، شهد العراق – ومنه ذي قار – تصاعداً ملحوظاً في أعداد الإصابات وتشير إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء إلى أن عدد الحالات المسجلة في العراق عام 2018 كان 111 إصابة منها 4 في ذي قار بواقع اثنين نساء واثنين رجال، بينما تجاوز العدد 430 إصابة بحلول عام 2022 بينها في ذي قار بواقع 29 إصابة 22 رجال و7 نساء، ما يمثل ارتفاعاً في العراق بأكثر من 300 حالة خلال أربع سنوات فقط.
وبهذا تكون ذي قار هي ثالث محافظة عراقية سجلت في حينها أعلى إصابات عام 2022، حيث تصدرت بغداد المحافظات ومن ثم البصرة وبعدها ذي قار، وفقاً للمختصين أنفسهم.
هذا التصاعد اللافت يضع المؤسسات الصحية والاجتماعية أمام تحدٍّ كبير، لا يقتصر على التوعية الطبية، بل يمتد إلى كسر حاجز الخوف والصمت المحيط بالمرض إذ يرى المختصون أن أهم خطوة لمواجهة هذا التهديد تكمن في نشر ثقافة الفحص الطوعي، وتبنّي خطاب صحي عقلاني، يُخرج المرض من دائرة "الفضيحة" إلى فضاء "الوقاية والعلاج".
مصدر طبي في دائرة صحة ذي قار بيّن لمنصة "الجبال" تسجيل أعداد كبيرة في إصابة تراكمية بفيروس نقص المناعة (الإيدز) في المحافظة حتى الوقت الراهن، مشيراً إلى أن "ما نسبته 70% من هذه الإصابات تعود إلى علاقات جنسية غير شرعية وغالباً ما تكون ناتجة عن السفر إلى دول إقليمية ومجاورة".
وأكد المصدر أن "الوقاية من المرض تبدأ من التثقيف الصحي المبكر خصوصاً في البيئة المدرسية"، داعياً إلى "تعزيز التوعية بمخاطر هذا الفيروس ضمن المناهج التعليمية، وهو ما بدأت وزارة الصحة بالتركيز عليه منذ عامي 2017 و2018 من خلال إدخال موضوع الإيدز ضمن خطط التثقيف الصحي".
وأشار إلى أن "الوزارة وفرت أجهزة فحص متقدمة للكشف عن الفيروس، وتم توزيعها على عدة منافذ صحية، منها مصارف الدم للمتبرعين، وحدات ما قبل العمليات الجراحية والنساء الحوامل والمراكز الطوعية، كما تم إدخال فحص الإيدز ضمن متطلبات الحصول على إجازة قيادة المركبات مؤخراً، في خطوة تهدف لتوسيع نطاق الكشف المبكر".
ورغم هذه الإجراءات، بيّن المصدر أن "تنفيذ حملات فحص ميدانية داخل الأحياء السكنية يُعد أمراً بالغ الصعوبة، نظراً لما يحمله المرض من وصمة اجتماعية قوية قد تُعيق تقبّل الفحص الطوعي وتمنع الانفتاح على هذا النوع من الخدمات الصحية".
وفيما يخص توزيع الإصابات أوضح أن "الرجال يمثلون أكثر من 60% من مجموع المصابين، وتتركز غالبيتهم في الفئة العمرية بين الأربعينيات والخمسينيات، بينما تسجَّل نسبة منخفضة من الإصابات بين فئة الشباب".
وشدد المصدر على "أهمية مواصلة العمل التوعوي وتشجيع الفحص الطوعي الآمن، بالتوازي مع مواجهة الوصمة المجتمعية المرتبطة بالمرض، والتي تُعد من أبرز التحديات التي تعيق السيطرة عليه".
الى ذلك كشف رئيس لجنة الصحة والبيئة النيابية ماجد شنكالي في تصريح صحفي سابق أن العراق سجل خلال السنوات الماضية 2638 حالة إصابة بفيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، بينها 470 حالة وفاة، مؤكداً أن هذه الأرقام لا تزال ضمن المعدلات العالمية وأقل بكثير منها.
وأشار إلى أن هناك حالات نادرة لإصابة حديثي الولادة بسبب انتقال العدوى من الأم إلى الطفل، أو من خلال نقل الدم، مشيراً إلى أن الأشهر الثلاثة الماضية لم تشهد تسجيل أي حالة جديدة.
من جانبه أكد أخصائي صحة المجتمع في صحة ذي قار الدكتور صادق الموسوي لمنصة "الجبال" أن "المصابين بفيروس نقص المناعة المكتسبة (HIV) يمكنهم العيش حياة طبيعية وآمنة بشرط الالتزام بالعلاج بانتظام وإجراء الفحوصات الدورية لمراقبة نسبة الفيروس في الدم".
وأوضح الموسوي أن "العلاج المتوفر حالياً، يساهم في السيطرة على الفيروس بشكل فعّال، ما يجعل المصاب غير معد للآخرين في الظروف الاعتيادية، سواء كان في إطار الحياة الزوجية أو الاجتماعية، بشرط عدم الإخلال بخطة العلاج".
أشار أخصائي الصحة إلى أهمية أن "يُبلغ المصاب الكوادر الطبية في حال خضوعه لأي عملية جراحية أو تبرع بالدم، لضمان اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة وحماية الطواقم الطبية".
وبيّن الموسوي أن "محافظة ذي قار تضم سبعة مراكز فحص طوعية رسمية موزعة في مختلف الأقضية، تُقدّم خدمات الفحص بسرّية تامة وخصوصية عالية، بما يضمن احترام خصوصية المراجع ويشجّع على الفحص المبكر والاكتشاف الطوعي".
وفي نفس الإطار أكد مسؤول في منظمة التواصل والإخاء الإنسانية، علي الناشي، المعني بحملات التوعية الصحية، على أهمية الحذر من تزايد معدلات الإصابة بفيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، خصوصاً بين فئة الشباب، داعياً إلى تعزيز الوعي المجتمعي، وكسر الصمت تجاه المرض الذي بات يشكّل تهديداً صحياً متنامياً في بعض المناطق.
وشدد الناشي على أن الإيدز "ليس مرضاً يحمل وصمة" بل هو قضية تتعلق بالمسؤولية والوقاية والتثقيف"، داعياً المواطنين إلى "عدم التردد في أخذ دورهم في التوعية داخل المجتمع، وتبنّي سلوكيات الوقاية"، مشيراً إلى أن "مواجهة الإيدز لا تكون بالخوف أو التهميش بل بالمعرفة، والانفتاح، والعمل الجماعي".
وأكد أن "الوقاية تبدأ من التثقيف الصحي المبكر والفحص الطوعي وفتح قنوات الحوار المجتمعي"، موضحاً أن "التكاتف بين الجهات الصحية، ومنظمات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام، هو السبيل الوحيد للحد من انتشار المرض والسيطرة عليه".