في 29 كانون الثاني 2025، أعلنت الإدارة العسكرية السورية النصر بشكل رسمي في سوريا، بعد مرور أقل من شهرين على إسقاط حكم بشار الأسد وتشكيل الحكومة المؤقتة برئاسة محمد البشير، بمراسم خاصة، أطلقت خلالها قرارات مصيرية على رأسها تنصيب قائد "ردع العدوان" أحمد الشرع رئيساً للبلاد، في موقف من شأنه إعادة رسم المشهد في سوريا، وتشكيل حسابات جديدة على مستوى الداخل والخارج. وإن توالي الأحداث يدفع لتساؤل حول سبب اختيار هذا التوقيت للإعلان التنصيب وما تحمله الخطوة من نتائج للمرحلة المقبلة.
بهذا الخصوص، أشار المحلّل السياسي معن طلاع، في حديث لمنصة الجبال، إلى أن تعيين قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع رئيساً لسوريا، جاء في لحظة متأخرة، كان ينبغي أن يحدث منذ اللحظة الأولى لإسقاط النظام، لأن يكون هناك إطاراً دستورياً يعيد نظم البلاد ويعلن بدء مرحلة التغيير والانتقال من سلطة الأسد إلى واقع جديد، مضيفاً أن "تأخر تعيين الرئيس بحكم أن الإدارة الجديدة كانت ترغب بانتقال سياسي هادئ سلس كما حدثت العمليات العسكرية دون تدمير أو إحداث تهجير في البلاد".
وتابع: "إن تعثر قيام حوار وطني مرضي لجميع الأطراف، ولحاجة سوريا لإطار قانوني ينظم علاقاتها الداخلية وحتى الخارجية، ارتأت الإدارة السورية الجديدة الإقدام على هذه الخطوة لتقويض صلاحيات القادة العسكريين الذين شاركوا في إسقاط النظام".
تحدّيات قائمة
لم يخف طلاع قلقاً من وقائع المرحلة الراهنة، وهو يقول إن "سوريا لا تزال في مواجهة مجموعة تحديات تفرض نفسها بحكم الإرث الثقيل الذي خلفه النظام المخلوع، وبحكم الملفات الأمنية من جهة أخرى. سوريا شهدت نزاعاً دامياً لـ 14 عاماً، وانتكاسات كبرى في الاقتصاد والاجتماع، ناهيك عن ملفات بحاجة لإعادة تصحيح (بدءاً من الجهاز البيروقراطي في الدولة، والدولة نفسها، وآليات العمل فيها)"، وهي تحديات "كبيرة جداً" على حد قول المحلل السياسي.
وعلى المستوى الأمني، "يشغل فلول النظام أوالمجاميع العسكرية أو حتى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) كمهدّد رئيس لوحدة البلاد أو حتى موضوع داعش بال السوريين، كذلك موضوع سيولة الحدود والانكشاف الذي يشهده البلد، ناهيك عن الاحتلال الإسرائيلي لمواقع استراتيجية تسقط دمشق عسكرياً".
فضلاً عن تحديات أخرى مجتمعية، تتجسد في "تأمين حاجة المواطنين من الرواتب الشهرية والطاقة وسبل العيش، في ظل واقع اقتصادي سيّء جداً وبنية تحتية منهارة بالكامل، ناهيك عن العقوبات الدولية المفروضة على البلد (عقوبات قيصر) أو حتى عقوبات فردية مفروضة على شخصيات في الإدارة السورية الجديدة"، والكلام لطلاع.
وعلى المستوى السياسي، تواجه سوريا الجديدة تحديات كبيرة تتعلّق بالمشاركة السياسية وتحديث آليات المشاركة في الإدارة الجديدة والنظام، ووفق المحلل السياسي، فإن الإدارة السياسية تتعامل مع هذه التحديات باتجاهين اثنين: أوله، تنظيم سياسة خارجية تعيد توازن الدور العربي في سوريا من جهة، وتوحي من جهة أخرى بأن تصبح سوريا منطقة استقرار وليس رقعة نزاع أو منطقة مصدّرة للنزاع أو مهدّدة لأمن الجوار، وهي تحاول أن تنسجم مع رغبة الاستقرار التي يؤيدها المجتمع الدولي. وثانيه: إدارة الملفات الداخلية بهدوء، فالإدارة الجديدة بدأت بإعادة عجلة الدولة رغم التحديات الكبيرة والتساؤلات والتخوفات الكثيرة بهذا الخصوص، مؤكداً أن إدارة الشرع "حققت تقدماً على المستوى الأمني من خلال حملات تمشيط وهي عادت بفائدة كبيرة، التنظيم العسكري، وحلّ الفصائل. وهناك تفاهمات أمنية كبرى على مستوى المنطقة، واستمرار عمليات التسوية على قدم وساق.
وقال: "رغم ذلك تبقى المهدّدات جاثمة"، وينتظر بالمرحلة الانتقالية الراهنة دخول السوريين في مرحلة جديدة كلياً، تتبنّى إقامة حوار وطني وإنتاج برامج وطنية لمعالجة كل هذه التحديات.
وتشهد سوريا نشاطاً سياسياً ودبلوماسياً واسعاً منذ سقوط نظام الأسد قبل شهرين، تمخض عنه استقبال دمشق عشرات القادة والوفود الدبلوماسية من دول الإقليم وباقي قارات العالم تفاعلت مع التغيير القائم بالبلد، وأبدت انفتاحاً لكتابة صفحة جديدة من العلاقات ورسم شراكات جديدة تقوم على المصالح المتبادلة. آخرها كان زيارة أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وزيارة رئيس سوريا الجديد أحمد الشرع إلى السعودية وتركيا.
الاقتصاد سيد النقاش في السعودية
اتسمت زيارة الشرع إلى المملكة العربية السعودية، منذ أيام، بخصوصية كبيرة انعكست بشكل الاستقبال الذي حظي به رئيس سوريا المُنصّب من أرض مطار دمشق قبل وصوله لبلاد الحرمين، وحملت طابعاً اقتصادياً بالدرجة الأولى.
وأوضح طلاع بهذا الخصوص أن "زيارة أحمد الشرع إلى السعودية تتسم بأنها أول زيارة يعبر فيها عن ممارسة دوره في الرئاسة الانتقالية وتمثيل سوريا بالخارج، هو كان يريد إجراء الزيارة بصفته رئيساً، وهذا ما تم بالفعل. أما النقاشات التي دارت في المملكة فقد احتوت رسائل رئيسة منها (ضمان وجود دور عربي وازن في سوريا). وقد تضمنت الزيارة ثلاثة أبعاد: (تنموية) و(ملفات متعلقة بالتعافي المبكر)، كذلك (الاطلاع على بعض النماذج للأنظمة الرقمية والتكنولوجية)"، مشيراً إلى أن "أحمد الشرع يرى في رؤية 2030 السعودية رؤية موضوعية يمكن البناء عليها".
وأضاف "لقد نوقش تفعيل الدور السوري في إطار الجامعة العربية، وتم بحث سياقات أمنية في عموم المنطقة، فضلاً عن إطلاع السعودية على المقاربة السورية في إدارة المرحلة الانتقالية والتحديات التي تشهدها سوريا".
في رحلة دامت يومين، التقى رئيس سوريا الجديد مع أمراء وممثلي المدن التي حط فيها، توجت باجتماع مع ولي عهد البلاد الأمير محمد بن سلمان في قصر اليمامة بالعاصمة الرياض، بحث معه العلاقات الثنائية بين البلدين في المرحلة الجديدة وأوضاع المنطقة في ظل التغييرات المتسارعة. كما أجرى الشرع زيارة لمقر الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي "سدايا"، اطلع خلالها على جهود المملكة في هذا المجال ضمن إطار رؤية "السعودية 2030 " لبناء اقتصاد قائم على البيانات، وتحقيق الاستفادة المثلى من هذه التقنيات.
وذكر الشرع في مدوّنة، نشرتها وكالة الأنباء السورية "سانا" عقب اجتماعه مع بن سلمان، "تناولنا اليوم خلال الاجتماع نقاشات ومحادثات موسَّعة في كل المجالات، وعملنا على رفع مستوى التواصل والتعاون في كافة الصعد، لا سيما الإنسانية والاقتصادية، حيث ناقشنا خططاً مستقبلية موسعة، في مجالات الطاقة والتقانة، والتعليم والصحة، لنصل معاً إلى شراكة حقيقية، تهدف إلى حفظ السلام والاستقرارِ في المنطقة كلها، وتحسين الواقع الاقتصادي للشعب السوري، بجانب استمرار التعاون السياسي والدبلوماسي تعزيزاً لدور سوريا إزاء المواقف والقضايا العربية والعالمية"، وحسب قوله: "سيؤسس -هذا اللقاء- بداية علاقة استراتيجية تساهم في بناء البلدين، وتوطد العلاقات الثنائية على مختلف الصعد السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية وباقي القطاعات الخدمية".
هاجس مشترك مع تركيا
أبدت تركيا من بداية عملية "ردع العدوان" دعمها لقوات المعارضة السورية المسلّحة، ولا يخفى أنها كانت الداعم الذي استندت عليه هذه القوات التي اشتركت معها في الرغبة بإسقاط الأسد لسنوات، وبسقوط حكم بشار الأسد، تداولت أحاديث عن زيارة سيجريها رئيس تركيا رجب طيب أردوغان إلى دمشق للتباحث مع السلطة السورية الجديدة حول مخططات المرحلة المقبلة. لكن لم يحدث.
وبعد سقوط الأسد، تتشارك السلطة السورية الجديدة مع أنقرة حسابات وهواجس عديدة غالبيتها ذات طبيعة أمنية. وفي هذا الخصوص، قال المحلل السياسي لـ "الجبال" إن زيارة تركيا تم الحديث عنها بوقت سابق، إلا أن "غياب التأطير القانوني لصفة أحمد الشرع تقابل صفة رئيس أي بلاد يزوره أو يزورها هو، أجلت الخطوة عدّة مرات. وتأتي الزيارة تحت هواجس أمنية مشتركة بين الطرفين، وضرورة وجود تفاهمات عسكرية تفضي إلى اتفاق دفاع مشترك، كما أن ملف اللاجئين السوريين هو حاضر في سوريا. كما تمت إدارة بعض النقاشات المرتبطة بفواعل الهيئات السورية التي تنشط في تركيا وغيرها".
تركّز أنقرة في تعاملها مع سوريا على ضمان وحدة الأراضي السورية وتحجيم نفوذ القوات الكوردية في شمال البلاد، ولا يخفى قلقها من امتداد الوجود الإسرائيلي بالجنوب السوري.
وقال رجب طيب أردوغان في مؤتمر صحفي مشترك عقده مع الشرع خلال لقائهما بأنقرة: "نؤكد مع الرئيس الشرع على سيادة ووحدة الأراضي السورية"، و"ستشهد الفترة المقبلة كثافة في الزيارات واللقاءات مع الجانب السوري وسنرفع العلاقات إلى المستوى الاستراتيجي".
فيما أكد الشرع على أن "هناك اليوم علاقات أخوية متميزة بين البلدين، ونؤكد على تحويلها إلى شراكة استراتيجية عميقة في كافة المجالات"، منوّهاً إلى أنه "ناقشنا ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي التي دخلتها مؤخراً وفقاً لاتفاق فض الاشتباك عام 1974".
وأكد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في مناسبات عدّة، على "دعم وحدة أراضي سوريا وسيادتها، وضرورة ضمان عدم استخدام الأراضي السورية لتهديد أي دولة”.
أين العراق في المعادلة؟
عبّر العراق في مناسبات مختلفة عن دعم الشعب السوري واحترام إرادته والاستعداد لتقديم المساعدة لضمان أمن واستقرار البلد في المرحلة الجديدة، مع التأكيد على ترابط استقرار الدولتين. لكن بنفس الوقت توجد هواجس مخفية تتحفظ عليها الدائرة السياسية العراقية تفرزها ضبابية المشهد في سوريا تعثّر المسار نحو اتخاذ موقف واضح تجاه السلطة في دمشق. لا سيما في ظل حساسية الظرف الأمني في سوريا، وهو يثير قلق العراق من عودة نشاط تنظيم داعش على الحدود واستهدافه لاستقرار العراق. ذاك هو التحدّي الأكبر بالنسبة لبغداد.
أما سوريا التي لم تتحرّر من تركة الحرب الأهلية وآثار ممارسات الفصائل المسلحة الإيرانية الداعمة لنظام الأسد، فتنظر بعين الريبة لبابها الشرقي (العراق) كحليف قوي لإيران وتلك الفصائل، كطرف ضمن "المحور الإيراني"، ناهيك عن وجود عشرات القادة العسكريين والمقاتيلن الموالين للنظام السابق والمعارضين للتغيير الجديد تقول دمشق إنهم فرّوا إلى الأراضي العراقية أثناء عملية ردع العدوان وتطالب الحكومة العراقية بإعادة تسليمهم، وهذا جلي في تصريحات السلطات السورية المعلنة ومحل نفي نظيرتها العراقية.
ويرتبط العراق مع سوريا بخيوط جغرافية، تاريخية، اجتماعية، ثقافية، وعرقية متشابهة ومتداخلة، بصورة تنعكس على التفاعلات السياسية للبلدين، وتؤثر كفواعل في رسم المصالح بينهما، على رأسها الأمن. ومع الأهمية الاستراتيجية لكل من البلدين بالنسبة للآخر، إلا أن ذاك لم يمنع وجود اختلافات تعثر السير بخطى مشابهة كما مع تركيا وقطر والسعودية.
ومع إعلان تنصيب قائد الإدارة السورية أحمد الشرع رئيساً لسوريا في مرحلتها الانتقالية، شرعت دول كثيرة بالتفاعل مع الخطوة، وإبداء مواقف رسمية تجاه سوريا ورئيسها الجديد. وقد وجهت تركيا، الأردن، السعودية، قطر، الإمارات، البحرين، مصر، والكويت، عمان، السودان، المغرب، السلطة الفلسطينية، ومجلس القيادة الرئاسي اليمني، تبريكاتها للشرع بتوليه الرئاسة. ولكن لم يصدر من العراق أي موقف رسمي بهذا الشان حتى الآن، ما السبب؟
يقول الخبير الأستراتيجي والعسكري اللواء الركن المتقاعد عماد علو، لمنصة الجبال "إن الأوضاع في سوريا لا تزال غير مستقرة، ومن الواضح وجود بعض الخلافات لا تزال تلقي بظلالها على العلاقات فيما بين الفصائل المسلحة التي شاركت في عملية إسقاط بشار الأسد، وهذه الأمور هي التي تعيق الإسراع بإنهاء المرحلة الانتقالية الأولى والإعداد لمؤتمر وطني لغرض وضع خارطة طريق للعمل السياسي في سوريا، رغم الدعم الدولي الواضح الذي يقدم لأحمد الشرع".
وأضاف "لا تزال هناك عراقيل ومعضلات كبيرة في توحيد الرؤية والاتفاق بين أحمد الشرع وجماعته مع قوات سوريا الديمقراطية رغم البيانات الإيجابية التي تصدر من الطرفين حول حصر السلاح بيد الدولة، لا تزال هناك اشتباكات، ولا تزال هناك توترات في شمال شرق سوريا".
وبحسب علو فإن "العراق لا يزال على الرغم من إرسال وفد رفيع المستوى برئاسة حميد الشطري مدير المخابرات العراقية إلى سوريا، لكن لا تزال الحكومة العراقية غير واثقة وغير واضحة الموقف من السلطة الجديدة في دمشق، باعتبار أن هذه السلطة لم تسيطر بعد على كامل الأراضي السورية، فضلاً عن موقف فصائل المعارضة المسلحة خاصة ذات التوجهات السلفية التكفيرية المتطرفة من المكون العلوي الشيعي في سوريا، فقد وردت أنباء بعمليات اغتيال وتصفيات لعناصر وشخصيات من المكون بمناطقهم، وهذا يدل على عدم استقرار الأوضاع في سوريا، ويعيق بناء علاقات جيدة بين الجانب العراقي والجانب السوري".
وتلعب النزعة الطائفية دوراً في تمديد وتوسيع المسافة بين الحكومتين في بغداد ودمشق، وفقاً لقول الخبير الاستراتيجي العراقي، فقال: "من الواضح للجميع أن الحاكمية الشيعية في العراق هي التي تقود وتوجه الدولة في هذه المرحلة"، معتقداً أن "تطور العلاقات بالاتجاه الإيجابي بين بغداد ودمشق تنتظر لقاءات وزيارات ومناقشات مباشرة سواء من قبل مسؤولين في سوريا أو في العراق، لغرض بناء تصورات واضحة حول مستقبل العلاقة ووضع خطوط عريضة للتوجه إيجابياً لبناء منظومة علاقات تصب في مصلحة الشعبين السوري والعراقي".
وكان القيادي في ائتلاف دولة القانون عصام الكريطي، قد ذكر في تصريح صحفي أن "إرسال الحكومة العراقية وفداً رسمياً يمثلها إلى دمشق واجتماعه مع الإدارة السورية الجديدة، جاء بضغوطات أميركية كذلك خليجية من أجل تواصل بغداد مع دمشق بعد التطورات الأخيرة". وأشار إلى أن "زيارة رئيس جهاز المخابرات العراقية حميد الشطري إلى سوريا جاءت من أجل توضيح الخطوط الحمراء للعراق، وتحذير الإدارة السورية الجديدة من تجاوز تلك الخطوط".