شهدت موازنة العراق لعام 2022 إعلاناً عن تحقيق فائض مالي، جاء مدفوعاً بارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية، كانت تصريحات المسؤولين في ذلك الوقت، تعكس تفاؤلًا حيال الوضع الاقتصادي للبلاد وقدرتها على تجاوز التحديات، إلا أنّ هذا التفاؤل لم يدم طويلًا، فبعد مرور ثلاث سنوات فقط، يواجه العراق واقعاً مالياً مختلفاً تماماً، حيث تشير التقارير الرسمية إلى "وجود عجز مالي كبير في خزينة الدولة".
هذا التحول المفاجئ من فائض مالي إلى عجز يثير تساؤلات جوهرية حول السياسات الاقتصادية والمالية التي اتبعتها الحكومة العراقية خلال هذه الفترة، حيث كشفت وزارة المالية عن وجود عجز تعاني منه خزينة الدولة، وذلك ضمنياً وبشكل خجول عبر كتاب رسمي، تطالب فيه رئيس الوزراء بـ"عدم تحميل الخزينة أعباء إضافية بتثبيت عقود قراء المقاييس في وزارة الكهرباء على الملاك الدائم للوزارة، بسبب عجز تعاني منه الخزينة في تمويل رواتب الموظفين والمتقاعدين وشبكة الحماية الاجتماعية".
وفي هذا السياق، يؤكد الباحث الاقتصادي نبيل جبار في تصريح لـ"الجبال" أنه "لا توجد مخاوف من توقف صرف الرواتب في الوقت الحالي"، لكن "وزارة المالية تواجه ارتباكاً في عملية تدوير الأموال بشكل شهري".
وقال جبار لـ"الجبال"، إن تمويل المشاريع الحكومية قد يكون "أكثر عرضة لإيقاف التمويل" في ظل هذا العجز، محذراً من أن "أي هبوط في أسعار النفط، أو حتى استمرارها عند مستوياتها الحالية مع عدم زيادة الكميات المصدرة، قد يضع الحكومة العراقية في حرج كبير".
وقد بلغت قيمة الموازنة الثلاثية قرابة 153 مليار دولار لكل عام، مع تسجيل عجز مالي كبير يقدر بنحو 48 ملياراً سنوياً حيث اعتبره مراقبون "ناقوس خطر للحكومة العراقية في حال تراجع أسعار النفط".
هذا وقد أصبحت الحكومة العراقية على دراية بمشكلة العجز المالي المتفاقم، والذي يعود بشكل أساسي إلى "خطط الإنفاق في الموازنة الثلاثية"، بحسب جبار الذي أوضح أن "الخلل في تصميم الموازنة يكمن في ارتفاع النفقات بشكل كبير وافتراض غير واقعي وغير كاف للإيرادات".
واتضح مؤخراً ـ والكلام لجبار ـ أن "تنفيذ كامل الموازنة قد يجعل العجز يقارب 25% منها، وهو أمر من الصعب تغطيته بوسائل تغطية العجز المألوفة".
ومع نفي وزارة المالية لوجود عجز في الرواتب، لكنها لم تنف رسمياً الكتاب الذي أقرّت فيه العجز برواتب الموظفين والمتقاعدين والحماية الاجتماعية.
ومنذ فترة طويلة تتحدث المالية النيابية عن وجود عجز مالي حقيقي لدى وزارة المالية بشأن السيولة النقدية لدفع الرواتب، وقد "تأخر صرف الرواتب في أحد الأشهر الماضية لأيام بسبب هذا العجز"، بحسب اللجنة.
وينتقد الخبير الاقتصادي عبد الرحمن المشهداني تصريحات وزارة المالية بشأن وجود عجز في الموازنة، معتبراً أنها "تصريحات سلبية تؤثر على الاقتصاد والاستثمار والمواطنين".
وأعرب المشهداني عن استغرابه من هذه التصريحات، مؤكداً أن الوزارة "قادرة على تلبية متطلبات التمويل"، خاصة مع استمرار تصدير النفط بكميات كبيرة وإيرادات نفطية تقدر بـ 7.5 مليار دولار شهرياً، بالإضافة إلى الإيرادات الأخرى من الجباية.
وأشار المشهداني إلى أن المشاريع الاستثمارية لم تشكل رقماً كبيراً في عام 2024، حيث لم ينفق منها سوى 12 تريليون دينار من أصل قرابة 57 تريليون مخصصة لها، وأن معظم الإيرادات المتحققة تذهب إلى الرواتب والأجور.
وكشف المشهداني عن وجود "سوء إدارة للمال العام من البداية إلى النهاية"، مشيراً إلى أن "عدد الموظفين قد ارتفع، مما أدى إلى زيادة التكاليف بشكل كبير، مع عدم وجود حصر دقيق للرقم الوظيفي حتى الآن".
كما انتقد المشهداني "عدم لجوء وزيرة المالية إلى الاقتراض الداخلي والخارجي لتغطية العجز"، مشيراً إلى أن "البنك المركزي من المفترض أن يقرض الحكومة حوالي 20 تريليون دينار سنوياً".
ومع ذلك، كان الخبير الاقتصادي، منار العبيدي، حذر من "خطورة" ارتفاع الدين الداخلي في العراق، الذي أكد أنه شهد ارتفاعاً خلال سنة واحدة، ما يعادل 4 سنوات من 2020 إلى 2023.
وبالنسبة للاقتصاديين والمحللين السياسيين، فإن انقطاع الرواتب والأجور سيكون له "تأثير سلبي كبير على الاقتصاد العراقي والمواطنين"، وقد يؤدي إلى "مظاهرات واضطرابات اجتماعية، خاصة بوجود نقص الخدمات الأساسية كالكهرباء"، كما يعبر عن ذلك عبد الرحمن المشهداني.
وفي الوقت نفسه، يؤكد الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي في تصريح لـ"الجبال"، أن الوضع سيكون "صعباً" إذا انخفض سعر النفط عن 70 دولاراً للبرميل، مشيراً إلى أن "المالية العامة تعاني بسبب عدم ترشيد المال العام".
وكشف المرسومي عن أن "الفائض المالي الذي كان يقدر بـ 23 ترليون دينار، والذي استخدمته الحكومة خلال السنتين الماضيتين، قد نفد"، وأن "الصرف جميعه متوقف، وكل النفقات الاستثمارية متوقفة ومستحقات المقاولين متوقفة، ما عدا رواتب الموظفين والرعاية".
فيما حذر المرسومي من أن "مؤشرات انخفاض أسعار النفط باتت واضحة، ومنها قرب انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية، واجتماع أوبك في بداية آذار، والذي قد يدفع السوق النفطي إلى الانخفاض".
وأشار إلى أنه "لا توجد حلول قصيرة الأجل سوى ترشيد المال العام"، فيما أكد أن العراق "سيعاني إذا انخفض سعر النفط تحت 70 دولاراً، وستزداد مع احتمالية انقطاع الغاز الإيراني، وبالتالي أزمة كهرباء جديدة مع أزمة مالية جديدة، وهذا يؤثر على مجمل الحياة الاقتصادية".