وسط مدينة الناصرية جنوب العراق، ينتظر محمد حميد الموظف الحكومي البالغ من العمر 51 عاماً دوره العالق في حلقة مفرغة من الانتظار، طامحاً للحصول على قطعة أرض سكنية تضمن له ولعائلته حياة أفضل بعد سنوات من الخدمة في القطاع العام . فمنذ أكثر من أربع سنوات، تقدّم حميد بطلب للحصول على قطعة أرض سكنية عبر دائرة البلدية لكن التأخير لا يزال مستمراً بسبب حجم الطلبات الكبير وأولويات توزيع الأراضي بين شرائح معينة من المواطنين.
يقول حميد: "كل ما أريده هو أن أؤمن مستقبلي ومستقبل عائلتي"، والآن هو يقترب من بلوغ سن التقاعد المسموح به في العام المقبل، ومع مرور الوقت يزداد شعوره بالقلق من أن يكون "آخر شخص ممن يحصل على قطعة أرض" في ظل تراكم الطلبات وتوزيع الأراضي بناءً على الأولويات التي وضعتها البلدية.
حميد يبين لمنصة جبال أنه رغم كل هذه التحديات، لا يزال متمسكاً بأمل الحصول على قطعة أرض بمساحة 200 متر مربع وتملكه القناعة ان تلك القطعة تقع في أطراف المدينة، على بعد 10 كيلومترات من المركز، بمنطقة تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة مثل شبكات الماء والمجاري والكهرباء. وهذا الأمر ما شاهده من سبقوه في الحصول على أرض سكنية، فلا تتوفر مقومات السكن اللازم.
محمد حميد ليس وحده في هذا الطابور الطويل من الانتظار، بل هو واحد من مئات الموظفين الحكوميين في المدينة الذين يتوقون إلى الحصول على قطعة أرض سكنية تضمن لهم حياة مستقرة بعد سنوات من العمل. هذا التكدس الكبير من الطلبات يعكس الواقع الصعب الذي يعيشه المواطنون في مسعى لتحقيق حلم السكن الذي يبدو بعيد المنال.
من جهة أخرى، تواجه بلدية الناصرية تحديات كبيرة في توفير الأراضي لتلبية احتياجات المواطنين، ففي السنوات الثلاث الماضية وزعت البلدية حوالي 50 ألف قطعة أرض سكنية وهو رقم ضخم يصعب تحقيقه، في ظل قلة الأراضي المتاحة والتزايد المستمر في أعداد الطلبات، ورغم هذه الجهود يبقى العديد من المواطنين في طابور الانتظار، يتطلعون إلى حلم السكن الذي قد يتأخر سنوات إضافية.
وكشف مدير بلدية الناصرية، محمد عكاب الحصونة، لمنصة "الجبال" عن معاناة كبيرة تواجهها بلديته في توفير أراضٍ سكنية للمواطنين، اذ إن عدد الطلبات المقدمة للدائرة حالياً قد تجاوز الـ 40 ألف طلب، بينما لا تتوفر لديهم في الوقت الحالي سوى أراضٍ تلبي 25% فقط من هذه الطلبات.
ويوضح الحصونة أن الطلبات تتزايد بشكل كبير عاماً بعد عام، في حين أن الموارد المتاحة من الأراضي السكنية لا تسعفهم لتغطية هذا العدد الضخم وان العمل حالياً على توفير الحلول، إلا أن الوضع الحالي يتطلب تدابير أكبر وأكثر فعالية.
ولفت إلى حلول مستقبلية يعملون عليها وهي مشروع توسعة التصميم الأساس لمدينة الناصرية وهذا المشروع الضخم، الذي يهدف إلى تحويل العديد من الأراضي الزراعية غير المستغلة وأراض أخرى إلى أراضٍ سكنية وحقق هذا المشروع نسبة إنجاز بلغت 60% ويعد هذا التوسع جزء من خطة استراتيجية تمتد لـ20 سنة مقبلة.
وتابع الحصونة أن التوسعة ستوفر مساحات واسعة من الأراضي التي ستلبي جميع الطلبات الموجودة حالياً، بالإضافة إلى الطلبات المستقبلية ولكن كما هو الحال في الكثير من المشاريع الكبرى يعتمد الأمر على قدرتنا على إتمام المشروع بنجاح في الوقت المحدد.
أشار مدير بلدية الناصرية إلى تحدي آخر ليس فقط بتوزيع قطع الأراضي أو توفيرها، بل في عدم كفاية الخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطنون مثل شبكات الماء والمجاري والكهرباء لمقاطعاتهم الجديدة، لافتاً إلى إجراء اتفاقات محلية جديدة مع محافظ ذي قار مرتضى الإبراهيمي بخصوص أن يتم تسليم المقاطعات السكنية التي توزع على المواطنين لمطور عقاري مستثمر يعمل على توفير الخدمات الأساسية مقابل حصوله على مستحقات مالية مناسبة للطرفين المواطن وهو المستفيد والمطور العقاري.
هذه الرؤية الطموحة تبعث الأمل في نفوس العديد من المواطنين الذين يعانون من طول انتظارهم للحصول على قطعة أرض سكنية، ورغم التحديات الحالية، يبقى الحصونة وفريقه في بلدية الناصرية متفائلين بأن مشروع التوسعة بالشراكة مع القطاع الخاص سيكون الحل الأمثل لتلبية احتياجات المدينة السكنية في السنوات القادمة.
وفي ظل التوسع العمراني والنمو السكاني المتسارع، باتت محافظة ذي قار التي تضم 23 وحدة إدارية تواجه تحديات كبيرة في توفير الأراضي السكنية لمواطنيها إذ يقدر عدد سكان المحافظة بأكثر من مليون و300 ألف نسمة ومن المتوقع أن يزداد هذا العدد في المستقبل مما يفاقم الحاجة إلى مزيد من الأراضي السكنية وتوسيع النطاق العمراني للمدينة.
بهذا السياق، أكد معاون محافظ ذي قار لشؤون التخطيط الاستراتيجي، رزاق العلي، في حديث لمنصة "الجبال"، أن "مركز المحافظة وبالأخص مدينة الناصرية شهد استنفاذ كبيراً للأراضي السكنية، نتيجة الزيادة السكانية المستمرة، وأن الحلول المستقبلية تعتمد بشكل كبير على قرار الإدارة المحلية بشأن التوسعة العمرانية".
وأشار العلي إلى أن "محافظة ذي قار لا تمتلك أراضٍ جديدة لتوزيعها بشكل تقليدي لذلك تم إعداد خطة استراتيجية تهدف إلى الاستفادة من أقل المساحات بأكثر الوحدات السكنية تتضمن هذه الخطة اقتراحاً تم رفعه إلى مجلس المحافظة للتصويت عليه، حيث يقضي بأن يتم بناء المجمعات السكنية الاستثمارية بنسبة 50% بناء عمودي و50% بناء أفقي، حيث أن هذه الطريقة ستساهم في زيادة الكثافة السكانية في المساحات المحدودة المتاحة، مما يوفر خيارات سكنية أكثر للمواطنين" لافتاً إلى أن "الحكومة أيضاً بصدد تفعيل قرار يخصص 10% من المجمعات السكنية لصالح الحكومة بغية توفير مساكن للمتجاوزين على الأراضي الزراعية والأراضي التابعة للدوائر الحكومية"، بالتالي حل مشكلة
هذه الشريحة من المواطنين بشكل عادل.
وبحسب العلي فإن عدد الطلبات للحصول على أراضٍ سكنية في عموم أقضية ونواحي المحافظة عدا قضاء الناصرية، تجاوز الـ 30 ألف طلب، ومع تنامي هذه الأعداد بشكل مستمر سجلت بعض الوحدات الإدارية أزمة في توفير الأراضي منها قضاء الناصرية بالإضافة إلى قضاء النصر والشطرة والطار، مشيراً إلى أن هناك توجيهات بالعمل على تحديث التصميم الأساس لهذه المناطق لتلبية احتياجات المواطنين.
واحدة من الأسباب الرئيسة لاستنفاذ الأراضي السكنية في مدينة الناصرية، كما يشير العلي هي "الهجرة المحلية من النواحي والمناطق الريفية إلى المركز، ما أدى إلى زيادة غير مسبوقة في عدد السكان، ففي السنوات الخمس الأخيرة ارتفع عدد سكان مدينة الناصرية من حوالي 700 ألف نسمة إلى أكثر من مليون و180 ألف نسمة"، معيداً سبب ذلك لثلاثة عوامل رئيسية "نقص المياه، وغياب الخدمات الأساسية، وعدم تشجيع الحكومة المركزية لمشاريع الزراعة".
وتابع: "العديد من الفلاحين يستفيدون من القروض الزراعية، لكن بدلاً من استثمارها في مشاريع زراعية يقومون باستخدامها لشراء منازل سكنية في مركز القضاء، وإن هذه القروض يفترض أن تمنح بشكل تدريجي حسب تنفيذ المشاريع الزراعية ونسب الإنجاز المتحققة، وليس دفعة واحدة".
وفيما يخص التحولات الديموغرافية، لفت العلي إلى أن محافظة ذي قار أصبحت اليوم تضم 70% من سكانها في المناطق الحضرية، بينما تقتصر 30% فقط على المناطق الريفية وهو تحول خطير، بحسب تعبيره، حيث أن "النمو الحضري المتسارع يزيد من الضغط على البنية التحتية والخدمات الأساسية، مما يضع عبئاً إضافياً على الحكومة المحلية في مواجهة هذه التحولات السكانية".
وفي الوقت الذي تعمل الحكومات المحلية على إيجاد فرص مناسبة لسكن المواطنين عبر إنشاء مجمعات سكنية أو توزيع قطع أراضٍ، تأتي هذه المبادرات على حساب قطاع حيوي في محافظة ذي قار، وهو القطاع الزراعي. إذ حذر مختصون من أن "ضم آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية إلى التصاميم الأساسية للدوائر البلدية، في إطار التوسع العمراني، يؤدي إلى فقدان مساحات كبيرة من الأراضي الصالحة للزراعة، ما يهدد قدرة المحافظة على تلبية احتياجاتها من الإنتاج الزراعي".
وتأتي هذه التوسعات في وقت حساس يحتاج فيه القطاع الزراعي إلى دعم حكومي حقيقي يعزز من استدامته ويراعي أهمية الأراضي الزراعية في تأمين الأمن الغذائي للمواطنين.
وبيّن مدير زراعة ذي قار، محمد عباس، في تصريح لمنصة "الجبال" التأثيرات السلبية للتوسعات في التصاميم الأساسية على الأراضي الزراعية في المحافظة، مشيراً إلى أن هذه التوسعات تؤدي إلى خسارة مساحات واسعة من الأراضي التي كانت تستخدم للزراعة.
وأشار عباس إلى إن التوسعة في التصاميم الأساسية للدوائر البلدية "تسببت في ضم أكثر من 126,711 دونماً من الأراضي الزراعية في عموم المحافظة، خلال السنوات الخمس من 2021 وحتى السنة الحالية".
لفت مدير زراعة ذي قار إلى أن "قضاء الناصرية لوحده فقد حوالي 30 ألف دونم من الأراضي الزراعية بسبب هذه التوسعات"، موضحاً أن "هذه الأراضي التي يتم ضمها ضمن التصاميم الأساسية تصنف على أنها أراضٍ زراعية، سواء كانت خصبة أو متوسطة الخصوبة".
وتابع قائلاً: "هذه المساحات التي تم ضمها إلى التصاميم الأساسية ستؤثر بشكل كبير على القدرة الإنتاجية للزراعة في ذي قار"، داعياً إلى ضرورة اتخاذ إجراءات لتحديد أولويات التنمية في المنطقة بما يحفظ الحقوق الزراعية ويسهم في تعزيز الأمن الغذائي للمحافظة.