لليوم السادس على التوالي، تستمر التوترات في شمال شرق سوريا، وتواصل قوات سوريا الديمقراطية "قسد" وقوى الأمن الداخلي "الأسايش" حصارها لمناطق حساسة في محافظة الحسكة ودير الزور، وسط مواجهات مسلحة على أكثر من جبهة بين الأطراف المتناحرة في المنطقة.
ماذا يحدث في شمال شرق سوريا؟
يوم الأربعاء الماضي 7 آب الجاري، حدثت مواجهات مسلّحة بين قوات سوريا الديمقراطية وقوات قالت قسد إنها تابعة للجيش السوري في منطقة شرق الفرات، أسفرت عن مقتل شخصين وإصابة خمسة آخرين، وسط توعد عشائر عربية بـ"تحرير المنطقة" وإصرار قسد "على حقها في الدفاع عن الأرض".
وتوعدت "قوات العشائر العربية" في دير الزور في بيان صوتي بلسان قائدها إبراهيم الهفل "شيخ عشيرة العكيدات"، بتحرير المنطقة من قسد، مؤكداً: "لن نترك السلاح ولن نترك الأرض حتى يتم تحريرها".
قال الهفل في تسجيله الصوتي: "نحن أبناء جيش العشائر لن نترك السلاح ولن نترك الأرض حتى يتم تحريرها وتطهيرها من عصابات قنديل الإرهابية، إننا أبناء هذه الأرض ولدنا فيها وكبرنا فوق ترابها، ولن نساوم عليها"، مضيفاً: "هدفنا تحرير أرضنا ولا نقبل أن نكون تُبع لأي جهة مثل (قسد)، نحن أصحاب حق وقادرون على تحرير أرضنا وإدارة أمورنا عليها".
وأوضح مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن، لمنصة "الجبال" أنه "حدث تجمع عسكري كبير لمسلحي الفصائل الموالية لإيران بمنطقة غرب الفرات، وهي تستعد لمهاجمة مناطق ذيبان، الحوايج، الطيانة، والدرنج على الضفة الشرقية للنهر بريف دير الزور".
تقع هذه الاشتباكات تزامناً مع حالة حرجة تعيشها دول الشرق الأوسط، بنشوء محفزات شكلها العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المحاصر، أدى لاشتداد حدة الصراع بين الولايات المتحدة والفصائل الموالية لإيران، وهيمنة خطاب تهديدي ينذر بوقوع حرب واسعة النطاق لا تفلت طرفاً بالمنطقة من شراراتها، خاصة بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، إسماعيل هنية. وقسد التي تعلم أنها ليست خارج المعادلة، وأخذت تشعر بالتهديد خصوصاً عقب الأحاديث عن تقارب سوري تركي، سارعت إلى فرض حصار على المربعين الأمنيين في الحسكة والقامشلي، وتعزيز تمركزها بالمدينتين بمزيد من العتاد والعناصر.
وأعلنت قسد أن "مجموعات من قوات الجيش السوري وأخرى من الدفاع الوطني شنت بغطاء من المدفعية وقذائف الهاون، هجوماً برياً ضد مناطق على ضفاف نهر الفرات شرق دير الزور"، مشيرة إلى "نشوب اشتباكات عنيفة بين قوات مجلس دير الزور والمجموعات المهاجمة في محيط قرى ذيبان واللطوة وأبو حمام"، مؤكدة ملاحقتها لـ "المجموعات المهاجمة في النقاط التي تسللوا لها، واستمرار عمليات التمشيط".
حسب قسد "قتل 25 مسلّحاً من النظام بينهم متزعمون، وجرح 10 آخرون" في المواجهات، وخسرت قسد مقاتلين وأصيب عشرة آخرون من عناصرها بجروح طفيفة.
ولم يصدر يومها أي موقف رسمي من قبل الجيش السوري حول المواجهات.
مفاوضات عقيمة
مع وقوع المواجهات، وفرض قوات سوريا الديمقراطية حصاراً على المربعين الأمنيين في الحسكة والقامشلي، اللذين تتواجد فيهما مؤسسات ونقاط عسكرية تابعة للحكومة بدمشق، توجّه وفد روسي، الجمعة 10 آب 2024، من قاعدة حميميم العسكرية إلى مطار قامشلي في ريف الحسكة للتفاوض مع قسد من أجل تهدئة الأوضاع وفك الحصار.
ويبدأ المربع الأمني في الحسكة من شارع القامشلي غرباً ويشمل ساحة الرئيس والأبنية الحكومية والقصر العدلي وسرايا المحافظة وجزءاً من السوق المركزية، لينتهي عند الحارة العسكرية شرقاً. بينما يضم المربع الأمني في القامشلي في مركز المدينة، مقرات الأجهزة الأمنية شمالاً، وقسماً من سوق المدينة يصل إلى شارع الوحدة شرقاً، ومطار القامشلي الواقع جنوباً وهو الوحيد في المحافظة ويعد المنفذ الواصل بينها وبين باقي المدن مع الداخل السوري. وحسب مراقبين، تكمن أهمية المربعين في أنهما كل ما تبقّى بيد الحكومة السورية في محافظة الحسكة وضمنها مدينة القامشلي، فهي تمثل موطئ قدم للحكومة ومركز تنسيق بين مؤسساتها هناك ومؤسساتها في باقي المحافظات. وهذه ليست المرة الأولى التي تقوم فيها قسد بمحاصرة المنطقتين، إذ حدث الأمر في مرات سابقة.
وطالبت قسد الوفد الروسي بتسليم زعيم العشائر العربية إبراهيم الهفل والشخصيات المحرضة ضد قسد، مقابل فك الحصار عن المربعين الامنيين. لكن اللقاء لم يثمر أية نتيجة.. عاد الطرفان خاليين الوفاض.
ليلة دامية
مع فشل المفاوضات، وبعد منتصف ليل الجمعة/ السبت، اشتبكت قسد وقوى الأمن الداخلي "الأسايش" مع قوات النظام بريف الحسكة بعنف، وقع خلاله قصف متبادل بالأسلحة الثقيلة، وانتهى الاشتباك بسيطرة قسد على قرية "مجيبرة" وحاجزين لقوات النظام في محيط القرية، كذلك إخراج المسلحين التابعين للنظام منها.
وذكر المرصد السوري أن الاشتباكات أسفرت عن إصابة ضابط برتبة مقدم، وفقدان الاتصال مع مجموعة من 6 عناصر لا يزال مصيرهم مجهولاً. بالإضافة إلى مقتل 3 عناصر من قوات النظام وأسر 8 آخرين بعتادهم العسكري.
بالتزامن مع ذلك، أعلنت قسد عن تعرضها إلى هجوم وقصف مدفعي في قريتي "الدحلة" و"جديدة بكارة" بريف دير الزور، من قبل عناصر الجيش ومسلحي الدفاع الوطني، وذكرت أن المهاجمين استهدفوا مواقع المدنيين، ما أسفر عن مقتل 11 شخصاً معظمهم نساء وأطفال.
تستمر التوترات في دير الزور والحسكة، ومن المتوقع حدوث مواجهات جديدة رغم انخفاض التصعيد في الساعات الأخيرة.
وحسب المرصد السوري، أجبرت (الفرقة الرابعة) في قوات النظام "عدداً من أهالي بلدتي (البوليل) و(الطوب) في ريف دير الزور الشرقي، على إخلاء منازلهم، تزامناً مع استقدام تعزيزات عسكرية لقتال قسد". وقد "استقدمت قوات النظام 5 دبابات من الفوج 54 إلى حي زنود في القامشلي لدعم قواتها في المربع الأمني، ومعلومات تشير إلى تمركز قناصين أعلى الأبنية في الحي المذكور المقابل لمناطق تمركز قسد والأسايش".
الإدارة الذاتية تحمل النظام مسؤولية العنف
تتهم الإدارة الذاتية قوات النظام بالسعي إلى السيطرة على المنطقة وبث الفتنة فيها، وضرب الاستقرار "عبر دعم مجموعات مرتزقة تابعة له والإشراف على إدارة المعارك في مناطق دير الزور، وذلك بالاتفاق مع تركيا وقوى أخرى لفرض الفوضى وتطويق جهود الاستقرار، خاصة بعد فشله قبل أكثر من عام في النيل من إرادة أبناء دير الزور ورموزها الاجتماعية وعشائرها الأصيلة". مقابل تشديدها على رد الهجمات ومواصلة مسح المناطق تحت سيطرتها وملاحقة العناصر المنتمين للفصائل المعارضة لها.
دمشق تتهم قسد وتطالب بـ "تحرير" أراضيها
قطعت الحكومة السورية عبر بيان صادر عن وزارة الخارجية والمغتربين صمتها، السبت 10 آب الجاري، بعد جولات من عمليات القتال والمواجهات في دير الزور والحسكة، متهمة بدورها قسد والأميركان بشن الهجمات على المدنيين في دير الزور والحسكة والقامشلي وقرى بالمناطق الشرقية والشمالية الشرقية. وقالت إن "طائرات حربية تابعة للقوات الأميركية قامت بدعم ميليشيا قسد، عبر شن عدة غارات استهدفت خلالها المدنيين المدافعين عن عائلاتهم وقراهم وممتلكاتهم"، متسببة بقتل عدد من السوريين بينهم نساء وأطفال.
ذكرت الخارجية السورية أن "الدعم الأميركي لميليشيات انفصالية يمثل أداة رخيصة" مطالبة "الولايات المتحدة بالتوقف عن هذه الممارسات، والانسحاب الفوري من الأراضي السورية، واحترام إرادة السوريين الرافضين لوجود ودور مثل هذه الميليشيات الانفصالية".
وأكدت اتباع "ممارسات لا إنسانية ضد السوريين في المناطق الشرقية والشمالية الشرقية، بما في ذلك منع وصول المواد الغذائية ومياه الشرب للمواطنين"، مبينة أن تلك الممارسات "تهدف لمضاعفة معاناة السوريين وإطالة أمد الحرب عليهم". كما أكدت الخارجية أن "إرادة أبناء سوريا في تحرير أرضهم والحفاظ على سيادتهم ستتحقق مهما بلغت التضحيات، ولن يفت في عضدها إرهاب وجرائم تلك الميليشيات".
لكن الإدارة الذاتية نفت عبر دائرة علاقاتها الخارجية اتهامات دمشق، واصفة الموقف بشكل من أشكال "تزييف الحقائق"، داعية "السوريين في مناطق سيطرة النظام إلى عدم الانجرار وراء الخطاب العدائي والمحرّف، والوقوف صفاً واحداً في مواجهة إشعال فتيل حرب أخرى". قالت إن "الحوار الوطني السوري هو الطريق الصحيح لبناء وطن سوري ديمقراطي قوي وموحد بشعبه وأرضه".
المرصد السوري: احتجاج ضد حصار قسد بالحسكة ومقتل 100
مع عقم مفاوضات التهدئة، أكد المرصد السوري لحقوق الإنسان، مواصلة قوات سوريا الديمقراطية لحصار المربعين الأمنيين في مدينتي القامشلي والحسكة "تزامناً مع استمرار عمليات التصعيد، وإخفاق المحادثات بين الوفد الروسي وقسد".
وأفاد المرصد بأن العشرات من أهالي مدينة الحسكة خرجوا بوقفة احتجاجية، تنديداً بالحصار المفروض على المربع الأمني في المدينة، مطالبين برفعه للتخفيف من معاناتهم، لافتاً إلى أن "الحصار المفروض انعكس سلباً على المدنيين، وأثر على حصولهم على مياه الشرب، وزاد من معاناتهم مع تزايد الحالات المرضية نتيجة لجوء الأهالي لمياه غير صالحة للشرب مع ارتفاع الحرارة، وزيادة الطلب على الماء رغم السماح بدخول العديد من صهاريج المياه".
وأشار إلى ارتفاع عدد الضحايا بين المدنيين جراء تدهور الأوضاع وتصعيد الصراع، منوّهاً لأن اشتباكات يوم الأربعاء الماضي بين قسد والفصائل المدعومة من إيران شكلت الحصيلة الأعلى والفترة الأكثر دموية منذ مطلع شهر آب. أكد المرصد السوري توثيق مقتل 100 شخص خلال ستة أيام.
العراق يستنفر على الحدود
منذ أيام تعيش القوات الأمنية العراقية في حالة استنفار وترقب، يدفعها إلى تكثيف التواجد والنشاط في الجانب الغربي من البلاد، خصوصاً على الشريط الحدودي مع سورية، بالتزامن مع تصاغد العنف بالطرف الآخر من الحدود (شمال وشمال شرق سورية).
وأعلنت الأجهزة الأمنية العراقية، الأحد الموافق 11 آب 2024، بدء قوة مشتركة من الحشد الشعبي والجيش العراقي صباح عملية أمنية شرقي محافظة الأنبار، تضمنت تفتيش جزيرة الكرمة لمنع أي خرق أمني يهدد استقرار المنطقة. سبقه توجّه نائب قائد العمليات المشتركة العراقية، قيس المحمداوي، صباح السبت، على رأس وفد أمني رفيع، لتفقّد الأوضاع الأمنية في مناطق غرب نينوى وصولاً إلى الحدود العراقية - السورية.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، لكنه يمتد في الحقيقة إلى أبعد من ذلك، إذ أثار قائد قوات "أنصار المرجعية" حميد الياسري، حفيظة المراقبين بعد توجيهه، يوم الأربعاء 7 آب الجاري، مقاتلي لوائه العسكري بالاستنفار وانتظار "النداء الخاص" للتوجه إلى منطقة جزيرة نينوى، دون توضيح الأسباب.
وفي اليوم التالي الموافق الخميس 8 آب 2024، أعلنت خلية الإعلام الأمني أن قيادات عمليات غرب نينوى وصلاح الدين والجزيرة تشهد (عمليات إستباقية واسعة) بحضور ميداني لقادة العمليات وقادة محاور الحشد الشعبي، بإشتراك القطعات الأمنية بمختلف صنوفها واختصاصاتها"، مؤكدة الخلية وجود "تنسيق عالي المستوى على الحدود العراقية - السورية بين جميع القطعات لحماية محافظات العراق والأهداف الحيوية، والاستفادة من التجارب السابقة المتعلقة بمسك الحدود وعمقها".
أشارت خلية الإعلام الأمني إلى "انتشار القطعات الأمنية لمسافات طويلة على خطوط صد مترابطة ونقاط وعقد قوية".
وقال الخبير في الشؤون العسكرية والاستراتيجية اللواء الركن المتقاعد عماد علّو، لمنصة "الجبال"، إن ما يحدث في شمال شرق سوريا يمتد بتأثيراته على الداخل العراقي، وهو محط اهتمام كبير من قبل الأجهزة الأمنية العراقية والقوات على الحدود.
"داعش" خطر محدق
على اختلاف التوجهات حول ما يحدث في منطقة الإدارة الذاتية، سواء كان محصلة تقارب سوري تركي كما يرى بعض، أو نتاج للتطورات السياسية والأمنية التي تشهدها المنطقة كما يرى بعض آخر، لكن المحصلة واحدة، إن المنطقة جزء من رقعة جغرافية أوسع، وما يحدث الآن أو أي تصعيد بحدة النزاع فيها سوف يصدر نتائجه بشكل مباشر إلى المناطق المحيطة بها.
ويحذر مراقبون من أن اشتداد النزاع في منطقة الإدارة الذاتية، وبالتالي انفلات الأوضاع الأمنية هناك قد يسهل عودة نشاط مسلحي تنظيم "داعش" الإرهابي، في حين أكدت قسد في أكثر من مرّة أن "هذه الهجمات لن تخدم إلا تنظيم داعش الإرهابي الذي يتحين الفرصة لإحياء نفسه مجدداً، لنشر إرهابه في كل المناطق".
وأكد خبير الشؤون العسكرية والاستراتيجية، عماد علّو، لمنصة "الجبال" أن تواجد الأجهزة الأمنية القوات المسلحة العراقية على الحدود مع سورية، يعود لبسبب نشاطات عصابات داعش الإرهابية في تلك المنطقة، والقرارات الصادرة عن قوات سوريا الديمقراطية بإطلاق سراح عدد كبير من معتقلي مخيم الهول وروج، ومن الممكن إطلاق سراح المحتجزين بسجن غويران"، مشيراً إلى أن "قسماً من هذه الأعداد حسب المعلومات المتوفرة لدى الأجهزة الأمنية كانوا من عصابات داعش، وقد يتوجهون للتسلل إلى داخل العمق العراقي، وهذا بحد ذاته يشكل خطراً على الأمن والداخل العراقي".
وأشار علّو إلى وجود "توجّس من تسلل هؤلاء إلى العراق عن طريق الحدود التركية عبر محافظة دهوك. لذلك تقع هذه المسألة في دائرة الاهتمام العراقي".
وبحسب علّو، فإنّ "ما يحصل في شمال سوريا يمتد تأثيره إلى العراق، وما يحدث من توترات بين قوات سوريا الديمقراطية والفصائل المسلحة المدعومة من قبل إيران يفسر أن الجميع يتنازع على مناطق السيطرة والنفوذ، خاصة أن هذه المناطق غنية بالثروات النفطية والغازية"، موضحاً أن "هناك مواقف سالبة من قبل الفصائل المدعومة من إيران إزاء قوات سوريا الديمقراطية بسبب تلقي الأخيرة الدعم من الولايات المتحدة الأميركية، المسألة واضحة ولم تعد مخفية".
وقال علّو أيضاً إن "هذه الفصائل تقف موقفاً معادياً من القوات الأميركية الموجودة في المنطقة وتتعرض لها بالمسيرات وقذائف الكاتيوشا والصواريخ، لذلك إن الأوضاع في شمال شرق سوريا ستبقى متوترة وتؤثر بشكل واضح على الداخل العراقي".