تُعد الزرادشتية ديانة عريقة غنية بالفلسفة، تستمد تعاليمها من روعة الطبيعة وعظمة الكون. وتُعتبر من أقدم الديانات في العالم، حيث تعود جذورها إلى نبيها زرادشت، مؤسس أول ديانة توحيدية قبل أكثر من ٣٧٥٩ عاماً، بجبال "زاكروس" في إيران.
انتشرت تعاليم زرادشت لتشمل دولًا مثل العراق، والهند، وباكستان، وأصبحت الديانة الرسمية للإمبراطوريات الأخمينية، والميدية، والساسانية. لكن مع سقوط الإمبراطورية الساسانية قبل ١٤٠٠ عام، اضطر أتباع الزرادشتية لممارسة شعائرهم الدينية سراً لعدة قرون.
تتميز الزرادشتية بتركيزها على تمكين الأفراد من اتخاذ قراراتهم بحرية تامة، مستندين إلى الحقيقة دون التأثر بضغوطات المجتمع أو آراء الأغلبية. يؤمن أتباع هذه الديانة العريقة بإله واحد يُدعى "أهورامزدا" بمعنى "الحكيم". وتوضح ممثلة الديانة الزرادشتية في كوردستان، آوات حسام الدين، أن جوهر الزرادشتية يقوم على ثلاث مبادئ أخلاقية أساسية: "الفكر الصالح، القول الصالح، والعمل الصالح"، وتُجسد هذه المبادئ احتراماً عميقاً للخالق، وتؤكد على أهمية التفكير المنطقي والبحث الدؤوب لاكتشاف الحقيقة.
تُعد الزرادشتية فلسفة إلهية حقيقية تُشجع على استغلال العقل البشري في رحلة البحث عن المعرفة، وليس مجرد رسالة دينية تقليدية. فمن خلالها، يُصبح الإنسان مسؤولًا عن تنمية إمكانياته العقلية واكتشاف أسرار الكون.
اختر دينك بنفسك
تؤكد آوات أن الزرادشتية ليست ديانة تبشيرية بمعنى السعي لنشرها بين الناس، بل هي فلسفة إيمانية تُحترم حرية الفرد في اختيار عقيدته. وتُعتبر حرية الاختيار هبة من الله للإنسان، فلا يتم تسجيل ديانة الطفل، حتى لو وُلد من أبوين زرادشتيين، إلا بعد بلوغه سن الرشد. عند بلوغ سن الرشد، يصبح الفرد مسؤولاً عن اختيار دينه بحرية تامة.
وإذا قرر اعتناق دين والديه، يتم إجراء مراسم دينية بحضور خادم ديني، سواء رجل أو امرأة، حيث تتم تلاوة آيات من الكتاب المقدس باللغة الأفستائية أو باللغة الدارجة.
تُشير آوات إلى أن كتابهم المقدس، "أفيستا"، كان يتكون في الأصل من 21 جزءاً تضم 815 فصلًا. لكن للأسف، تعرض هذا الكتاب لحملات من الغزو والحروب والإبادة والاضطهاد على مر العصور، ما أدّى إلى ضياع 16جزءاً، ولم يتبقَ سوى 5 أجزاء فقط.
الطقوس الزرادشتية
يقوم الزرادشتيون بأداء خمس صلوات يومية، يتواصلون من خلالها مع الخالق. ويواجه المصلّى في صلاته مصدر ضوء، كالشمس أو النار أو أي مصدر نور آخر، إيماناً منهم بأن الإلهام والخلاص ينبعان من النور. ويتلفظون خلال الصلاة بكلمات تعهد بممارسة الخير ونطقه دائماً. وتؤكد آوات على أن نبيهم زرادشت قدّس العناصر الأربعة للحياة: الماء والنار والهواء والتراب، واعتبر الشمس معجزة عظيمة من الخالق، يحترمها الزرادشتيون ولا يعبدونها كما يروج بعض المتعصبين. إذ يُمثل مصدر الضوء هذا رمزاً للإلهام والخلاص، كما يُجسّد بداية الخليقة، وتُردد أفواههم أثناء الصلاة كلمات تُعبر عن التزامهم بممارسة الخير ونشر الفضيلة.
وتقول آوات: "نحن تحت التهديد بشكل مستمر، إذ صدر القانون رقم 5 لعام 2015، الذي اعترف بديننا رسمياً كأحد الديانات التوحيدية المحميّة، والتي يحق لها ممارسة طقوسها في إقليم كوردستان. لكن التشويه يلاحقنا، والاتهامات تؤذينا، مثل أننا كفرة، ونوافق على زواج المحارم، ونعبد النار ونأكل لحم الميت. لكن ديننا ليس كذلك، ولا نريد شيئاً سوى ممارسة شعائرنا كما يفعل الاخرون في بلادهم بدون خوف.. لماذا لا يحصل هذا؟".
إيمان سرّي
لا يزال العديد من الزرادشتيين يعتنقون دينهم سراً، نتيجة لقرون من الاضطهاد والقتل الجماعي. فبعد سقوط الدولة الساسانية، تعرضوا للإبادة ولم يتمكنوا من مقاومة الجيوش الغازية رغم محاولاتهم الدفاع عن ديارهم. هرب البعض منهم إلى الهند وشرق آسيا، حاملين معهم قصصاً مأساوية. وتوضح ئاوات أن المقاومة الأخيرة حدثت في كوردستان العراق، حيث لجأت قلة منهم إلى أماكن نائية في الجبال. وخلال الحكم العثماني، تم تزويدهم بهويات مكتوب عليها "الديانة المجوسية". ولا يزال الدستور العراقي المركزي لا يعترف بالزرادشتية، بل يشير إليهم باسم "المجوس" كأقلية دينية.
ولا تتوفر إحصائية رسمية حول عدد الزرادشتيين في العراق، وذلك بسبب خوف البعض من إعلان هويتهم الدينية. لكن التقديرات تشير إلى أن عددهم قد يصل إلى 300 ألف شخص. ولم يتمكن بعضهم من ممارسة حريتهم في التعبير عن دينهم علناً إلا بعد سن قانون حرية ممارسة الشعائر الدينية قبل 8 سنوات فقط.
ويوضح الكاهن عصام صبري، عضو المجلس الأعلى للزرادشتية، أن طقوس الصوم في الديانة الزرادشتية تتضمن الامتناع عن تناول اللحوم فقط لمدة أربعة أيام في كل شهر. وتهدف هذه الطقوس إلى تعزيز الصحة، وزيادة الثروة الحيوانية، وبالتالي خفض أسعار اللحوم في الأسواق، ومساعدة جميع الفقراء.
يقول عصام عن تعاليم الدين الزرادشتي "ديننا دين مساواة واحتواء للجميع. وحثنا نبينا على احترام جميع الحيوانات وعدم إيذائها، ورفض التمييز بين المرأة والرجل. فالمرأة تتمتع بحقوق متساوية في جميع المجالات، بما في ذلك القيادة الدينية والعسكرية. لكن زواج الأقارب حتى الدرجة الخامسة ممنوع، وذلك لمنع حدوث نقص في العقل والجسد، بالإضافة إلى الأمراض. كما يمنع تعدد الزوجات في ديننا".
الاحتفال بالأرض
توُعدّ الأعياد ضرورة محببة للزرادشتيين، إيماناً منهم بسعادة الله لرؤية الإنسان سعيداً. وترتبط الزرادشتية ارتباطاً وثيقاً بالطبيعة والفصول، حيث يحتفل الزرادشتيون بها ويُقدّرونها. يتواصلون مع الأرض من خلال زراعة النباتات والأشجار في مهرجاناتهم. يحتفلون بعيد الربيع "نوروز" وعيد "ئاوان" (عيد الماء) وعيد المهرجان في أول يوم من فصل الخريف، ثم عيد "زاين" (عيد الميلاد) الذي يصادف اليوم الأربعين من فصل الشتاء. كما يتضح، فإن أفراحهم مرتبطة بفرح الأرض وخصائصها الطبيعية.
ويشجّع الزرادشتيون على الاحتفاء بأيامهم المقدسة، مثل اليوم الأول من كل شهر حيث يقيمون الحفلات الغنائية احتفاءً بالبقاء واستمرارية محاولات التقديم للأرض. كما يحتفلون بيوم السادس والعشرين من مارس، ذكرى ميلاد نبيهم زرادشت، مع أيام أخرى، جميعها مرتبطة بالأرض وفصولها كجزء من الامتنان لمباركة الطبيعة.
وتحدّث صبري عن معابد الزرادشتية مشيراً إلى "(طاق كسرى) في المدائن جنوب بغداد، يُعد من أبرز الأماكن التي يُمارس فيها الزرادشتيون طقوسهم واحتفالاتهم، وكان هذا الموقع مركز حكم الساسانيين الذين اعتنقوا الزرادشتية قبل سقوط دولتهم على يد المسلمين. بالإضافة إلى كهف (جارستين) في دهوك"، منوهاً أن "بغداد قبل ٢٠٠ سنة كانت تضمّ مقالات ومخطوطات ومعابد مصغرة تُسمّى (هورمزكا)، فيما تمّ هدم آخرها في نهاية خمسينيات القرن الماضي".
ليس هنالك دعم سوى التكفير
من جانبها، تؤكد هيلان عارف، الكاتبة الزرادشتية ومسؤولة منظمة يسنا الزرادشتية، أن هناك معبدين فقط متاحين حالياً لأتباع الديانة في السليمانية، بينما تم إغلاق المعبد الثالث في أربيل بسبب نقص التمويل. و"يواجه الزرادشتيون صعوبات في استمرار عمل المعبدين المتبقيين ودفع الإيجار الشهري، ولا يوجد اهتمام من قبل الجهات الرسمية، إذ تعتبر الديانة مستقلة ولا تتلقى أي تمويل حكومي، كما هو الحال مع بقية الديانات في العراق"، حسب قول عارف و"كانت كوردستان تضم العشرات من المعابد الزرادشتية، تنتشر آثارها في محافظات الإقليم، وأبرزها معبد دربندخان الذي يتطلب الترميم بسبب قدمه الذي يعود إلى 1400 سنة".
تشير عارف إلى أن مسألة تكفير الزرادشتيين ليست سوى "محاولات من قبل بعض رجال الدين المتطرفين الذين يفتقرون إلى المعرفة بالمبادئ الموجودة في كتابهم المقدس (القرآن)، حيث تؤكد إحدى آيات القرآن الكريم على أن الديانة التي كانت تُعرف بالمجوسية في اللغة العربية، نسبة إلى الطبقة الدينية التي انحدر منها زرادشت، وهي (مگوس) وبما أن حرف (گ) غير موجود في الأبجدية العربية، فقد تم استبداله بحرف (ج)".
الدين العلماني
ومن زاوية أخرى، أوضح عصام صبري أن الزرادشتية دين "علماني وحرّ" يسمح للفرد بمغادرة الدين إذا لم يعد يشعر أنه يناسبه. فالدخول والخروج من الدين متساويان بالنسبة للزرادشتيين، وما يهم حقاً هو شعور الفرد بالحرية الإنسانية مع الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين.
وهو يضيف أن "من يرغب في أن يصبح زرادشتياً، تُقام له طقوس خاصة بمثابة تذكير بمسؤولية اختياره لهذا الدين. فعلى الرغم من تسهيلات الزرادشتية وتبسيطها لمفاهيم الحياة، إلا أن الالتزام بها صعب للغاية. فهو يتطلب شخصاً خالصاً في زهد الحياة، يلتزم بثلاث صفات أساسية: الفكر الجيد، القول الجيد، والعمل الجيد. كما يجب عليه أن يكون حذراً بوجود هذه الصفات في جميع جوانب حياته".