وسط جبال إقليم كوردستان كهوف ومغارات متنوّعة زاخرة بطبيعتها الجيولوجية البديعة، وثّقت آثارها وجود الإنسان والحضارة، وهي تروي حكایات التأریخ والجغرافیا والمقاومة من أجل الحياة.
ملاذ آمن في الحرب والسلام
يتذكر سكان المناطق الجبلية في إقليم كوردستان العراق علاقتهم بالكهوف التي كانت جزءاً لا يتجزّأ من حياتهم اليومية، ريفنك هروري، 60 سنة، أمضى الكثير من أيامه متنقلاً مع عائلته بين منزله والكهوف في الجبال المحيطة بقريته هرور شمالي محافظة دهوك، عندما كانت قوات النظام العراقي السابق تشن هجماتها على المناطق الخاضعة لسيطرة قوات البيشمركة الكوردية في ستينيات القرن الماضي. ويقول لـ"الجبال" إن "علاقتي بالكهف تعود إلى أيام الصبا في ستينيات القرن الماضي عندما كانت تلجأ عائلتنا إلى كهف في الجبل القريب من قريتنا للعيش فيه بين حين وآخر، ونترك منزلنا كبقية سكان القرية خشية من هجمات القوات الحكومية آنذاك على مناطقنا الخاضعة لسيطرة قوات البيشمركة، ونضطر للبقاء داخل الكهف لأيام لحماية أنفسنا من القصف الذي كان يستهدف كل حركة على الأرض".
ويوضح هروري أن، رجال قريته كانوا يراقبون الأجواء من الأماكن المرتفعة، وعند سماعهم لصوت الطائرات الحربية، يطلقون النداءات لسكان القرية بترك منازلهم واللجوء إلى الكهوف لإنقاذ أرواحهم من القصف، مبيناً أن "الكهف كان ملاذنا الآمن لحمايتنا من قنابل الطائرات في تلك الظروف الصعبة".
ويشير إلى أن "الكهف يمنح الطمأنينة والهدوء ويحتفظ بدرجة حرارة معتدلة صيفاً وشتاء، وله أهمية كبيرة ليس في الحرب فقط وإنما في السلم. إذ كان مكاناً آمنا لاستراحة الرحل والرعاة فضلاً عن استخدامه لخزن الحبوب والعلف وإيواء الأغنام والمواشي لحمايتها من الحيوانات المفترسة".
هروري وهو من قدماء مقاتلي البيشمركة، أضاف في حديثه لـ"الجبال" أن "كهوف جبال كوردستان كانت ملاجيء رئيسة لمقاتلي البيشمركة في الثورات الكوردية لمقاومة هجمات قوات الأنظمة العراقية السابقة، والانطلاق منها لتنفيذ العمليات والخطط العسكرية فضلاً عن معالجة جرحى المعارك وخزن السلاح والمؤن والمستلزمات الأخرى فيها"، لافتاً إلى "هجوم بالمدفعية شنّته قوات النظام السابق في العام 1969 على إحدى الكهوف التي تضم نساء وأطفالاً في قرية "دكان" التابعة لقضاء شيخان شرقي محافظة دهوك، وأسفر الهجوم عن مقتل نحو 75 شخص أغلبهم النساء والأطفال".
مختبرات طبيعية وسط جدران وأعمدة كريستالية
تزخر جبال إقليم كوردستان العراق بعدد كبير من الكهوف منها طبيعية تحتوى على مظاهر جيومورفولوجية تتميز بداخلها أعمدة وهوابط وصواعد كريستالية وبلورية تمنح المكان مناظر بديعة، أبرزها كهف "كونبا" الواقع في جبل "كولان" غرب بلدة دربنديخان بمحافظة السليمانية وكذلك كهف "بيستون" بجبل "برادوست" في محافظة أربيل، كما توجد كهوف أخرى لها أهميتها الأثرية والتأريخية مثل كهف "شاندر" و"هزارميرد" و"زرزي"، إذ تؤكد الدراسات العلمية وجود هياكل عظمية للإنسان القديم في كهف شاندر، تعود إلى قبل 60 الف سنة، وهناك كهوف أخرى تدخّل الإنسان في توسيعها ورسم على جدرانها النقوش والكتابات والرموز والتماثيل، كما توجد كهوف كمعابد وأماكن لدفن الموتى.
الخبير الجيولوجي، رمضان حمزة، يقول لمنصة الجبال إن "كهوف إقليم كوردستان ذات أهمية كبيرة من الناحية الجيولوجية والعلمية، إذ توفر معلومات قيّمة عن التاريخ الجيولوجي والبيئي للمنطقة"، مبيناً أنها "تحتوي تشكيلات صخرية متنوعة تعكس التغيرات الجيولوجية التي حدثت على مر العصور. على سبيل المثال، كهف شاندر، الذي يُعتبر من أقدم الكهوف في المنطقة عثر فيه على بقايا النياندرتال، مما يدلّ على وجود حياة بشرية قديمة في هذه المنطقة". كما أن "الكهوف توفّر معلومات عن المناخ القديم من خلال تحليل التربة، ما يساعد في فهم التغيرات البيئية التي شهدتها المنطقة عبر الزمن".
ويضيف حمزة أن الكهوف مختبرات طبيعية لدراسة علم الأحياء القديمة وعلم الآثار، وتوفر فرصاً لدراسة بقايا الكائنات الحية التي عاشت في فترات زمنية مختلفة، ما يساعد العلماء على فهم تطور الحياة وتغيرات المناخ، معتبراً أن الكهوف الكوردستانية ثروة جيولوجية وعلمية، ويجب العمل على استغلالها بشكل مستدام لتحقيق الفوائد العلمية والاقتصادية.
كهوف مؤهلة للسياحة
وتشكل الكهوف بطبيعتها الجيولوجية والأثرية والتأريخية عاملاً مهماً لجذب السياح، ويمتلك إقليم كوردستان عدداً كبيراً من الكهوف المتنوعة والمهيئة لجذب السياح أبرزها "كونبا"، "بيستون"، "شاندر"، "هزار ميرد"، "باوه شاسوار"، "جارستين"، "خنس"، و"اينيشكي"، فضلاً عن العديد من الكهوف الأخرى التي تتميز بالطابع الديني والإنساني. وبحسب مسؤول الإعلام السابق في هيئة سياحة إقليم كوردستان نادر روستايي، يوجد في إقليم كوردستان ما بين 25 ــ 30 كهفاً مؤهلاً للاستثمار السياحي، فضلاً عن وجود عدد آخر لم يتم الكشف عنه بعد.
ويضيف روستايي في حديثه لمنصة "الجبال": "تتميز كهوف كوردستان بعناصر مهمة لجذب السياح والباحثين والزوار من مختلف المناطق للإطلاع على معالمها الطبيعية والتأريخية والأثرية"، مؤكداً "أهمية تنشيط سياحة الكهوف وتأهيل مواقعها، وتوفير الخدمات والحماية اللازمتين، والتسويق لها لتسهم في اتنعاش القطاع السياحي".
طبيعة مدهشة
وتكتسب سياحة الكهوف في العديد من مناطق العالم أهمية كبيرة، لا يقتصر زوارها على العلماء والباحثين فقط، بل تجد رواجاً كبيراً من قبل السياح الشباب للمغامرة في الوصول إليها والغوص في عمق أسرارها وكشف خباياها ومكنوناتها الطبيعية وتحفها البديعة والنقوش والرموز المنحوتة على جدرانها. وحسب التقديرات، فإن سياحة الكهوف تجذب سنوياً نحو 250 مليون سائح على مستوى العالم ويقدّر حجم إنفاقها بـنحو ملياري دولار سنوياً.
ويعد كهف "اينيشكي" في دهوك من الكهوف السياحية شمالي المحافظة، يتميّز بجمال الطبيعة، ويحتوي بداخله مطعماً ومقهى يقصده السائحون من مختلف المناطق العراقية.
صفاء عمار، ذو 44 سنة، سائح من محافظة بابل ويزور هذا المكان مع عائلته، وقال لمنصة الجبال: "إن كهوف جبال كوردستان تتميز بمواقعها وأجوائها الهادئة وطبيعتها المدهشة، وتستحق الزيارة عدّة مرّات لقضاء أجمل الأوقات" داعیاً الجهات المعنیة لـ "الاهتمام بها، وجعلها وجهة لجذب السياح".