بعدما أعلنت الحكومة العراقية في العام 2022 عن سعيها لتأسيس "صندوق سيادي للأجيال" نتيجة لانتهاء تسديد التعويضات لدولة الكويت عن الغزو العراقي لها في تسعينيات القرن الماضي، ظهرت الآمال بخطوة تحفظ للأجيال المقبلة أموالاً تسهم في رفع القدرات العراقية عبر مشاريع استثمارية وتنموية تكون نافعة ومستدامة.
لكن ومع انتهاء حقبة الحكومة السابقة برئاسة مصطفى الكاظمي، وقدوم الحكومة الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني، تبدو موضوعة تأسيس ذلك الصندوق غير ناضجة لغاية الآن، رغم إقرار مجلس النواب لموازنة مالية للبلاد لثلاث سنوات (2023، 2024، 2025)، فيما يعتبر أمر الصندوق السيادي للأجيال خطوة معمول بها في العديد من بلدان المنطقة العربية والإقليمية وحتى دولياً على مستوى الدول الغربية.
"أنظروا إلى النرويج"
ويقول المستشار الاقتصادي لرئيس مجلس الوزراء، مظهر محمد صالح، لـ "الجبال"، إنّ "صناديق الثروة السيادية SWF التي بداتها الكويت بصندوق الاجيال منذ الخمسينات القرن الماضي وتبعتها بلدان الفائض المصدرة للمواد الخام عموما والنفط خصوصا، قامت على قاعدة اجراء تنويع في استثمار تلك الفوائض المالية في فرص استثمار مالية وحقيقية في اقتصادات كبرى خارج بلدانها من خلال صندوق سمي بصندوق الثروة السيادية SWF".
ويضيف صالح، أن "وظيفة هذه الصناديق إدارة استثمار الفوائض بأصول مالية وحقيقية خارج بلدانها، والسبب يعود الى موضوع يسمى ضعف القدرة الاستيعابية Weak absorption capacity اي ضعف القدرة على تحويل تلك الادخارات الفائضة من عوائد تصدير الموارد الطبيعية الى استثمارات داخل الدولة نفسها بسبب عوامل هيكلية داخلية كثيرة لكون الموارد الادخارية الفائضة الناجمة عن فائض في الحسابات الجارية لموازين مدفوعاتها تفوق قدراتها المتاحة بالصرف او الانفاق على مشاريع التنمية الداخلية او استثمار تلك العوائد من الصادرات في عمليات داخل الاقتصاد فوراً"، موضحا أنه "وبناء على ما تقدم قد نشأت الصناديق السيادية في العالم التي تحكمها اليوم قواعد عمل قياسية تسمى -مبادئ سانتياغو - وضعها صندوق النقد الدولي لتقييم وحوكمة عمل تلك الصناديق".
ضاعت الأموال بالحروب
وبما يخص العراق، يؤكد أنّ "البلاد قد استنزفت فوائض موازين مدفوعاته واستهلكتها الحروب والصراعات ابان الفترة نفسها 1980-2003 التي تعاظمت فيها صناديق الثروات السيادية عالميا، في حين تحول العراق خلال تلك العقود الشاقة الى مجموعة بلدان العجز deficit ووقع في فخ الديون الخارجية وتحديدا منذ العام 1980 وتصاعد الحرب العراقية-الايرانية"، مبينا أنه "حتى الان لايعد بلدنا من بلدان الفائض المالي وان احتياطات البنك المركزي العراقي الساندة لاستقرار الدينار العراقي والبالغة اكثر من 100 مليار دولار حاليا، تستثمر في محفظة استثمارية portifolio محددة جدا وهي شبه صندوق ثروة سيادية semi sovereign wealth fund".
ويتابع، أن "الاحتياطيات الأجنبية هي أصول مالية شبه سائلة دوماً ولا تدخل باستثمارات طويلة الأجل كالاسهم في المصانع أو العقارات مثلما تعمل صناديق الثروة السيادية الأخرى، بل تستثمر الاحتياطيات بأدوات مالية قصيرة الأجل وبفائدة قليلة مثل سندات الخزانة الأميركية وغيرها ذات التصنيف الائتماني العالي Aaa وتميل الى ان تكون شبه سائلة على الدوام ومنخفضة المخاطر من خلال الاستثمار الآمن ولكن ذو عائد منخفض عادة أو ثابت".
ويشير الى أنه "ومع ذلك لا تعد الاحتياطيات الاجنبية للمصارف المركزية ضمن صناديق الثروة السيادية مثل الصندوق النرويجي او السعودي او الصيني وغيره حاليا"، مؤكدا أنه "وعلى الرغم مما تقدم فينبغي ان نفكر من خارج الصندوق outside the Box كما يقال، ذلك بتاسيس صندوق للثروة السيادية للعراق على الرغم من ان بلادنا لا تصنف في مجموعة بلدان فائض".
واكد صالح، أنه "يمكن للعراق المضي بتأسيس صندوق الثروة السيادي لانه يعد البلد التاسع في ثروته الطبيعيّة حاليا وهو من بين بلدان العالم التي تزيد على 188 بلدا تقريباً حيث تقدر الثروة الطبيعية للعرق في باطن الارض بنحو 16 تريليون دولار أميركي".
وفصل خطوات تأسيس الصندوق بحال تطبيقه إلى أنها "تبدأ من تأسيس شركة قابضة عراقية حكومية مساهمة مع شراكات عالمية تساعد على استثمار تلك الثروات الطبيعية تتولى استثمار عوائد الموارد الطبيعية التي بحيازتها وتوجه الى استثمارات داخلية متنوعة، تذهب ارباحها نحو تراكم اصول صندوق للثروة السيادية"، مشيرا الى أن "هذه الشركة تتولى فعاليات اعادة الاستثمار لمصلحة صندوق الثروة السيادية الداخليّ نفسه، اي توجه عوائد الصندوق في اعادة الاستثمار في فرص استثمارية لتنويع الاقتصاد الوطني".
تجربة السبعينيات
يشار الى أن العراق يمتلك تجربة سابقة في إنشاء صندوق ثروة سيادي، وذلك عبر إنشاء الصندوق العراقي للتنمية الخارجية الذي تأسس بموجب القانون رقم 77 لسنة 1974، لكن بعد ذلك اقتصر عمل هذا الصندوق على إدارة مساهمات العراق المالية في المنظمات والهيئات الإقليمية والدولية، كما كانت هناك محاولة لإنشاء صندوقين سياديين للعراق في عام 2018، إلا أنَّهما بقيا من دون تنفيذ عملي.
وتكمُن أهمية هذه الصناديق في عدِّها أداة من أدوات السياسة المالية لتحقيق الاستقرار المالي، وتقليل احتمالية اللجوء إلى الاقتراض، كما تُعدُّ أداة مهمة في استثمار الفوائض المالية للدولة، فضلاً عن عدها أداة تحوطية من الآثار الناتجة عن تقلبات سوق النفط العالمية، والحفاظ على مستقبل الأجيال القادمة.
وتبعاً لذلك، يؤكد مختصون بالشأن الاقتصادي، أنه قد حان وبشدة لتأسيس صندوق العراق السيادي، أو تفعيل البدائل التي قد تؤدي نفس الدور، للاستفادة من الفائض المالي الحاصل في أسعار النفط، الذي يتوقع أن يوفر فائضاً مالياً كبيراً في السنوات المقبلة يكون نافعا للاجيال.
وأقر البرلمان العراقي في حزيران/ يونيو الماضي الموازنة الثلاثية التي تشمل أعوام 2023 و2024 و2025، وهي الأكبر في تاريخ العراق، بعد مخاض عسير على مدار أشهر شهدت سلسلة جلسات برلمانيّة لمناقشتها.
وبلغت قيمة تلك الموازنة نحو 153 مليار دولار لكل عام، وتتوقع عجزا ماليّا كبيرا يقدّر بنحو 48 مليار دولار سنويا، يُعدّ الأعلى من نوعه ويزيد بأكثر من ضعفي العجز المُسجّل في موازنة عام 2021 السابقة على هذه الموازنة، ورغم ذلك لم تشهد اي طرح لتأسيس الصندوق السيادي للاجيال مع كل هذه الوفرة المالية.
وكانت وزارة المالية العراقية، قد كشفت نهاية العام الماضي 2023عن أنّ حجم الإيرادات العراقيّة في الموازنة الاتحادية خلال 10 أشهر تجاوزت 106 تريليونات دينار (حوالي 80.9 مليار دولار أميركي)، مشيرة إلى ارتفاع مساهمة النفط في الموازنة إلى 95%.
ووفقا للجداول الماليّة، فإن إيرادات العراق من النفط بلغت 101 تريليون و940 مليارا ومليونا و380 ألف دينار، في حين بلغت الإيرادات غير النفطية خمسة تريليونات و477 مليارا و559 مليونا و979 ألف دينار عراقيّ.
وقت الأزمات
من جهته، يرى الاكاديمي الاقتصادي، علي دعدوش، خلال حديثه لـ "الجبال"، أن "الصندوق السيادي موجود بالاساس وهو نفس المخصص لتعويضات الكويت لكن اعتقد إلى الان لم يتم تفعيله بصورة كاملة ليكون مشابها للصناديق السيادية للدول الريعية وبالخصوص الخليجية".
ويضيف دعدوش، أن "الصندوق السيادي للعراق يحتاج لتشريع قانون خاص به يتضمن بنود الاتفاق على النسب المستقطعة من عائدات النفط مثلا النرويج 4% ، ومن يدير الصندوق مثل توجيه الموارد المالية نحو الاستثمار، واين يكون الاستثمار داخليا ام خارجيا ام الاثنين معا، فضلا عن تحديد نسبة تمويل العجز والدين من موارد الصندوق".
وتابع، أن "الصندوق السيادي له فوائد كثيرة جدا اهمها يحفظ حقوق الأجيال القادمة، ويعزز مالية الحكومة إبان الأزمات التي تحدث ومنه يتم تحول العراق من دولية ريعية معتمدة على مورد وحيد إلى التنويع الاقتصادي، فضلا عن ان تمويل القطاعات الانتاجية ( مستثمري القطاع الخاص ) لانتاج السلع والخدمات المحلية، وغيرها الكثير من الفوائد التي تعزز مالية الأفراد في المستقبل حال تحول العالم إلى مصادر الطاقة الأخرى غير النفط ".
على ذات الصعيد، تقترب منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط من أن تصبح المنطقة الوحيدة التي تمتلك صناديق ثروة تبلغ قيمتها أكثر من 3 تريليونات دولار، ويوازي ذلك قيام السعودية بنقل حصة بقيمة 164 مليار دولار في شركة أرامكو إلى صندوق الاستثمارات العامة، في حين أن الهيئة العامة للاستثمار الكويتية تسير بطريق تحقيق واحدة من أفضل سنواتها المالية على الإطلاق وسط ارتفاع واسع النطاق في السوق، حسبما ذكرت وكالة بلومبيرغ الاقتصادية المتخصصة.
ويعد صندوق الثروة السيادية النرويجي الأكبر في العالم بقيمة تبلغ 1.548 تريليون دولار، فيما تحتل مؤسسة الاستثمار الصينية المركز الثاني بقيمة تبلغ 1.24 تريليون دولار، يليه صندوق سافيك الصيني بقيمة 1.082 تريليون دولار، ثم جهاز أبو ظبي للاستثمار بقيمة 892 مليار دولار الرابع عالميا والاول عربيا، وبعده صندوق الاستثمارات العامة السعودي بقيمة 861 مليار دولار الخامس عالميا والثاني على مستوى الدول العربية.
مشكلة العجز
وبالسياق ذاته، يعتقد أستاذ الاقتصاد في جامعة البصرة، أحمد صدام، بأن "الصندوق السيادي للعراق لن يرى النور قريباً بسبب استمرار العجز في موازنات الدولة العراقية، إذ تقوم فكرته على استثمار فائض الموازنات المالية العراقية في مشاريع تنموية، وهذا يعني ان الصندوق لا يمكن تفعيله ما لم يحقق العراق فائضاً مالياً".
ويبين صدام، لـ "الجبال"، أنّ "الصندوق السيادي مرتبط ايضا بمستوى نجاح سياسات الاستثمار في القطاعات غير النفطية فضلا عن تقليل مستوى النفقات التشغيلية العامة مع افتراض استقرار اسعار النفط نسبيا بحدود 80دولار للبرميل الواحد، وبالتالي تحقيق فائض مالي يمكن استثماره في مشاريع إنتاجية"، لافتا الى أن "آلية الصندوق تقوم على اقتطاع ما نسبته 3% من كل برميل نفط مصدر وهذا يعني ان مستوى ايرادات الصندوق مرتبط طرديا بمستوى اسعار النفط الدولية، ومع وجود تقلبات الاسعار واعتماد الاقتصاد العراقي على الايرادات بشكل كبير يصل إلى 90% وتوجه الحكومة نحو سياسات انفاق توسعية يبقى الامل ضعيفا بتفعيل الصندوق عملياً".
وتتمثل جدوى الصندوق السيادي – وفقاً لصدام – "في استثمار الفوائض النفطية بمشاريع غير نفطية، وتتمثل الفائدة هنا في تفعيل الأنشطة الاقتصادية خارج القطاع النفطي ورفع مستوى القيمة المضافة وهذا يعني ان فائدة الصندوق تتجسد في توسيع السوق ورفع مستوى النمو الاقتصادي غير النفطي بما يقلل من مستوى مساهمة النفط في الناتج المحلي الاجمالي على المدى البعيد"، مؤكدا أن "فائدة الصندوق تتمثل في تقليل حدة اثر التقلبات التي يتعرض لها الاقتصاد جراء انخفاض اسعار النفط الدولية".
أما عن كيفية التصرف باموال الصندوق العراقي بحال تأسيسه، يرى استاذ الاقتصاد، أن "ذلك يتم من خلال لجان وبالتعاون مع وزارة التخطيط في تحديد كيفية استثمار الاموال وتوجيهها إلى المشاريع التي يحتاجها الاقتصاد وفي هذا الاطار يفترض ان تستثمر أمواله في المشاريع التي من الممكن ان تقلل من مستوى الاستيرادات إذا ما افترضنا تبني السياسة الاقتصادية سياسة احلال الاستيرادات وهذه نقطة مهمة تسهم في تشجيع الانتاج الوطني بشرط توفر السياسات والتسهيلات الداعمة لذلك".
ويبقى الامل مطروحا في إقدام العراق من خلال جهوده النيابية والحكومية على المضي نحو تأسيس صندوق سيادي للاجيال يكون ضامناً لمستقبل السنوات القادمة مالياً وتنموياً، خاصة مع أزمات شديدة ضربت الاقتصاد العراقي كان ابرزها في سنوات قريبة نتيجة انخفاض اسعار النفط الذي تمول إيراداته أكثر من 90 في المئة من ايرادات البلاد، وهو ما يعد بالنسبة لمختصين خطراً كبيراً لعد استثمار الموارد الطبيعية وتفعيل الايرادات غير النفطية بشكل أمثل لمنع تكرار اي سيناريوهات وأزمات مالية مستقبلاً.