أطوار بهجت.. الرحلة التي لم تكتمل

10 قراءة دقيقة
أطوار بهجت.. الرحلة التي لم تكتمل

صور حصرية تنشر لأول مرّة عبر الجبال في ذكرى رحيل الصحفية

قبل 19 عاماً، كانت إيثار بهجت تحاول منع شقيقتها من السفر إلى سامراء. توسّلت إليها، حذّرتها، لكن أطوار كانت حاسمة: "أنا متجهة لمدينتي، لا تخافي".
 
كانت في كركوك، وكان من المفترض أن تذهب زميلة أخرى، لكن أطوار أصرت. كأنها تسمع نداء داخلياً لا يمكنها تجاهله. قالت بثقة: "أنا بين أهلي ومدينتي"، وبعد ساعات فقط، كانت تروي قصة العراق للمرّة الأخيرة، قبل أن تُقتل.  
 
في الليلة التي سبقت اغتيالها، كانت تستعد للسفر إلى كركوك. أرادت تصوير حلقة عن آبار النفط لبرنامج "مهمة خاصة" لقناة العربية، لا شيء كان يبدو غير اعتيادي، سوى شعورها الثقيل بأن هذه الرحلة مختلفة. تقول شقيقتها إيثار بهجت، ان تصرفاتها لم تكن طبيعية في ذلك اليوم، حتى أنها رفضت السفر قبل تناول وجبتها المفضلة، "البرياني وحلاوة دهينة"، ثم جهّزت حقيبتها. عندما وصلت السيارة، استدارت فجأة، نزلت من الباب، عانقت والدتها وشقيقتها بقوة لم تفعلها من قبل. نظرت إلى إيثار وقالت: "قد لا أعود".

 

صُدمت شقيقتها: "قولي يا الله واذهبي ثم عودي". لكن أطوار تمتمت بشيء أغرب: أشعر أن شيئاً سيحدث، يهتز العالم من أجله".
 
انفجار المرقد.. وانتهاء الحكاية

 

في صباح اليوم التالي. لم تكد تستيقظ حتى اهتزّت الأخبار: انفجار في مرقد الإمامين العسكريين في سامراء. كان حدثاً سيغير العراق كله، ولم يكن لأطوار أن تقف بعيداً، توجهت إلى سامراء، وفي طريقها، كانت تسابق خبر اغتيالها. بعد ساعات فقط، لم تعد أطوار بهجت موجودة. ذهبت مباشرة، مرتدية الأخضر الفستقي، ومصرة على إخراج سنسال خارطة العراق من خلف بلوزتها. تقف مع الكادر على مشارف المدينة، وتُمنع من الدخول بسبب الهلع الكبير، والقت تقريرها وخطابها وكلماتها الأخيرة "رسالة يبدو العراقيون أحوج ما يكونون إلى تذكرها، سنياً كنت أو شيعياً، عربياً أو كوردياً لا فرق بين عراقي وعراقي إلا بالخوف على هذا البلد، من مشارف مدينة سامراء العراقية.. أطوار بهجت – قناة العربية"، لينقطع البث بعدها مرة واحدة وإلى الأبد.
 
وُلدت أطوار في سامراء، لكنها لم تكن مجرد صحفية، درست اللغة العربية في كلية الآداب. كانت شاعرة، كاتبة، وصوتاً يروي العراق كما لم يروه أحد. قبل 2003، عملت في الصحافة العراقية، ثم انتقلت إلى قناتي الجزيرة ثم العربية، ولم تفكر يوماً في مغادرة العراق رغم كل التهديدات. وتقول إيثار إن شقيقتها تلقت الكثير من العروض للعيش خارج البلد، أصرت على سفرنا وبقائها، رفضنا. كان آخر تهديد تلقته بشكل مباشر قبل أقل من سنة على مقتلها. لم تكن تؤمن بالخوف، رغم أنها رأت الحرب بعينيها، ولم تكن تؤمن بالمغادرة، رغم أن الجميع قالوا لها إنها النهاية.  
 
في 22 شباط، لا يزال صوتها يملأ الفراغ. لا يزال اسمها عالقاً في الذاكرة، كأنها لم تذهب، وكأنها فقط تأخرت في العودة.
 
كانت تعيش الموت كل يوم

 

بعد سقوط نظام صدام حسين، انتقلت من قناة إلى أخرى، حتى استقرت في "الجزيرة"، ثم غادرتها إلى "العربية" قبل ثلاثة أسابيع فقط من اغتيالها. كانت تعلم أن كل خطوة تخطوها في هذا الطريق محفوفة بالمخاطر، لكنها لم تتراجع. في معارك النجف، كانت أطوار تغطي القتال عندما قُتل زميلها، الصحفي رشيد والي، أمام عينيها. كان يقف على سطح مبنى عندما استهدفه قناص برصاصة مباشرة في الرأس. لم يتمكن أحد من سحبه بسبب كثافة النيران. كان مشهداً كفيلاً بتحطيم أي شخص. توضح إيثار: "لم تتناول الطعام لثلاث أيام، لم تستطع فعل شيء وكانت تقول إنها ما تزال ترى صورته وهو غارق بدمه".
 
لم يكن ذلك الموقف الوحيد الذي وضعتها فيه الحرب على حافة الموت. أثناء عملها في الجزيرة، كانت في سيارة مع طاقم القناة عندما داست على لغم أرضي. انفجار، فوضى، لحظات من الذعر. بطريقة ما، خرجوا جميعاً أحياء، لم تصب إلا بجروح في يدها. وواصلت. "أطوار كانت تعيش الموت كل يوم"، تقول إيثار وتؤكد: "نجت من الرصاص، من القصف، من الألغام، من الموت الذي كان يلاحقها في كل مهمة صحفية. لكنها اغتيلت في مدينتها، حيث ولدت، وكأن القدر انتظرها هناك".
 
أصبحت اطوار واحدة من أبرز شهداء الصحافة، اسمها خُلد في سجلٍّ ثقيل بالمآسي. صباح الخميس، 23 شباط 2006، أعلن للعالم خبر اغتيالها قبل أن تتخطى الثلاثين عاماً مع الكادر الذين رافقها وهما المصور خالد محمود الفلاحي (39 عامًا) ومهندس البث عدنان خير الله (36 عامًا). كانت جثامينهم في طريقها إلى بغداد، لكن سامراء كانت مغلقة، والطرق مضطربة، فلم تصل إلا عند الساعة الخامسة مساءً. لم يكن بالإمكان التشييع فورًا، إذ كان حظر التجوال يخنق العاصمة، فتقرر تأجيله إلى الجمعة بعد الساعة السادسة مساء، لكن حتى ذلك لم يكن كافياً. مع دخول المساء، فُرض الحظر من جديد عند الثامنة، مما جعل الوصول إلى مقبرة أبو غريب والعودة منها مستحيلًا. لم يكن هناك خيار سوى إبقاء جثمان أطوار بهجت في المنزل ليومين متتاليين.  
 
الوداع الصعب  
 
تقول إيثار إنها ولمدة أكثر من ست ساعات لم تكن تستطيع الوصول لرقم أطوار، اتصلت بمكتب العربية الذي كان يعرف لكن لم يتمكنوا من إخبارها الحقيقة. تكمل بحديثها قائلة: "قالوا لي فيما بعد إنها مخطوفة، خرجت حافية اركض واستنجد الناس في الشارع مساعدتي لإيجاد اختي التي اُختطفت في مدينتها. في اليوم التالي قالوا إنها ميتة. بقيت لساعات وأنا لم استطع إغماض عيني، اتخيل ما تفعل هي، من اختطفها، هل إنها مخطوفة بالفعل أم مقتولة من الأساس؟ لم اعرف شيئا ولم يجبني أحد".

 

لم ترد إيثار أن ترى وجه أختها وهي مقتولة. لكنها سمعت من أولئك الذين رأوا جثمانها أن أطوار كانت مبتسمة، وكأنها، رغم الموت، لا تزال متمسكة بالحياة. مرت الساعات ثقيلة، وكان يجب دفنها بأي وسيلة بعد مرور يومين بدون دفن بسبب سوء الشارع العراقي، لكن الحكومة رفضت السماح بذلك وسط الحظر، حتى تدخلت قناة "العربية" واتصلت بوزارة الداخلية، مذكّرة أن "إكرام الميت دفنه".  

 

أخيرًا، حصلت العائلة على استثناء، لكن بثمن "سبع سيارات مغاوير داخلية" كانت شرطًا لمرافقة الجثمان خلال حظر التجوال. في البداية، رفضت العائلة وضع أي أحد -حتى الداخلية- تحت الخطر، فالأوضاع كانت بالضبط حرب شوارع، ولم تكن تريد إصدار أي ضجيج، كما أن العديد من محبيها لم يستطيعوا المجيء لتوديعها بسبب الحظر، لكن لم يكن هناك خيار آخر.  


 
انطلق الموكب، وكأن الرحلة إلى المقبرة كانت جزءًا من الحرب. في إحدى القرى، وقعت المواجهة. عبوات ناسفة زُرعت في الطريق، قوات الداخلية تعرّضت لإطلاق نار، والموكب تحول إلى هدف. قتل ثلاثة أشخاص، جُرح آخرون، لكن جثمان أطوار نجا، وكأنها كانت تُدفع للموت مجددًا حتى بعد استشهادها.  

 

تقول إيثار، بحزن لا يزال يتردد في صوتها بعد كل هذه السنوات: "حتى وهي مقتولة، لم تنعم بتشييع مسالم وهادئ، مثلها، حتى وهي مقتولة، لاحقتها حروب العراق".

 
أطوار بهجت.. الصحفية التي لم تكتب الفصل الأخير

 
منذ طفولتها، كانت أطوار بهجت مختلفة. لم تكن تلهو كثيرًا مثل أقرانها، بل كانت تجمع المال لشراء المجلات الخاصة بالأطفال، تقرأ بنهم، وتصنع لنفسها عالمًا مليئًا بالكلمات. وعندما كبرت، لم يكن ذلك مجرد شغف عابر، بل تحول إلى مشروع حياة، وثقته في مجموعة شعرية بعنوان "غوايات البنفسج"، ثم في رواية لم يكتمل فصلها الأخير.

 

أثناء عملها الصحفي، كانت أطوار تكتب رواية أسمتها "عزاء أبيض"، حكت فيها عن تجربتها، عن عملها، عن مخاوفها وأحلامها، عن الألم الذي كانت تشعر به وهي ترى بلادها تنهار أمام عينيها. لكنها لم تنهها، اذ بقي الفصل الأخير من الرواية عند مقتلها، واختار الناشرون ختم الرواية عند سطر كُتب فيه أنها تعرضت للقتل.  
  
كانت واضحة في مواقفها. لم تخفِ رفضها القاطع للقوات الأميركية، وكانت تتشاجر معهم وترفض الصلح معهم بسبب ما فعلوه بالعراق. حينما كانت تسير في الحي وترى دبابة أميركية، لم تبتعد ولم تخف، بل كانت تقول: "هم من عليهم أن يخافوا".

 


صحفية، كاتبة، معيلة
 
لم يكن العمل بالنسبة لها مجرد طموح مهني، بل كان مسؤولية. توضح إيثار أن الشهيدة بدأت العمل وهي لا تزال تدرس في الجامعة، كانت تعيلهم، توازن بين الصحافة والدراسة والكتابة، ومع ذلك، لم تكن تنسى العائلة.
 
كانت تحرص على الاجتماع بأولاد خالاتها، تقضي الوقت مع والدتها وإيثار، وتخصص جزءًا من دخلها لمساعدة العائلات الفقيرة بشكل شهري. كانت تعرف أن الصحافة قد لا تمنحها عمرًا طويلًا، لكنها كانت مصممة على أن تمنحها أثرًا لا يُنسى.

 

 

آية منصور

نُشرت في السبت 22 فبراير 2025 02:00 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية


© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.