"وداعاً أيها المجتمع".. صدى صرخات المنتحرين على جسور الموصل يرتد على الجميع

16 قراءة دقيقة
"وداعاً أيها المجتمع".. صدى صرخات المنتحرين على جسور الموصل يرتد على الجميع

في الحادي عشر من آذار/مارس 2024 فوجئ المارة على مجسر المثنى في الجانب الأيسر لمدينة الموصل، برجل يطعن نفسه بسكين مرات عدة قبل أن يلقي بنفسه من فوق المجسر ليستقر جثة هامدة على أسفلت الشارع في الأسفل.

 

الشرطة المحلية في المدينة الواقعة على بعد 405 كم شمال بغداد، وتعد مركزاً لمحافظة نينوى، تعاملت بتكتم مع الحادث، ولم يصدر عنها أية تفاصيل تتعلق بالمنتحر أو سبب أقدامه على ذلك، مع أنها استمعت للشهود المتواجدين وفقاً لأحد الشهود (ع.م)، الذي قال إنّ "السلطات تبقي في الغالب حوادث الانتحار بعيداً عن وسائل الإعلام رغم تكررها ووجود شهود عليها كون العديد من المنتحرين يختارون أماكن عامة كالجسور للإقدام على الانتحار، ربما في رسالة احتجاج يائس".

 

تلك الحادثة وأخرى مشابهة وقعت في أيام متقاربة، دفعت ناشطين مدنيين لإتهام وزارة الداخلية والحكومة المحلية بالتعتيم على مشكلة تزايد حالات الانتحار في المدينة خلال السنوات الأخيرة، مؤكدين أنّ حالات الانتحار العلنية التي تكون جسور نينوى ونهر دجلة مسرحاً لها، تتكرر فيما لا يعرف شيئاً عن الحالات المخفية، حيث لا تفصح الجهات الصحية أو الحكومة المحلية عن أي إحصائيات دقيقة بشأن ذلك. 

 

وفي ظل صمت السلطات وتفضيلها عدم القيام بتحقيقات دقيقة في عمليات الانتحار وأسبابها، واكتفائها في الغالب بتحقيق أولي ينتهي بالإشارة إلى أن الضحية كان يعاني من اضطرابات نفسية، يرى ناشطون أن الانتحار لم يعد مجرد حالات منفردة سواء في الموصل أو العراق بنحو عام، وانها تحمل مؤشراً اجتماعياً خطيراً في مجتمع محافظ يعتبر أن المنتحر ارتكب خطيئة.

 

أرقام متباينة

 

المتحدث باسم وزارة الصحة سيف البدر، ذكر بأن معدلات الإنتحار في العراق وفي الشرق الأوسط مازالت أقل من المعدلات العالمية،  بسبب شيوع المعتقدات الدينية والتقاليد الاجتماعية والثقافية التي تؤثر بشكل ما في السلوكيات الانتحارية، على حد تعبيره.

 

وأشار إلى إحصائيات مجلس القضاء بشأن حالات الانتحار في البلاد، المسجلة في الأعوام الأخيرة، هي: 178 حالة في العام 2017، و306 في 2018، و 316 خلال العام 2019، و 233 في 2020، وهي أرقام يشكك صحفيون ومنظمات مدنية، بدقتها خاصة في ظل نقل وسائل الإعلام ومنصات التواصل، للعديد من الحالات يومياً.  وبالعودة إلى المتحدث باسم وزارة الصحة، فهو يشير إلى أن إحصائيات وزارته تؤكد وجود 1028 محاولة انتحار في العام 2022 أغلبيتها لإناث.

وقد أعلنت الوزارة في منتصف 2024 عن تسجيل 291 حالة انتحار في العراق، مع إحباط العديد من المحاولات في مختلف المدنة، وأكدت في بيان لها بأن "الأسباب الكامنة ورائها اقتصادية وعاطفية ومشاكل اجتماعية". 

 

وأقر بوجود ضعف في التسجيل والإبلاغ عن حالات الانتحار في العراق، عازياً ذلك إلى مجموعة عوامل هي:"أعراف المجتمع الثقافية والدينية، والوصمة الاجتماعية، والصحة النفسية وضعف الأنظمة الخاصة بمراقبة وتقييم الواقع الحالي المتعلق بالانتحار في العراق".

الملاحظ في ملف الانتحار، وجود تناقض بين الأرقام والإحصائيات التي قدمتها وزارة الصحة وتلك التي يقدمها مجلس القضاء الأعلى أو وزارة الداخلية، إذ كان الناطق السابق باسم الداخلية، خالد المحنا، قد أعلن في 2023، أن العراق سجل 772 حالة انتحار في العام 2022، وأن 36.6% من المنتحرين أعمارهم أقل من 20 سنة، بينما كانت نسبة 32.2% من المنتحرين بأعمار بين 20-30 سنة، ونسبة الذكور 55.9%، و 44.8% في العام 2022.

 

كما أن أياً من الجهات الرسمية لم تقدم إحصائيات لسنة 2023، على الرغم من تداول وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي لعشرات الحالات المعلنة شهرياً، في مختلف أنحاء العراق. ما يؤكد ارتفاع معدلات الانتحار بنحو غير مسبوق، هو إعلان وزارة الصحة في 29 شباط/فبراير 2024، إطلاق الاستراتيجية الوطنية للوقاية من الانتحار للفترة من 2023 لغاية 2030، مما يعني أن إجراءات تطبيقها كانت قد بدأت منذ العام المنصرم.

 

وذكر وزير الصحة صالح الحسناوي، أن الإستراتيجية ستعطي أدواراً لكل الوزارات والقطاعات الحكومية، فضلاً عن الجهات غير الحكومية المتمثلة بالإعلام والجهات الدينية والرموز المجتمعية ومنظمات المجتمع المدني.

 

وعلى الرغم من إقراره بارتفاع معدلات الانتحار في العراق، إلا أنه وصفها بـ"الطفيفة"، وأن العراق "ما يزال تحت المعدل العالمي بكثير" حسب قوله، وعبر عن أمله في نجاح الإستراتيجية باحتواء الشباب ممن يتعرضون لضغوط نفسية، وبذلك يتضح أن خطة الوزارة ستركز على العامل النفسي.

 

ماذا وراء الضغوط النفسية؟

 

يعتقد الباحث في الشأن الاجتماعي خلدون مصطفى، أن "الإستراتيجية المزعومة ستكون حبراً على ورق، ولن تفضي إلى نتائج لأن قرار الانتحار بيد الشخص الراغب في الإقدام عليه مدفوعاً بمشاكله، والحل ليس بمحاولة منع المنتحر من قتل نفسه، بل معالجة المشاكل التي يعاني منها".

 

ويوضح أن معالجة الحالات النفسية تكون عبر التوعية المباشرة، وعبر بث الوعي في المجتمع بأن المرض النفسي شأنه شأن أي مرض آخر يمكن معالجته، ولا بدّ من رفع أعداد الأطباء النفسيين وافتتاح عيادات وأقسام نفسية في المستشفيات "وكذلك مكافحة المخدرات وافتتاح مراكز علاج وإعادة تأهيل في جميع المحافظات".

 

لكنه يرى أيضاً أن الأصل هو معالجة المشاكل التي تسبب الاضطرابات النفسية، وعلى رأسها المعضلات الاقتصادية التي هي المسبب الرئيس في الكثير من حالات الإنتحار، بما فيه تقليل نسب البطالة، من خلال تشغيل الشباب الى جانب تفعيل الأنشطة الرياضية والثقافية وإتاحة الفرص أمامهم للتعبير عن أنفسهم واطلاق مواهبهم.

 

وهو أمر يعده الباحث الاجتماعي بيار احمد، أساسياً لمواجهة تزايد حالات الانتحار، مبيناً أنّ "المشاكل الاقتصادية وعدم قدرة رب العائلة على تأمين متطلبات عائلته، تؤدي في الغالب إلى مشاكل اجتماعية داخل الأسرة، ومع تراكمها تشكل ضغوطاً قد تدفع البعض إلى التفكير بالانتحار خاصة في حال غياب الحوارات بين الأفراد داخل الأسرة، وهذا يشمل الذكور والإناث على حد سواء". 

 

البطالة والعنف الأسري والابتزاز

 

وبالعودة إلى محافظة نينوى، هنالك من يربط ارتفاع معدلات الانتحار فيها بالأوضاع الأمنية التي شهدتها منذ 2003 لغاية 2017، وما نجم عنها من تداعيات أثرت وبنحو كبير على حياة المواطنين هناك، إذ يقول الباحث والكاتب سمير حمدي، إنّ نينوى التي يعيش فيها أكثر من أربعة ملايين نسمة، كانت وعلى مدى سنوات طويلة مسرحاً لنشاط المجاميع الدينية المسلحة التي تسببت بمقتل الآلاف وعطلت الحركة الاقتصادية والتجارية.

وبعد سيطرة "داعش" عليها في حزيران/يونيو 2014، أضطر أكثر من مليون شخص إلى النزوح والهجرة والعيش في المخيمات، وعاش الباقون أوضاعاً مأساوية لحين انتهاء حرب التحرير من "داعش" صيف 2017 والتي دُمرت بأثرها البنية التحتية بالكامل مع آلاف من الوحدات السكنية. 

 

يقول سمير: "تلك الأحداث أثرت بنحو كبير على الواقع الاقتصادي، وارتفعت مستويات البطالة لتصل في 2023 إلى 33%، وشاع الفقر، وتفشت ظواهر اجتماعية سلبية كثيرة أخطرها المخدرات والانتحار"، مشيراً إلى "زيادة حالات الانتحار لدى المكون الإيزيدي الذي تعرض أفراده للتمييز والقتل على يد داعش، ووجدوا أنفسهم نازحين ومحصورين في مخيمات تفتقد للكثير من سبل الحياة الطبيعية".

 

ونفى أن تكون حالات الانتحار بإلقاء المنتحرين أنفسهم من الجسور في مدينة الموصل هي الوحيدة التي تحدث في المحافظة، ويتابع: "من السُخف الاعتقاد بأن هذه هي فقط حالات الانتحار في نينوى، هنالك حوادث انتحار أخرى كثيرة تحدث داخل البيوت في القرى والأرياف والأقضية والنواحي، وفي الموصل ذاتها، وكثير منها لاتسجل كانتحار".

 

ويؤكد بأن العائلات تخشى من الوصمة الاجتماعية، وتتكتم على انتحار أحد أفرادها، لأن الانتحار يتنافى مع القيم الدينية وحتى القبلية السائدة في مجتمع نينوى، على حد قوله.

مدير الشرطة المجتمعية في نينوى العميد عبد الله حسين، يقر بوجود مشكلة الانتحار في المحافظة، ويقول إنّ دائرته أعدت دراسات لمعرفة أسباب انتحار الشبان والفتيات، عبر جمع البيانات والاستماع إلى إفادات أشخاص من محيط المنتحرين.

 

ويذكر أن تلك الدراسات توصلت إلى أن دوافع الانتحار تكون عادة "اقتصادية ونفسية، وفشل بالدراسة المرتبط بعدم توفر بيئة مناسبة، وكذلك التعرض للعنف الأسري والمجتمعي بالنسبة للفتيات".

 

وتعتقد وفاء أحمد، من مركز الإرشاد في الشرطة المجتمعية، أن من المهم تحديد ومعرفة الأسباب وراء حالات الانتحار ليمكن بعدها الوصول إلى حلول، وتلفت إلى أن "هنالك من ينتحر بسبب الفقر والبطالة، لذا فإنّ الحل يكمن في تحسين الحالة الاقتصادية من خلال توفير فرص العمل للشباب".

 

وأن هنالك من الفتيات والنساء من تتعرض وبنحو مستمر إلى العنف داخل الأسرة، وفي حال عدم مساعدتها وإيجاد حل لها، فستندفع إلى الانتحار كأقرب حل بالنسبة إليها.

وفضلاً عن المثالين اللذين ذكرتهما تضيف الابتزاز، وتصفها بظاهرة متفاقمة وهي تسبب الكثير من حالات الإنتحار حين تعجز الفتاة عن إيجاد حل، في ظل ضعف القانون، وخوفها من عدم تفهم العائلة لها بل واضطهادها أكثر في حال اكتشاف تعرضها للابتزاز والاستغلال من قبل شخص كانت على تواصل معه بأي صورة كانت. 

 

وسائل متعددة

 

محمد عبد الله جدوع (48 سنة) كان يعمل في قسم المفقودات بمديرية شرطة نينوى، اعتقل في آب/أغسطس 2023 من قبل الشؤون الداخلية التابعة لوزارة الداخلية بتهمة الرشوة، لاحقاً لم تثبت التحقيقات التهمة بحقه، وأطلق قاضي التحقيق سراحه، إلا أنه لم يستطع التعايش مع تجربته تلك، فأطلق على نفسه النار. 

 

تقول والدته بأنه حين خرج من التوقيف كان محطماً من الناحية النفسية، وجسمه كان مليئاً بالكدمات بسبب التعذيب الذي تعرض له في الموقف، ورفض على مدى أربعة أيام تناول الطعام، وفي ظهر اليوم الرابع، وبينما كانت العائلة مجتمعة على مائدة الغداء دخل هو إلى غرفته وأقفل الباب وراءه وبعدها بلحظات سمع الجميع صوت إطلاق النار. 

 

"إطلاق النار، الغرق، تناول السموم، الحرق" أبرز الوسائل التي يستخدمها المنتحرون، بحسب ضابط في شرطة نينوى طلب عدم الإشارة على اسمه، وقال إنّ الشرطة النهرية تمكنت خلال السنوات الخمس الأخيرة من إحباط العديد من محاولات الانتحار في نهر دجلة على الجسور الخمس التي تربط جانبي المدينة الأيمن والأيسر، لكنها فشلت في منع آخرين.

وذكر بأن معظم الحالات كانت لسيدات عانين من مشكلات عائلية، فضلاً عن شبان عاطلين عن العمل أو من المصابين بأمراض نفسية أو متعاطين للمخدرات، ويعتقد بأن إقدام هؤلاء على القفز من فوق الجسور هو لتحقيق نتيجة الموت بنحو شبه مؤكد حيث تقل فرصة انقاذهم عندما يلقون بأنفسهم من مكان مرتفع الى وسط النهر حيث تكون المياه عميقة. 

وأكد بأن حالات الإنتحار في المحافظة كثيرة، ولا ترتكز على منطقة دون أخرى وضرب أمثلة: "يوم 26 آذار 2024، أقدم شاباً من قرية الحاج علي جنوب الموصل على الانتحار لأسباب نفسية، وقبلها بيوم واحد فقط، أقدم شاباً يعمل إسكافياً في ناحية برطلة شرق الموصل على الانتحار كذلك بسبب الفقر، وقبلهما بأيام أقدم مدرس في منطقة الرشيدية شمال المدينة على قتل نفسه بسبب ديون متراكمة عليه".

 

تراخي دور الأسرة

 

د. وعد الأمير، أكاديمي متخصص بالشأن الاجتماعي من جامعة الموصل، يقول بأن هنالك أسباباً عديدة وراء حالات الانتحار في نينوى، فضلاً عن الأسباب الاقتصادية والنفسية، هنالك أسباب متعلقة بالأسرة ذاتها كتكرر حصول المشاكل وحالات الشجار بين المتزوجين، وفي النهاية الأسرة هي من تتحمل العبء بعد نجاح عملية الانتحار، وأيضاً حين فشلها.

 

ويبرر لجوء البعض للانتحار من فوق الجسور:"لأنها تشكل رمزية كبيرة بالنسبة لابن مدينة الموصل، فهي مرتبطة بموروث شعبي وتاريخي، وإنهاء حياته من فوقها يشكل صرخة قوية بوجه المجتمع والأسرة، ورسالة قاسية يفترض أن تقرأ بنحو صحيح من قبل الجميع، سواء الأسر أو الجهات الحكومية المعنية. 

 

ويستدل فيما ذهب إليه، إلى حادث انتحار رجل مسن من فوق أقدم جسور الموصل المعروف باسم (الجسر العتيق) في 24 فبراير/شباط 2022. إذ ترك في المكان قصاصة ورقة كتب فيها "وداعاً أيها المجتمع!".

 

ويرى الأمير بأن التحولات والتغييرات السريعة والكبيرة التي يشهدها المجتمع في نينوى لها تاثير سلبي "فتراجع دور الأسرة وتحديداً الوالدين، بسبب الظروف المعيشية الصعبة لغالبية السكان، ومشاغل أولياء الأمور سواء كانوا أغنياء أو فقراء والتي تمنعهم من التواصل اليومي والجلوس مع أبنائهم وبناتهم، فهم منشغلون على الدوام عن أداء واجباتهم في المتابعة والتربية والتنشئة الاجتماعية والثقافية ونقل القيم".

 

ويرى أن تزايد حالات الانتحار "ناجم عن فشل المجتمع في تلبية حاجاتهم، فمع الإحباطات والأزماتهم النفسية والاقتصادية المتكررة لا يجدون من يمد لهم يد العون، ويشعرون أن الأسرة والمجتمع والدولة تخلت عنهم وهي غير مهتمة بوجودهم، فتأتي أزمة يشعرون معها بعدم قيمة حياتهم". 

 

ويجد بأن الحل يتطلب اشتراك جميع قطاعات المجتمع وتعاونها "لكن البداية تكون من الأسرة عبر المتابعة والتواصل بين أفرادها، ومن ثم يأتي دور المدرسة، ودور العبادة، ووسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، والناشطين والمنظمات المدنية، والأجهزة الأمنية، وكل جهة تكون على تماس مع حياة الفرد".

 

مواجهة الظاهرة

 

في دراسة أعدها د.وسام إبراهيم نعمت السعدي، أستاذ القانون الدولي المساعد وعميد كلية الحقوق بجامعة الموصل، قدمها لوزارة الداخلية، يوضح أن الانتحار "ظاهرة عالمية"، إذ يموت 800 ألف شخص بالإنتحار في العالم سنوياً، أي بمعدل شخص واحد كل 40 ثانية. 

وينبه إلى أن الرغبة بالانتحار تتشكل لفترة محددة لدى الشخص "ويمكن له تخطي هذه المرحلة، لكن عندما لا تؤدي محاولة الانتحار إلى الوفاة، يبقى هنالك خطر تكرار المحاولة، ويعد هؤلاء الأشخاص الأكثر عرضة للمحاولات المستقبلية".

 

وبشأن الأسباب الكامنة وراءها، هو يعتقد إضافة إلى تأثير الضغوط الاقتصادية، أن تفشي المخدرات في العراق، عامل رئيسي في زيادة حالاته، وارتفاع معدلات الجريمة بنحو عام، كون المتعاطي يفتقد في كثير من الأحيان القدرة على التفكير السليم واتخاذ القرار الصحيح.

 

ودعا في دراسته إلى تفعيل دور الإعلام في التثقيف، للحد من حالات الانتحار، وتطوير عمل المؤسسات الصحية وخاصة الأقسام المعنية بالصحة النفسية وتهيأتها لمواجهة مخاطر الانتحار، وتوفير العلاجات الطبية للمرضى الذين يعانون من أزمات نفسية واعتلالات عصبية.

 

وتوفير فرق عمل متخصصة في مجال توفير الدعم النفسي والاجتماعي للناجين من محاولات الانتحار، وتطوير المجالات البحثية، وتفعيل عمل مؤسسات المجتمع المدني وإشراكها بنحو فاعل، مع العمل على زيادة الوعي العام بضخامة المشكلة.

 

كما نبه إلى أهمية تقييد الوصول إلى "مبيدات الآفات" الأشد خطورة، وتقييد سبل الوصول إلى الوسائل الأخرى المستخدمة لإيذاء وقتل النفس كالأسلحة، وإنشاء نظام لرصد الصحة النفسية وحالات العنف وإيذاء النفس والانتحار ومحاولات الانتحار.

وخلصت الدراسة إلى مجموعة توصيات منها إنشاء المركز الوطني لمنع الإنتحار، وجعله المؤسسة الوطنية المعنية بملف الانتحار في العراق، والتوسع في الدراسات والبحوث العلمية التي تناقش المشكلة، وتشجيع الأكاديميين لدراستها قانونياً ونفسياً واجتماعياً في الجامعات العراقية.

 

شامل. ت (26 سنة) من مدينة الموصل، حاصل على شهادة بكالوريوس من كلية الآداب جامعة الموصل، وعاطل عن العمل، أقدم على الانتحار في 2023، من خلال محاولة حرق نفسه في المنزل بعد خلاف مع والده.

 

يقول عن تجربته:"مررت بظرف نفسي صعب، لم يبق لدي أصدقاء، وكانت هنالك حواجز بيني وبين والدي وأشقائي، وفقدت الرغبة في التواصل مع أي كان والتزمت غرفتي لا أغادرها إلا نادراً، ولم يكن بوسعي شرح ما أمر به لأحد، والآخرون لم يكونوا على استعداد لفهمي أو إعطاء وقت للإصغاء لي".

 

كان والده يضغط عليه، ويتهمه بالكسل والفشل، ويخبره على الدوام بأنه أصبح عالة عليهم، كونه رجل جالس في المنزل بدون أي فائدة، حتى ضاق ذرعاً ذات يوم بكلامه، وأخذ يصرخ بصوت عال وامتدت يده إلى خزان  المدفأة النفطية وأفرغ على جسده ما حوته من وقود، ودخل المطبخ يفتش عن شيء يشعل به نفسه، قبل أن ينجح أشقاؤه بثنيه في اللحظات الأخيرة.

 

يشعر بالامتنان لأنهم فعلوا ذلك: "كنت مصمماً على الانتحار في لحظة غضب جارفة. كان يمكن أن أفقد معها حياتي أو أصيب بتشوه وعجز دائم.. عجزت لحظتها عن السيطرة على نفسي، وكان بالوسع تجاوز كل ذلك بالكلام الهادئ بدلاً من التجريح وتوجيه الإهانات".

بعد تلك الحادثة، أقنعته العائلة بأهمية مراجعة طبيب نفسي. بعد جلسات عدة، ومتابعة مستمرة من شقيقه الأكبر الذي ساعده للخروج من المنزل، تماثل للشفاء منهياً عزلته، وعاد للانخراط مع الناس.

يعمل شامل اليوم بدوام مسائي في متجر للألبسة في الجانب الأيسر للمدينة. يقول مبتسماً: "لقد عدت للحياة.. أحزن حين أسمع بأن آخرين فشلوا، وأخذهم اليأس بعيداً فألقوا بأنفسهم بين يدي الموت، وغادروا الحياة تاركين في نفوس عوائلهم ذكريات أليمة وجراحا لن تندمل".

 

·       أنجز التقرير بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الإستقصائية.

سيف العبيدي صحفي

نُشرت في السبت 17 أغسطس 2024 10:30 ص

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

المزيد من المنشورات

© 2024 الجبال. كل الحقوق محفوظة.