تعبيرية
لم يتوقف وادي الرافدين، مهد الحضارات البشرية، عن إغناء العالم بتركته الحضارية الثمينة، التي تواصل إثراء المعمورة منذ آلاف السنين حتى يومنا هذا، بمتعلقات وإنجازات الناس الذين سبقونا بالوجود بمئات آلاف السنين، فغادرونا وتركوا لنا آثارهم.
وميزوبوتاميا أرض "الحضارة الأصيلة"، ليست موطن الأبجدية، والعلم، والقانون، والفلك، والحساب، والهندسة، والفنون فقط، بل أول مطبخ حفظ الوصفات الغذائية لمن يتبعهم من بني البشر.
وكثيراً ما تساءلنا وسمعنا عن الأماكن التي احتضنت أجدادنا في تلك الأزمنة، وعن إنجازاتهم، نمط حياتهم، علاقاتهم، ومعتقداتهم، وعن هزائمهم وانتصاراتهم، لكن هل خطر لك مرة ماذا كانوا يأكلون، ماذا فضّلوا، وكيف كانوا يعدّون ما يحبّون؟
نظام غذائي متنوّع
يقول الأكاديمي المختص بعلم الآثار في جامعة صلاح الدين بأربيل، آري كامل، لمنصة "الجبال": "يمكننا تتبّع ما يتعلق بأنواع الطعام ومكوناته وطرق إعداداه في ميزوبوتاميا، بدءاً من فترة اختراع الكتابة والتدوين أي الألفية الثالثة قبل الميلاد، كذلك الألفية الثانية قبل الميلاد، أي قبل 4000 سنة"، مشيراً إلى أن الأقوام في تلك الحقب "اعتمدوا على اللحوم الحمراء مثل لحوم الأغنام والأبقار والخنازير، واللحوم البيضاء مثل الدجاج والطيور. أما الخضار والفواكه فكانت ذاتها التي نعتمدها في حياتنا اليوم".
"كانت توجد المعجنات، الخبز، والقمح والشعير كانا شائعين، بالإضافة إلى الزيوت خاصة زيت السمسم، والزبدة. غالبية النصوص تتحدث عن هذه المواد الغذائية" حسب قول كامل.
من جانبها، تشير الباحثة "جين بوتّيرو" في كتابها "أقدم مطبخ في العالم: الطبخ في ميزوبوتاميا" إلى استخدام الميزوبوتاميين الألبان مثل الحليب، الزبدة، الكريمة، والجبن. والمعجنات من المواد الرئيسة في النظام الغذائي لديهم، كانوا يصنعونها من الحبوب بعد تعريضها للحرارة وتشكيلها بقوالب من طوب.
الـ"توهو".. أقدم وصفة طبخ في العالم
والتوهو وصفة من المطبخ البابلي، تعتبر الأقدم في العالم. دونت على اللوح المحفوظ في جامعة يل، ويمتدّ عمرها إلى نحو 4000 عام، وتتكون من لحم الخروف، الشوندر، مرق اللحم، الجرجير، الكراث، البقدونس، والبصل الأخضر. وقد أضاف لها أجدادنا القدماء شراب الشعير الكحولي -البيرة- كما هو مذكور في اللوح، ويمكن إضافة التوابل، الملح، والكمون، والكزبرة، حسب الرغبة.
الوصفة موجودة على لوح طيني أثري محفوظ في جامعة "يل Yale" الأميركية، نقشها طهاة محترفون في ميزوبوتاميا القديمة، 1730- 1600 قبل الميلاد. وقد أشار اللوح إلى عشرات وصفات الطعام المعتمدة بذلك الحين، في مقدمتها "توهو".
ووفقاً للبروفيسور بيل ساذرلاند، من جامعة كامبريدج، يبلغ عمر الطبق 3770 عاماً، ويعدّ من أشهر الوصفات البابلية، بالإضافة إلى "يخنة لحم الضأن" و"فتات العجين المخمر" و "طبق المرق العيلامي".
طرق الطهي
لم توضح الألواح المحفوظة عن طعام بلاد ما بين النهرين طرق إعداد الوصفات بتفاصيل دقيقة، فلا أحد يعرف نسب الوصفات أو المدد اللازمة لطهي الأشياء. والسبب يعود لعدم اهتمام المدونين القدامى بطريقة الإعداد بقدر اهتمامهم بوصف الأطباق ومكوناتها من جانب، ولقدم الألواح الأثرية ذاتها وزوال جزء من الكتابات من عليها بجانب آخر.
وفي هذا السياق، يقول آري كامل، لـ"الجبال"، إنه "ليس بمتناولنا الكثير من النصوص لتوضيح ذلك، لكن يمكنني القول إن طرق إعداد الطعام كانت قريبة من الطرق المعتمدة الآن"، منوّهاً إلى أن "الجامعات الأوروبية طبقت مؤخراً إحدى تلك الوصفات البسيطة، التي تتكون من الخضار والماء والبصل، ولكن لم يعرف إذا ما كانت نكهتها مطابقة لتلك التي كانت قبل آلاف السنين".
وبحسب الباحثة بوتّيرو، فإن الطهاة القدامى كانون يقومون بثلاث خطوات في إعداد الطعام مثلما نفعل نحن في حاضرنا، تتلخص في إعداد الأدوات للطبخ، ثم طهي الطعام، ومن ثم تقديمه إلى المائدة، مؤكدة أن تحضير غالبية الأطباق كان يتضمن الطهي. بعبارة أخرى، تعريض المكونات إلى الحرارة لتصبح شهية وقابلة للأكل.
وأشارت الباحثة إلى طرق عدّة استخدمها الميزوبوتاميون في تحضير طعامهم، مثل: التخمير، الترطيب، الشيّ، والسلق. ويُعتقد أن البابليين كانوا من أوائل الناس الذين حاولوا سلق اللحوم بشكل فني، واعتبرت هذه السمة المميزة لأسلوبهم في الطهي، فكانوا يطبقون كل وصفة تقريباً بإضافة الدهن عليها ووضعها في وعاء من الماء المغلي.
فإن كنت ممن ينجذب إلى الغوص في الماضي، أو يشده استشعار الجلوس على مائدة بابلية وتذوق ما كان يتناوله العراقيون القدماء، فلم يعد الأمر صعباً.
