في الخامس من آب/أغسطس، عقد نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي الأسبق وأحد أبرز قادة الإطار التنسيقي الشيعي الحاكم، اجتماعين مع زعماء القوى السياسية السنية الرئيسية في محاولة لتقريب وجهات النظر بينهم لتسريع تسمية مرشحهم لشغل منصب رئيس مجلس النواب الذي ظل شاغراً منذ تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بعد إقالة محمد الحلبوسي الرئيس السابق للمجلس بتهمة التزوير.
الاجتماع الأول حضره الحلبوسي زعيم تحالف تقدم، إلى جانب أربعة من قادة الإطار التنسيقي بينهم هادي العامري زعيم منظمة بدر، وعمار الحكيم زعيم تيار الحكمة.
سياسيون اطلعوا على ما جرى في الاجتماع قالوا لـ"الجبال"، إنّ الحلبوسي قدم في الاجتماع عدداً من المقترحات لحل الأزمة، أبرزها إعادة فتح باب الترشيح في مجلس النواب لفتح الباب أمام مرشحين جدد لشغل المنصب، أو ترشيح خصومه ثلاثة أسماء جديدة يختار هو واحداً منها، أو تنازل خصومه عن إحدى الوزارات من حصتهم مقابل الحصول على منصب رئيس المجلس.
بعد ساعتين عقد اجتماع ثان حضره هذه المرة أربعة سياسيين سنة يمثلون قوى سياسية تنافس الحلبوسي وتطالب بمنصب رئيس البرلمان، كما حضر الاجتماع أيضاً ممثلون عن الحزبين السياسيين الكرديين الرئيسيين وأربعة من قادة الإطار التنسيقي، بحسب ما قاله المتحدث باسم كتلة دولة القانون البرلمانية بزعامة المالكي، عقيل الفتلاوي لـ "الجبال".
ناقش الحضور في الاجتماع الثاني، آخر التطورات المتعلقة بالمواقف السنية الداخلية والمقترحات التي قدمها الحلبوسي.
وفي نهاية الجلسة اختار ممثلو القوى السنية التي شاركت في ذلك الاجتماع خيار التنازل عن إحدى وزاراتهم للحلبوسي مقابل تنازله عن منصب رئيس البرلمان، بحسب الفتلاوي.
ولكنهم طلبوا مهلة 24 ساعة للعودة باسم مرشحهم للمنصب وتحديد الوزارة التي سيتنازلون عنها لصالح الحلبوسي، إلا أنّ أياً من الحاضرين في الاجتماع الثاني لم يكن على علم بأن اجتماعاً مماثلاً كان منعقداً في نفس الوقت في مكان آخر مع الحلبوسي لاستكمال تسوية بدأت تتشكل على الأرض قبل أيام.
ثلاثة سياسيين شيعة مقربين من الخزعلي قالوا لـ"الجبال"، إنّ الاجتماع الذي التحق به الحلبوسي فور مغادرته منزل العامري حيث التقى المالكي، كان في منزل قيس الخزعلي، رئيس "عصائب أهل الحق"، إحدى أكثر الفصائل الشيعية المسلحة العراقية نفوذاً والقيادي البارز في الإطار التنسيقي.
وعندما اجتمع قادة الإطار التنسيقي في وقت لاحق من ذلك المساء لمناقشة وتقييم نتائج اجتماعات المالكي مع الأحزاب السنية، اطلعهم الخزعلي على آخر التطورات في "التسوية" التي يعمل عليها مع الحلبوسي وحلفاء آخرين لإنهاء الأزمة.
انزعج المالكي جداً وغادر الاجتماع غاضباً "احتجاجاً على تدخل الخزعلي ومحاولاته تقويض جهوده لتفكيك الأزمة".
وقال سياسي شيعي مطلع على المحادثات لـ"الجبال"، إن "المالكي كان قد توصل إلى اتفاق مع منافسي الحلبوسي لدعم مرشحهم سالم العيساوي لمنصب رئيس البرلمان مقابل دعم مرشحه لمنصب محافظ ديالى، وقد أوفوا بوعودهم ودعموا مرشحه في ديالى، وكان سيدعم مرشحهم لرئاسة البرلمان، لكن تحركات الخزعلي خربت هذا الاتفاق وقطعت الطريق على العيساوي".
ممثلو القوى السياسية السنية الذين التقوا المالكي لم يعودوا، بل أصدروا بياناً في اليوم التالي أعلنوا فيه رفضهم للاتفاق وقرارهم "المضي في عقد جلسة لانتخاب رئيس للبرلمان والالتزام بالقواعد السابقة التي أفضت لاختيار روؤساء البرلمان السابقين".
كركوك هي البوابة
لم يكن لقاء الخزعلي والحلبوسي في ذلك اليوم هو الأول، حيث كان الرجلان على اتصال لمتابعة ما بدآه قبل أسابيع، "وكان ما يعملان على انضاجه، أكبر بكثير من مجرد اختيار رئيس البرلمان المقبل"، بحسب سياسيون شيعة وسنة.
ما سمي بـ"النجاح الكبير" الذي تمثل بتشكيل الحكومة المحلية في ديالى في الثاني من آب/أغسطس، كانت أول ثمار التعاون بين الرجلين.
يحاول الخزعلي، أن يتصدر المشهد السياسي الشيعي، بالإضافة إلى أنه يحاول أيضاً "تقديم نفسه كصانع ألعاب ماهر على مدى السنوات القليلة الماضية"، لكن معارضيه يقولون إنه يواجه دائماً "عقدة السلاح والتصورات الميليشياوية" التي بنيت عنه طيلة السنوات السابقة.
ويرى الخزعلي أن تسمية محمد شياع السوداني رئيساً للوزراء وتبني حكومته بعد انسحاب الصدريين في حزيران/يونيو 2022 "أحد أعظم نجاحاته كلاعب سياسي رئيسي"، لكن معارضيه أيضاً يرون أن هذا ليس صحيحاً، طالما أن الظروف اجتمعت لتشكيل الحكومة، وأبرزها اشتباكات الخضراء.
الخزعلي اختار كركوك، المركز النفطي الشمالي والمحافظة المتنازع عليها بين بغداد وحكومة إقليم كوردستان، لتكون بوابته لحشد الدعم المطلوب لمرشح حليفه لرئاسة البرلمان.
معارضو الخزعلي يقولون إن سعيه لكركوك ليس مطلباً سياسياً داخلياً وحسب، وإنما هناك إرادة إقليمية لذلك. تحدث النائب بالبرلمان عن محافظة كركوك، مهيمن الحمداني، عن دور إيراني في تشكيل الحكومة في كركوك، بقوله إنه "ألتقيت بإيرانيين، وكانوا يطلبون منا أن يكون المحافظ من حصة الاتحاد الوطني الكوردستاني"، على سبيل المثال.
كما اتهم النائب عن الحزب الديمقراطي الكوردستاني ماجد شنكالي، إيران بالوقوف وراء صفقة تشكيل حكومة كركوك"، وذلك لأن "الخط الإستراتيجي لطهران يمر عبر ديالى وكركوك ونينوى".
كركوك التي شهدت انتخابات مجلس المحافظة العام الماضي لأول مرة منذ عام 2005، لم تفرز فائزاً واضحاً من انتخاباتها المحلية، حيث تقاسمت القوائم الانتخابية العربية والكوردية والتركمانية مقاعدها الخمسة عشر، إضافة إلى مقعد الكوتا الذي أصبح من نصيب المسيحيين.
لم تسفر المفاوضات التي خاضتها جميع القوائم الانتخابية الفائزة عن أي نتائج على مدى الأشهر التسعة الماضية، بسبب إصرار جميع الأطراف على الحصول على منصب المحافظ، أعلى سلطة تنفيذية إدارية وأمنية في المحافظة.
الخزعلي أقنع حليفيه بافل طالباني زعيم الاتحاد الوطني الكوردستاني الذي فاز بخمسة مقاعد في انتخابات مجلس المحافظة الأخيرة، وريان الكلداني رئيس حركة بابليون الذي فاز بمقعد الكوتا، بالانضمام والعمل مع الحلبوسي لتشكيل الحكومة المحلية في كركوك.
الحصول على الأغلبية وتأمين النصاب المطلوب (نصف زائد واحد) للمضي في التصويت واختيار المحافظ ونائبيه ورئيس مجلس المحافظة وبقية المناصب القيادية، كان التحدي الأكبر الذي واجه الجميع.
الحلبوسي بدوره، اقنع حليفه محمد تميم وزير التخطيط الحالي الذي يسيطر على مقعدين في مجلس المحافظة بالانضمام إلى الصفقة، في حين عمل الجميع على استقطاب عضو آخر لتحقيق النصاب المطلوب.
وقالت مصادر إن مهندسي التحالف الذي أنتج حكومة كركوك الجديدة استثمروا كل بطاقاتهم لإنجاح جهودهم، فعرضوا مبالغ ضخمة من المال والأملاك والمناصب الحكومية وتبادل المنافع لإقناع بعض الأعضاء العرب والتركمان في مجلس المحافظة بالانضمام إليهم، ولكن لم ينضم إليهم سوى ثلاثة أعضاء.
ماجد شنكالي، أحد أبرز زعماء الحزب الديمقراطي الكوردستاني، قال في مقابلة تلفزيونية يوم الثلاثاء، إنّ "هذه الحكومة لديها تسعة مقاعد، وستظل حكومة غير مستقرة إذا لم تكن هناك حوارات جادة لحل هذه المشكلة".
" الاتحاد الوطني الكوردستاني اقتصر تمثيل الكورد على أعضائه، وتم شراء الأعضاء العرب الثلاثة الذين انضموا إليه بالمال".
الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد، اصدر الثلاثاء، مرسوماً رئاسياً يقضي بتعيين ريبوار طه، أحد قيادات الاتحاد الوطني الكوردستاني، محافظاً لكركوك، ليختتم بذلك ماراثون تشكيل حكومة كركوك المحلية ويتوج الخزعلي والحلبوسي كرعاة جدد للحكومة المحلية في المحافظة.
أحمد الكناني، عضو كتلة "صادقون" البرلمانية التي يتزعمها الخزعلي، قال لـ"الجبال"، إنّ "كركوك لها خصوصيتها والصراع هناك عربي-كردي-تركماني، وإصرار كل طرف على رأيه منع تشكيل الحكومة (المحلية) خلال الأشهر الماضية".
"نعتقد أن استقرار كركوك هو ضمان لاستقرار المناطق المحيطة بها (الشمالية والغربية)، لذلك كان لا بد من تشكيل حكومة محلية لضمان استقرار المحافظة".
"الخزعلي استثمر مقبوليته من جميع الأطراف هناك وحثهم على التوصل إلى اتفاق وعمل على تقريب وجهات النظر، والحمد لله نجح في ذلك".
"(الخزعلي) هو الراعي الرسمي للاتفاق الذي انبثقت عنه حكومة كركوك"
قائمة الخصوم تطول
على الرغم من أن التسوية التي تم التوصل إليها في كركوك تضمن حصول كافة المكونات الأثنية والسياسية في كركوك على مستحقاتها، وتضمن أيضاً تبادلاً دورياً للمناصب الإدارية والأمنية الرئيسية بين العرب والكورد، فإن استبعاد الحزب الديمقراطي الكوردستاني، ثاني أكبر الأحزاب الكوردية في كركوك والجبهة التركمانية، من شأنه أن يخلق العديد من المشاكل ويهدد بعدم صمود التسوية التي تم التوصل إليها، طويلاً.
في ديالى، لم تختلف الصفقة التي تم إبرامها كثيراً عن صفقة كركوك، ولكنها تضيف أسماء أخرى إلى قائمة معارضي وخصوم الخزعلي.
فخلال الأشهر التسعة الماضية، فشلت كل المحاولات للوصول إلى تسوية ترضي كافة الأطراف المتنفذة في ديالى حيث تتشابك وتتداخل عوامل الصراع الذي تجذر على مدى العقدين الماضيين نتيجة لآختلاف محركاته الطائفية والأثنية والسياسية.
نتائج انتخابات مجلس المحافظة في ديالى لم تكن هي الأخرى حاسمة، فلم تحصل أي من القوائم الانتخابية الفائزة على عدد المقاعد المطلوب للمضي قدماً في تشكيل الحكومة المحلية.
وعلى الرغم من أن مثنى التميمي، القيادي في منظمة بدر ومحافظ ديالى السابق، فاز بعدد المقاعد الأكبر هناك، حيث حصلت قائمته الانتخابية على أربعة مقاعد من أصل 15، إلا أنّ فيتو الخزعلي ضد التميمي حال دون حصوله على منصب المحافظ لولاية أخرى، قادة شيعة أخبروا "الجبال".
العامري الذي طالما فرض سيطرته على ديالى لسنوات طويلة، وأدار ظهره لها هذه المرة لتجنب الصدام مع شركائه الشيعة، وفضل الحصول على حصة بديلة في محافظات أخرى.
تحركات الشريكين الجديدين الحلبوسي والخزعلي استقطبت الأطراف الأخرى في تسوية حصل منها رجل الآعمال السني خميس الخنجر الذي يسيطر على ثلاثة مقاعد في مجلس المحافظة، على منصب رئيس المجلس المحافظة فيما حصل الحلبوسي والذي يسيطر على عدد مماثل من المقاعد، على منصبي نائبي المحافظ، أما الخزعلي فحصل على منصب نائب رئيس مجلس المحافظة رغم فوزه بمقعدين فقط.
جهود الرجلين أسفرت عن انبثاق حكومة ديالى الجديدة التي ترأسها مرشح المالكي في الثاني من آب/أغسطس دون مطبات.
قال زعماء شيعة وسنة لـ"الجبال"، إن التميمي، المنافس المحلي للخزعلي، خرج خال الوفاض من هذه الصفقة.
قيادي مقرب من الخنجر قال لـ "الجبال"، إنّ "الحلبوسي خصمنا، لكن هذا لا يعني أننا يجب أن ندير ظهورنا لأي اتفاق أو صفقة تحفظ حقوقنا".
"في ديالى، عقدنا صفقة مع المالكي والحلبوسي، بينما تولى الخزعلي الاتفاق مع القوائم الأخرى".
"كانت صفقتنا مع المالكي تقتضي دعمنا مرشحه لنيل منصب محافظ ديالى مقابل دعمه لمرشحنا لمنصب رئيس البرلمان".
مغامرة الحلبوسي-الخزعلي في ديالى وكركوك، والتي من المتوقع أن تحصد ثمارها في البرلمان قريباً، غيرت خارطة النفوذ السياسي وفتحت الباب واسعاً أمام المعارضين السنة والكورد والتركمان والشيعة لعقد تحالفات سابقة مع الإطار التنسيقي، الأمر الذي يهدد بفوضى أمنية في مناطق النفوذ المشترك، بما في ذلك نينوى وصلاح الدين وبابل، إضافة إلى ديالى وكركوك، بحسب قادة سياسيين.
قيادات معارضة كردية وعربية وتركمانية قال إن التصويت على الحكومة المحلية في كركوك "غير شرعي"، وإن القائمين عليها تورطوا في عدة مخالفات قانونية.
الجبهة التركمانية الوطنية في كركوك تقدمت بدعوى قضائية لدى المحكمة الاتحادية للبت في الأمر.
قياديون في الحزب الديمقراطي الكوردستاني قالوا لـ"الجبال" إن إقصاء عدد من مكونات كركوك وفرض "أمر واقع" عليهم سيزعزع استقرار الوضع السياسي في المحافظة ويعرقل عمل الحكومة المحلية.
لكن شركاء الخزعلي الشيعة يتوقعون أن يتفجر الوضع الآمني في كركوك وديالى وينسحب تآثير ذلك على المحافظات المجاورة.
قيادي في تيار الحكمة رفض الكشف عن اسمه قال لـ"الجبال"، إن "سياسة فرض الإرادات وكسر العظم التي انتهجها الخزعلي والحلبوسي مع شركائهما ستؤدي إلى انفجار الوضع عاجلا أم آجلاً".
"لا أحد ينكر فشل القيادات الشيعية في ديالى وكركوك، لكن تسوية الخلافات بهذه الطريقة سيكون له ثمن باهظ".
"كركوك وديالى والمناطق المحيطة بها هي مناطق نفوذ مشتركة، مما يجعلها مرتعاً للجماعات المسلحة المتطرفة التي تنشط في ظل الخلافات السياسية".
ومن غير الواضح متى بدأت الشراكة بين الحلبوسي والخزعلي، إلا أنه من المرجح أنها بدأت عندما ذهب الحلبوسي الى الخزعلي في آذار/مارس الماضي، بعد خمسة أشهر من إقالته، ليؤكد تمسكه بمنصب رئيس البرلمان كجزء من حصة تحالف تقدم، أكبر تحالف سياسي سني يقوده الحلبوسي، ومنذ ذلك الحين، نشأ تناغم عميق بين الرجلين.
إن عملية تشكيل حكومتي كركوك وديالى، من المتوقع أن تلقي بظلالها على عملية اختيار رئيس البرلمان الجديد، هو نتيجة لتسوية كبرى شملت الملفات الثلاثة، وهو ثمرة تعاون بين "الحلبوسي"، بحسب سياسيين شيعة وسنة وكورد.
قال سياسيون إنّ جرأة الرجلين واندفاعهما ما فتئا يستفزان شركائهما ويهددان بفتح النار عليهما من عدة جبهات في آن واحد، وخاصة الخزعلي، حيث أنّ اندفاعه وشراكاته أحرجت حلفائه الشيعة وعمقت الخلافات داخل الإطار التنسيقي الذي تعصف به المشاكل منذ سنوات.