أسلمة الدولة في العراق

5 قراءة دقيقة
أسلمة الدولة في العراق

هناك حمّى مستشرية نحو أسلمة الدولة

خلال الأسابيع الماضية شهدت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في العراق كثرة في استخدام الآيات القرآنية من قبل ساسة وبرلمانيين ورجال دين يدعمون بعض التيارات السياسية الإسلامية. وظاهر السجال الذي يستدعي استخدام هذه الآيات هو التعليق على التعديلات المقترحة على قانون الأحوال الشخصية العراقي النافذ، ولكن غالباً ما يتعدّى الأمر حدود هذا النقاش إلى رسائل تكشف عن نوايا فرض الشريعة على الدولة، والانقلاب على أسس الدولة المدنية في العراق والترويج لنسخة غائمة وغير واضحة بعد من "الدولة الإسلامية".

 

لا يرى هؤلاء الاسلاميون "ساسة ورجال دين ومدونين" أن من حقّ المواطن العراقي الاعتراض على ما يقولون، لأن قولهم يستند إلى قول الله، واعتراض الناس عليهم هو اعتراض على الله. هكذا بكل بساطة يشطبون على الدستور العراقي والقوانين النافذة، وعلى الأسس الديمقراطية التي يفترض أن النظام السياسي والدولة بنيا عليها. ويحوّلون أنفسهم الى ممثلين عن الله. ولهم الحق الحصري في الكلام وتمثيل السلطة في البلد.

 

في برنامج تلفزيوني هتف أحد رجال الدين في وجه الضيف الآخر ليسكته (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، وهي جزء من الآية 44 من سورة المائدة، فتلجلج المقابل ولم يعرف بماذا يردّ عليه. هل يعترض على الشيخ كي يكون كافراً برأي المشاهدين، أم ماذا؟! إنه، من دون شكّ، أمرٌ محرج.

 

ولكن الأكثر إحراجاً هو أن نصدّق أن الآية نزلت من الله على الشيخ خلال البرنامج التلفزيوني، وأن الآية تقصد بالضبط تلك المقاصد التي يحكي عنها الشيخ في البرنامج التلفزيوني.

آيات أخرى استخدمت، مثل الآية 62 من سورة الأحزاب (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (وايضاً من نفس السورة الآية 36 (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا).

 

كل هذه الآيات وغيرها يٌقصد منها أنها بالضبط تحكي عن قضايا لها علاقة بالسجال العراقي الاجتماعي والثقافي والسياسي، وليست شؤوناً لمجتمع آخر مختلف قبل 1400 سنة.

 

في أي تصفّح سريع للتفاسير القرآنية المختلفة، السنيّة والشيعية، وهي كلّها موجودة على الانترنت، سنجد أسباب النزول، والمستهدف من هذه الآيات، وأنها تعليق على أحداث تاريخية، مرّت بمجتمع رسول الإسلام، وكانت هناك ضرورة للتعليق عليها. أما استخراج أحكام عامّة منها، فهذا ليس من القرآن، وإنما من المدوّنة التفسيرية والتأويلية التي كتبها فقهاء ورجال دين على مرّ القرون الماضية. وبما أنها جهد بشري، [أي: التأويل والتفسير] فهي ليست مطلقة ولا حاكمة، ويمكن معارضتها بتفسيرات وتأويلات أخرى.

إن الطبيعة التأويلية للنص القرآني، وأنه يحتمل التأويلات المتعارضة والمتناقضة كانت معروفة خلال التاريخ الاسلامي، ولهذا كانت السلطات الحاكمة تنتخب وتنتقي تأويلات معيّنة تناسبها، وتتغاضى أو تمنع التأويلات الأخرى.

 

في المحصّلة فإن المؤسسات الدينية الاسلامية المعاصرة تفعل شيئن مهمين: أولاً/ أنها تنتقي تأويلات محدّدة، تناسب علاقتها بالسلطة الحاكمة، أو تناسب بناء سلطتها الشرعية كمؤسسة دينية. وثانياً/ أنها تحتكر تأويل القرآن، وتجرّم من يقوم بذلك خارج المؤسسة الدينية.

في الحقيقة أن ما تقوله المؤسسات الدينية ورجال الدين وأحزاب الاسلام السياسي ليس مقدّساً، وإنما هي اجتهادات وتأويلات، لا يحقّ لهم فرضها على غيرهم من المواطنين المنتمين الى ملّتهم، فضلاً عن فرضها على المجتمع المتنوّع والمتعدد، كما هو المجتمع العراقي، بشكل عام.

يحقّ للمواطنين، تحت سلطة الدولة المدنية، أن يمارسوا طقوسهم وعباداتهم بالشكل الذي يرتأونه، كما يحقّ لغيرهم أن لا يمارس أي شكل من الطقوس والعبادات، وأن يحدد علاقته بالدين حسب قناعاته وتصوّراته. ويحقّ للجميع أن يحكمهم قانون عادل واحد، لا يميّز بين مواطن وآخر.

 

إن هذه الحمّى المستشرية نحو أسلمة الدولة لن تفضي إلا الى المزيد من التفكّك المجتمعي، وزيادة الخلافات والصراعات، وإشغال الناس بعيداً عن القضايا الحيوية في الواقع اليومي من خدمات وبطالة وفساد هائل لا نظير له. كما أن إثارة هذه الموضوعات تغطّي على الفشل المريع للطبقة السياسية الحاكمة في إدارة الدولة على مدى أكثر من عشرين عاماً.

 

 

أحمد سعداوي كاتب وروائي

نُشرت في الجمعة 9 أغسطس 2024 06:00 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

المزيد من المنشورات

© 2024 الجبال. كل الحقوق محفوظة.