في بلدٍ يعاني فيه المرضى من وطأة الألم والمعاناة، بات الحصول على الأدوية المنقذة للحياة معركة يومية لا تقل قسوة عن المرض نفسه، "أدوية السرطان، علاجات الأمراض النفسية، وأدوية الصرع" التي من المفترض أن تكون متاحة في المستشفيات والصيدليات تحولت إلى سلع نادرة تباع في الخفاء بأسعار خيالية، أو تُهرّب عبر الحدود دون أي رقابة طبية. فأصبح العراقيون دائماً ما يتساءلون "أين تختفي هذه الأدوية؟"، "ولماذا أصبح التهريب هو المصدر الرئيس لهذه العقاقير؟".
وفي ظل تراجع الصناعة الدوائية المحلية في البلاد وارتفاع معدلات التلاعب والاحتكار، يتفاقم هذا الملف الحساس، ليترك المرضى وعائلاتهم في مواجهة الموت البطيء، أو البحث في السوق السوداء عن أمل باهظ الثمن دون حلول منذ سنوات.
شهدت صناعة الأدوية في العراق انهياراً شبه تام بعد الغزو الأميركي خلال العام 2003، حيث تعرضت المصانع للضرر والتخريب، ما أجبر البلاد على الاعتماد بشكل شبه كامل على الاستيراد.
المرضى يواجهون أزمة حادة
أحمد كريم، صاحب الـ 42 عاماً، والذي يسكن في العاصمة بغداد، يؤكد أن "غياب الأدوية الضرورية لمرضى الصرع أصبح يشكل تهديداً مباشراً على حياة المصابين".
كريم والذي يعاني ابنه من "الصرع"، يقول خلال حديث لمنصة "الجبال"، إن "ولده يحتاج إلى دواء يومياً، لكنه غير متوفر في الصيدليات، وحتى عندما نجده في السوق السوداء يكون بسعر مرتفع لا يمكن تحمله"، داعياً الحكومة إلى التدخل فوراً لإنقاذ المرضى من هذه المعاناة".
كما يعبر عن قلقه الشديد من استمرار الأزمة، مؤكداً أن :هناك من يموتون لأنهم لا يستطيعون شراء الدواء، الحكومة هي المسؤولة على إيجاد حلول جذرية بدلاً من ترك المرضى يعانون تحت وطأة الاستغلال".
من جهتها، أوضحت فاطمة حسين، وهي التي تبلغ من العمر 36 عاماً من بغداد، أن "والدتها المصابة بالسرطان تعاني من صعوبة في الحصول على العلاج"، مستطردة بالقول "نضطر إلى شراء الأدوية عبر قنوات غير رسمية بأسعار خيالية، ومع ذلك لا نضمن جودتها".
وتتابع حسين، خلال حديثها لمنصة "الجبال"، أنه "لا يجب أن يُتركوا المرضى تحت رحمة المهربين، هذا وضع غير إنساني، خصوصاً وأن الأزمة مستمرة منذ فترة طويلة".
وفي الموصل، يشكو محمد عبد الرحمن صاحب الـ 50 عاماً، من نقص الأدوية النفسية، مؤكداً أن انقطاعها يزيد من معاناة المرضى.
ويقول عبد الرحمن، لمنصة "الجبال"، إنه "أحتاج إلى أدوية مضادة للاكتئاب بانتظام، لكنها تختفي فجأة ثم تعود بأسعار مرتفعة، لا يمكننا البحث عن علاج في السوق السوداء كل مرة، أين دور الجهات الصحية في تأمين الأدوية؟".
ومع تزايد الشكاوى جراء نقص الأدوية في البلاد، خرج رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني بتصريحات مؤكداً فيها أن "العراق ينفق نحو 3 مليارات دولار سنوياً على استيراد الأدوية، بينما لا تخضع معظم هذه الأدوية للفحص والرقابة اللازمة"، موضحاً أن "الصناعة الدوائية المحلية لا تلبي سوى 10% من الاحتياجات الفعلية، وهو ما يستدعي إعادة تنظيم القطاع لإنهاء الاستيراد العشوائي وتحقيق الأمن الدوائي".
في غضون ذلك، قال رئيس لجنة الصحة النيابية ماجد شنكالي، العام الماضي، إن "هناك نقصاً حاداً في التخصيصات المالية للقطاع الصحي، مبيناً أن "العراق ينفق فقط 200 دولار سنوياً لكل مواطن على الرعاية الصحية، أي ما يعادل 17 دولاراً شهرياً، وهو رقم متدنٍ مقارنة بالمعايير الدولية".
الصيدليات تعتمد مصادر "غير رسمية"
يواجه القطاع الصيدلاني في بغداد أزمة حادة بسبب نقص الأدوية، ما يدفع بعض الصيدليات إلى اللجوء لمصادر غير رسمية لتلبية احتياجات المرضى، وفق ما أكده عمر الكبيسي، صاحب إحدى الصيدليات في منطقة الحارثية التي تعتبر مركز الأطباء في بغداد.
ويقول الكبيسي، في حديث لمنصة "الجبال"، إن "العديد من الأدوية الأساسية، وخاصة المتعلقة بأمراض السرطان، الصرع، والأمراض النفسية، باتت شحيحة في الأسواق، مما يضطر الصيدليات إلى البحث عن بدائل عبر قنوات غير رسمية".
ويضيف الصيدلي أن "هناك نقصاً واضحاً في الأدوية الضرورية، والمرضى بحاجة ماسة إليها وفي ظل عدم توفرها عبر القنوات الرسمية، تصلهم بعض الأدوية بطرق أخرى، ونضطر إلى توفيرها حرصاً على حياة المرضى".
وفقاً للكبيسي، فإن الأدوية التي تدخل بهذه الطريقة غالباً ما تكون بأسعار مرتفعة، مما يزيد العبء على المرضى وعائلاتهم، خاصة مع غياب رقابة صارمة على جودتها، مضيفاً أن الحل يكمن في تحسين آليات الاستيراد، وضمان توفير الأدوية بشكل منتظم عبر المنافذ الرسمية، حتى لا يضطر المواطن إلى البحث عنها في السوق السوداء.
ويطالب الصيادلة والمواطنون الجهات الحكومية، بـ "التدخل العاجل لحل مشكلة نقص الأدوية، من خلال دعم القطاع الصحي وضبط آليات التوزيع، لضمان حصول المرضى على العلاجات اللازمة دون اللجوء إلى مصادر غير موثوقة".
المحلي بدلاً عن الشركات العالمية
وبحسب تقرير صدر عن مجلس السرطان في العراق، مؤخراً فإن السلطات العراقية سجلت أكثر من 43 ألف إصابة جديدة بالأمراض السرطانية خلال العام 2024، بمعدل 171.6 حالة لكل 100 ألف نسمة، وهو ما يشير إلى زيادة مقلقة تتطلب استجابة عاجلة.
كما أظهر التقرير، أن سرطان الثدي يتصدر قائمة الأمراض السرطانية في البلاد، حيث يمثل 36.1% من إجمالي الحالات المسجلة.
ويقول مصدر في مجلس السرطان العراقي، في حديث لمنصة "الجبال"، إن "العديد من شركات الأدوية الرائدة عالمياً، مثل نوفارتس، فايزر، سانوفي، وGSK، لم تعد تعمل في العراق، ما أدى إلى فراغ في سوق الأدوية الحيوية، خاصة أدوية السرطان".
ويضيف المصدر الذي يشغل منصباً رفيعاً، أن "النقص يعود إلى انسحاب هذه الشركات لأسباب متعددة، من بينها البيئة الاستثمارية والتحديات اللوجستية"، مبيناً أن "الجهات الحكومية في العراق قررت تعويض هذه الأدوية عبر الصناعة محلياً".
ووفقاً للمصدر، فإن هذه الصناعات هي صناعات عالمية وتحتاج إلى تكنولوجيا عالية والعراق لا يملكها نهائياً، إذ أن دولاً كبرى غير قادرة على صنع هكذا عقارات فكيف للعراق الذي يمتلك بيئة صحية بسيطة صناعتها، مشيراً إلى أن جميع الأدوية التي تصنع محلياً هي غير مجدية، وأن مسكنات الألم البسيطة غالباً ما توصف بأنها غير فعالة مقارنة بالمستحضرات المستوردة.
كما يتابع المصدر قائلاً إن "المرضى باتوا يعتمدون على الأدوية المهربة إلى العراق والتي تصل إلى الأسواق بأسعار مرتفعة، مما يضاعف معاناة المرضى الذين يعانون بالفعل من صعوبات الحصول على العلاج المناسب".
ووفقاً للإحصائيات الرسمية، فتعتبر محافظة البصرة من أكثر المناطق تضرراً، حيث تعاني من ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية لدى الأطفال حديثي الولادة، وفقاً لتقارير رسمية ومدنية.
إلا أن وزير الصحة العراقي صالح الحسناوي أكد في نيسان 2024 أن نينوى، ومركزها الموصل، هي الأعلى من حيث معدل الإصابات السرطانية.
أدوية الصرع وارتفاع أسعارها
يحذر الدكتور علي المشهداني، المتخصص في أمراض الدماغ والصرع، من نقص كبير في الأدوية الخاصة بعلاج الصرع خلال الفترة الماضية، ما تسبب في أزمة حقيقية للمرضى الذين يعتمدون على هذه العلاجات للسيطرة على حالتهم الصحية.
وفي حديث لمنصة "الجبال"، ذكر المشهداني أن "معظم الأدوية ذات المناشئ العالمية غير متوفرة بشكل منتظم، وإن توفرت، فإنها تكون لفترات محدودة فقط، ما يدفع الأسعار إلى الارتفاع بشكل كبير. وضرب مثالًا بعقار (كلابارام) من إنتاج شركة سونوفي الفرنسية، الذي كان سعره في السابق 18 ألف دينار، أما الآن، وفي حال توفره، فقد ارتفع سعره إلى 40 ألف دينار للشريط الواحد".
يشير المشهداني إلى أن "هذا النقص والارتفاع في الأسعار يشكلان تحدياً خطيراً للمرضى، حيث أن عدم الانتظام في تناول العلاج قد يؤدي إلى مضاعفات صحية خطيرة"، مطالباً الجهات الصحية المعنية بـ "التدخل العاجل لضمان توفير الأدوية بأسعار معقولة لحماية المرضى من أي انتكاسات صحية".
وحاول فريق منصة "الجبال"، التواصل مع المكتب الإعلامي لوزارة الصحة للسؤال حول هذه التفاصيل ومعرفة ردهم، إلا أن اتصالاتنا المتكررة لم تلق أي إجابة سوى واحدة والتي أكدوا فيها أن "وزارة الصحة العراقية لم تسمع أي شكاوي أو مناشدات بشأن اختفاء هكذا نوع من الأدوية".
النائب باسم خشان، هو الآخر تحدث قائلاً إن "ما يدخل العراق من أدوية بشكل رسمي لا يتجاوز 30% فقط، بينما تصل النسبة المتبقية عبر التهريب".
ووفقاً لوزارة الصناعة والمعادن، فإن إنتاج المصانع المحلية لا يغطي سوى 15% من احتياجات السوق العراقية، ما يعكس الفجوة الكبيرة في توفير الأدوية الأساسية.
واقع مرير في القطاع الحكومي
صيدلي يعمل في مدينة الطب، وهي أكبر مجمع طبي حكومي في العراق تقريباً، تحدث عن واقع الدواء في البلاد، قائلاً إن "مستشفى مدينة الطب يشهد نقصاً حاداً في الأدوية المخصصة لعلاج الأمراض المزمنة، ولا سيما أدوية السرطان".
ويضيف الصيدلي الذي فضل عدم الكشف عن أسمه خوفاً من المساءلة القانونية، لمنصة "الجبال"، أن "المرضى يواجهون صعوبات متزايدة في الحصول على الأدوية الضرورية، ما يضطر الأطباء إلى إحالتهم إلى الصيدليات الخاصة، حيث تتوفر بعض هذه الأدوية بأسعار مرتفعة".
وبحسب الصيدلي، فإن الصيدليات الخاصة تعتمد في توفير هذه العلاجات على الاستيراد المباشر أو عبر مذاخر الأدوية، التي تلجأ بدورها إلى إدخالها بطرق غير رسمية "عمليات التهريب"، في ظل غياب العقود الحكومية مع الشركات المنتجة لهذه الأدوية.
عملية إدخال الأدوية المهربة تخضع لصرفيات كبيرة من ناحية الرشاوي وغيرها، الأمر الذي يعمل بدوره على رفع السعر في الأسوق، والكلام لنفس الصيدلي الذي أكد أيضاً أن المستشفيات الحكومية تفتقر إلى مراجعي أمراض الصرع والنفسية وأغلبهم يتوجهون إلى القطاع الخاص على خلفية عدم وجود أدوية لهم بالأساس.
ويأتي هذا النقص في ظل تحديات أوسع يعاني منها القطاع الصحي العراقي، وسط مطالبات بضرورة إعادة النظر في سياسات استيراد الأدوية وتعزيز الإمدادات الدوائية للمستشفيات الحكومية لضمان حصول المرضى على العلاج اللازم.
وفي وقت سابق، كشف نقيب الصيادلة مصطفى الهيتي السابق، عن وجود 20 معملاً لإنتاج الأدوية في العراق، مؤكداً أن الصناعة الدوائية العراقية التي تنتج فعلياً لا تتجاوز 10 معامل.