في عالم يزداد فيه الاهتمام بالشاشات والتكنولوجيا الرقمية، تبرز شريحة الأطفال كواحدة من أكثر الفئات استهلاكاً للمحتوى الإعلامي، ومع ذلك يبدو أن القنوات التلفزيونية العراقية قد أغلقت أبوابها أمام هذه الشريحة، متجاهلة حاجتهم الملحّة لمحتوى تربوي، تعليمي، وترفيهي يعكس ثقافتهم وهويتهم.
برامج الأطفال، التي كانت يوماً جزءاً أساسياً من الخارطة البرامجية، أصبحت اليوم غائبة تماماً، لتتحول القنوات إلى ساحات محتدمة للسياسة والدراما والترفيه الموجه للكبار، بينما يُترك الأطفال أمام منصات رقمية عابرة لا تتوافق بالضرورة مع قيمهم وثقافتهم.
ويبرز العديد من التساؤلات بشأن غياب هذه البرلمان أبرزها "كيف أصبحت شريحة الأطفال منسية وسط هذا الزخم الإعلامي؟" و"ما هي التبعات الخطيرة التي قد تترتب على حرمانهم من محتوى إعلامي هادف؟" جميع هذه الأسئلة سيحاول فريق منصة "الجبال"، الإجابة عليها.
الطبقة السياسية وراء الكارثة
يحذر متخصصون في العراق، من خطر ما تعرضه القنوات الفضائية التي تركز على تقديم البرامج السياسية والتي تهتم بالصراعات السياسية والأمنية وغيرها من هذا الجانب، الأمر الذي يؤثر على فكر الأطفال وسلوكهم ما يجعلهم "عنيفون وغير واقعيون".
وفي هذا الصدد، يقول الصحفي العراقي حيدر أبو الحب، خلال حديثه لمنصة "الجبال"، إن "غياب برامج الأطفال عن القنوات الفضائية العراقية يعود بشكل أساس إلى طبيعة الإعلام في العراق، الذي ويوصف بالحزبي".
ويوضح أبو الحب، أن "الجهات التي تموّل المؤسسات الإعلامية تسعى لتحقيق أهداف سياسية، غالباً بالضغط على الخصوم، مما يجعل برامج الأطفال بعيدة عن أولوياتها، مبيناً أن "العمل في صحافة الأطفال يتطلب مهارات خاصة من الصحفيين، تشمل القدرة على تبسيط المعلومات وتقديمها بشكل يتناسب مع فكر الأطفال".
ووفقاً لحديث أبو الحب، فإن هذا النوع من الصحافة يتطلب جهداً مضاعفاً مقارنة بالصحافة السياسية أو الاقتصادية، سواء من حيث ساعات العمل أو طبيعة المحتوى، مما يُبعد الكثير من الإعلاميين عن التخصص فيه.
كما يشير الصحفي العراقي إلى أن "برامج الأطفال لا تُعتبر مربحة من الناحية الاقتصادية، وهو ما يزيد من إحجام القنوات عن الاستثمار فيها"، موضحاً أن "انتشار مواقع التواصل الاجتماعي قد أتاح للأطفال الوصول إلى محتوى متنوع بتكاليف منخفضة، ما جعل الحاجة إلى تأسيس صحافة متخصصة للأطفال أكثر تعقيداً وصعوبة".
يختم أبو الحب حديثه قائلاً إنه لا يتوقع أي تطور قريب في هذا المجال، نظراً لغياب الدعم المالي والاهتمام المؤسسي، إلى جانب التحديات الفنية واللوجستية التي تحول دون ذلك.
بينما يرى الصحفي العراقي، علي رسولي، أن "تقلبات الوضع السياسي والأمني في العراق كانت سبباً رئيساً في غياب المساحة المخصصة للأطفال على شاشات التلفزيون"، مضيفاً أن "الإعلام العراقي انشغل بتسليط الضوء على التحديات والأزمات التي تواجه البلاد، مما أدى إلى تهميش البرامج الموجهة للطفل العراقي".
وفي حديث لمنصة "الجبال"، يضيف رسولي، أن "توفير مساحة لهذه البرامج يعتمد بشكل كبير على ثقافة القائمين على المؤسسات الإعلامية، إلا أن أغلب هذه المؤسسات تركز على محتوى يحقق الترند والمشاهدات، حتى لو كان يمس قضايا سطحية أو يخدم شريحة معينة من المجتمع".
ويتابع رسولي قائلاً: "في ظل الوضع الراهن، لا تتوافر الإمكانات الفنية أو اللوجستية ولا الكوادر الإعلامية المختصة لإنتاج برامج مخصصة للأطفال"، مؤكداً في ذات الوقت "أهمية تبني المؤسسات الإعلامية استراتيجيات طويلة الأمد تهدف إلى تقديم محتوى نوعي يُعنى بالأطفال ويُسهم في تنمية شخصياتهم وثقافاتهم".
وتشير الإحصاءات الرسمية الصادرة عن الأمم المتحدة إلى أن "84 مليون طفل (56% من جميع الأطفال العاملين) يعيشون في بلدان منخفضة الدخل".
ووفقاً لاحصاءات أخرى، فإن العراق يحتل المرتبة الرابعة عربياً في عمالة الأطفال بعد اليمن والسودان ومصر، ففي العراق تصل النسبة إلى 4.9% بين الفئات العمرية الصغيرة، أي إجمالي 700 مليون طفل عامل من عمر 7 - 17 سنة يتركز عملهم في قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات بنسب عالية.
ضوء في نفق مظلم
علمت منصة "الجبال" من مصادر موثوقة داخل شبكة الإعلام العراقي، (القناة الرسمية لدى حكومة بغداد)، أن "المجلس الأعلى للشبكة قد صوّت على قرار استحداث قناة جديدة متخصصة للأطفال، في خطوة تهدف إلى تلبية احتياجات شريحة طالما كانت منسية في الإعلام العراقي".
وجاء هذا القرار بناء على مذكرة قدمها مجلس الأمناء وحظيت بموافقة رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، ما يعكس الاهتمام الرسمي بأهمية مخاطبة الجيل الجديد من خلال محتوى إعلامي هادف ومخصص.
وتضيف المصادر الذي فضّلت عدم الكشف عن أسمها، أن "قرار إنشاء القناة المتخصصة بالأطفال جاء ضمن سلسلة من الخطوات التي تعمل عليها شبكة الإعلام العراقي لتعزيز دورها الإعلامي في المجتمع"، مؤكدة أنه "تمت مناقشة استكمال متطلبات القناة من قبل لجنة الأمر الديواني المشكلة لهذا الغرض، حيث تم التركيز على تقديم برامج مخصصة للأطفال، فضلاً عن إمكانية عرض المسلسلات الخاصة بهم، ما سيوفر محتوى ترفيهياً وتعليمياً يعزز من وعي الأطفال وينمي مداركهم بطريقة ممتعة".
ضمن سياق الاستعدادات لإطلاق القناة، وفقاً لنفس المصادر، أقر مجلس الأمناء الميزانية التخمينية لشبكة الإعلام العراقي لعام 2025 بعد إدخال التعديلات اللازمة بناء على الملاحظات الواردة من المجلس. وقد تضمنت هذه الميزانية التخصيصات الخاصة بإنشاء القناة وتجهيزها بأحدث الإمكانيات لضمان تقديم محتوى متميز يليق بمستوى تطلعات الجمهور العراقي ويواكب المعايير الإعلامية العالمية.
ومن المقرر أن تقدم القناة برامج متخصصة تتنوع بين التعليمية والترفيهية، إضافة إلى المسلسلات الكرتونية المحلية والعالمية التي تخاطب الأطفال بمختلف أعمارهم بهدف:
أولاً: تعزيز القيم الوطنية والإنسانية من خلال محتوى يزرع القيم الأخلاقية والوطنية في نفوس الأطفال.
ثانياً: تنمية القدرات الفكرية والإبداعية عبر برامج تعليمية وتثقيفية مبتكرة.
ثالثاً: ملء الفراغ الإعلامي المخصص للأطفال في ظل غياب قنوات عراقية متخصصة تخاطب هذه الشريحة بشكل مباشر.
وعند الحديث عن ملف الأطفال في العراق، تجد أن نحو 90% من الأطفال العراقيين لا تتاح لهم فرصة الحصول على تعليم مبكر بحسب منظمة "اليونسيف"، كما أنّ ثلث هؤلاء الأطفال يمرون بـ"ظروف اقتصادية صعبة تضعهم أمام متطلبات العمل لإعالة عائلاتهم".
كما تشير نتائج مسح سوء التغذية التابعة لليونيسف في العام 2020، إلى أن 2.9% من الأطفال دون الخامسة من العمر في العراق يعانون من نقص الوزن، و2.5% منهم يعانون من الهزال، و9.9% منهم يعانون من التقزّم.
لا بيئة لهم في العراق
(الخميس 23 حزيران 2022)، أعلنت وزارة التربية العراقية احصائية لحالات تدخين في المدارس، مؤكدة أن 20% من الطلبة يدخون السجائر. ويقول مدير قسم مكافحة التبغ في وزارة الصحة، عباس جبار، إن "وزارة الصحة أطلقت منذ 10 سنوات مشروع مكافحة التدخين في المدارس بالتعاون مع وزارة التربيةالذي توسع ليشمل جميع المحافظات"، مبينًا أن "المشروع أطلق تحت مسمى مدارس مناهضة للتدخين".
وتقول الباحثة الاجتماعية نادية جعفر، إنه "رغم كثرة القنوات الفضائية العراقية، إلا أنها تكاد تكون خالية من برامج الأطفال، خصوصاً الرسوم المتحركة والبرامج التنموية التي تهدف إلى التربية الاجتماعية والتعليمية وتنمية ذكاء الأطفال، وبدلاً من التركيز على هذه الشريحة المهمة، باتت أغلب القنوات تستهدف اللقاءات السياسية والإعلانات التجارية فقط، مما يشير إلى إهمال واضح لاحتياجات الأطفال الإعلامية".
الباحثة الاجتماعية تشير في حديث لمنصة "الجبال"، إلى أن "هذا الإهمال الإعلامي له تبعات خطيرة على الصحة النفسية والاجتماعية للأطفال"، مبينة أن "تزايد حالات التوحد، الشرود الذهني، وعدم التركيز بين الأطفال في الآونة الأخيرة قد يعود إلى غياب المحتوى الهادف المخصص لهم، محذرة من أن هذه الحالات المرضية قد تؤثر سلباً على حياة الأطفال وعائلاتهم في المستقبل القريب".
تؤكد جعفر "ضرورة تدخل الحكومة لمعالجة هذه المشكلة الاجتماعية المتفاقمة، من خلال إلزام القنوات العراقية بتخصيص وقت مناسب لعرض برامج ترفيهية وتعليمية تلبي احتياجات الأطفال"، مستطردة بالقول: "من المهم إنتاج محتوى هادف مثل الرسوم المتحركة والأناشيد التي تحاكي مشاعر الأطفال وتدعم روحهم المعنوية واستقرارهم العاطفي، لضمان تنشئة جيل متوازن نفسياً قادر على تحمل المسؤولية وبناء عراق سليم خالٍ من الأمراض النفسية والعنف".
وتتابع الباحثة، حديثها إن "الاستثمار في برامج الأطفال ليس ترفاً، بل هو ضرورة تنموية تصب في مصلحة المجتمع ككل"، مؤكدة أن "توفير بيئة إعلامية آمنة ومناسبة للأطفال يعود بالنفع على الصالح العام".
وبحسب المسح المتعدد المؤشرات (MICS6) للعام 2018، التابع لمنظمة "اليونسيف"، يتعرض 4 من بين كل 5 أطفال في العراق للعنف في المنزل أو في المدرسة، على الرغم من انخفاض الأعمال العدائية القتالية، لكنّ ثقافة العنف ما تزال مستمرة.
أسباب غياب برامج الأطفال
وشهدت العقود الماضية اهتماماً كبيراً من قبل القنوات التلفزيونية العربية بفئة الأطفال، حيث كانت برامجهم وقنواتهم الخاصة تشكل جزءاً أساسياً من المشهد الإعلامي، قنوات مثل "سبيستون"، "MBC3"، و"طيور الجنة" وغيرها، كانت تعتبر منصات رئيسة تقدم محتوى تعليمياً وترفيهياً يساهم في بناء القيم وتنمية الخيال لدى الأطفال.
لكن في السنوات الأخيرة، تراجع هذا الاهتمام بشكل ملحوظ، إذ شهدنا تحولات كبيرة في توجهات الإعلام العربي، أصبحت أغلب القنوات موجهة نحو المحتوى العام المخصص للكبار، أو ركزت على المنصات الرقمية دون إعطاء أولوية لتطوير محتوى الأطفال.
هذا التحول أثار قلق العديد من التربويين والخبراء الإعلاميين، الذين يرون أن غياب المحتوى الهادف للأطفال قد يترك فراغاً كبيراً في تشكيل وعيهم وثقافتهم، مما يعرضهم للتأثير السلبي للمحتوى العشوائي المتاح على الإنترنت.
ويقول الصحفي العراقي سيف الحر، في حديث لمنصة "الجبال"، إن "معظم القنوات العراقية أصبحت تركز على المحتوى السياسي والإخباري، الذي يجذب نسب مشاهدة عالية، خصوصاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ما يجعلها تتجاهل فئات عمرية مثل الأطفال الذين يحتاجون إلى محتوى تربوي وترفيهي".
"يشهد المشهد الإعلامي العراقي تراجعاً ملحوظاً في إنتاج وعرض برامج مخصصة للأطفال"، وهو ما أرجعه الحر إلى عدة أسباب رئيسة، منها "غياب التخصيص المالي الكافي لهذه البرامج، التي غالباً لا تحقق عوائد مادية تُغري القنوات بالاستثمار فيها".
ووفقاً لحديث الحر، فإن الوضع الحالي قد يستمر على حاله في ظل غياب خطط استراتيجية تهدف إلى تعزيز هذا النوع من البرامج، لكنه أعرب عن أمله بأن تُبادر بعض القنوات مستقبلاً في تخصيص مساحة للأطفال، لتلبية احتياجاتهم الفكرية والترفيهية، وإعادة إحياء هذا الجانب المهم في الإعلام العراقي.