تتصادم التصريحات وتتباين المواقف بشأن بقاء أو خروج القوات الأميركية من العراق، والذي أصبح مادة رئيسة على طاولات الحوار تتناولها المنابر الإعلامية، في الأيام الأخيرة، مع احتدام المواجهات بين فصائل مسلحة عراقية، والقوات الأميركية التي تقود تحالفاً عسكرياً دولياً على أرض العراق لهزيمة الإرهاب بالمنطقة.
وتتكرّر عمليات استهداف القواعد والأرتال العسكرية الاميركية وتلك التابعة للتحالف الدولي، منذ سنوات وفي مناطق متفرّقة من العراق، خصوصاً إقليم كوردستان. لكن المستجدّ هو اتخاذ أميركا قرار الرد على الهجمات التي تكثّفت تجاهها بعد اندلاع الحرب في غزّة في أكتوبر الماضي، والدخول في دائرة المواجهة المباشرة باستهداف المسؤولين عن تنفيذ تلك الهجمات، منها استهداف سيارة القيادي في كتائب حزب الله ابو باقر الساعدي، مسؤول الدعم اللوجستي في الكتائب، بطائرة مسيّرة وسط العاصمة بغداد، والذي تحمّله القيادة المركزية الأميركية مسؤولية "التخطيط المباشر والمشاركة في الهجمات على القوات الأميركية في المنطقة". هذا التصعيد وضع الحكومة العراقية في إحراج لم يخفه رئيسها محمد شياع السوداني في خطابه، كونه المسؤول الأول عن حفظ سيادة البلاد في جانب وحماية الاستقرار الأمني والسياسي للعراق والعراقيين بجانب آخر، مع أخذ التعهدات والالتزامات الدولية بنظر الاعتبار، فأكد العمل على إنهاء مهمّة التحالف الدولي في بلاده بأسرع وقت. وربما يكون ذلك أنسب خيار بالوقت الراهن لإبعاد العراق عن الانخراط في حرب إقليمية لا منفعة له فيها.
"شرعية الضربات الأميركية ضد الفصائل العراقية"
يصرّ المسؤولون الأميركيون على موقفهم، وتكرر وزارتا الدفاع والخارجية الأميركيتان في بياناتهما وإيجازاتهما الصحفية المتكررة، أن القوات الأميركية متواجدة على أرض العراق بشكل رسمي بطلب من الحكومة ببغداد، وأن واشنطن تواصل العمل بالتنسيق مع الحكومة العراقية في إطار علاقة الشراكة التي تجمعهما.
ترتبط الولايات المتحدّة الأميركية مع العراق بعلاقة صداقة وشراكة طويلة الأمد تؤطرها اتفاقية الإطار الاستراتيجي منذ 2009، وتشمل التعاون في عدّة مجالات، من ضمنها "التعاون فيما يتعلّق بالترتيبات الدفاعية والأمنية دون الإجحاف بسيادة العراق على أراضيه ومياهه وأجوائه"، وهي تنص على أن "يتم التعاون في مجالي الأمن والدفاع وفقاً للاتفاق بين الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية العراق بشأن انسحاب قوات الولايات المتحدة من العراق وتنظيم انشطتها خلال وجودها المؤقت فيه"، ذاك الاتفاق الذي مدّ الجانب الأميركي وقتها بمزايا وصلاحيات واسعة على أرض العراق وكان محل رفض كثيرين. والمقصود هنا "الاتفاقية الأمنية العراقية - الأميركية" لعام 2008، والتي إذا ما رجعنا إليها فسنجد نصاً يؤكد احتفاظ الطرفين بـ "حق الدفاع الشرعي عن النفس داخل العراق كما هو معرف في القانون الدولي النافذ"، وهذا ما تستند عليه واشنطن في شن عملياتها المتكررة، وقد تستمرّ بشنّ ضربات مماثلة على الأساس نفسه. وهنا، لسنا في موضع تبرير الاستهداف الأميركي لمواقع وأطراف عراقية داخل أرض العراق، بل بصدد إلقاء الضوء على نقطة مهمّة يجهلها كثيرون، وربما يتغاضى عن ذكرها آخرون.
"مستقبل الوجود الأميركي في العراق"
أثار اغتيال ابو باقر الساعدي بقلب العاصمة العراقية استياء كبيراً بالوسط السياسي، دفع رئيس الحكومة العراقية والقائد العام للقوات المسلّحة محمد شياع السوداني، للحديث بلهجة جديدة تنذر بدكّ كل التفاهمات القائمة بين بغداد وواشنطن والولوج بمرحلة جديدة، بقوله إن "القوات الأميركية ترتكب كل ما من شأنه تقويض التفاهمات والبدء بالحوار الثنائي، وتهدد السلم الأهلي وتخرق السيادة العراقية. وإن التحالف الدولي يتجاوز تماماً الأسباب والأغراض التي وجدت من أجلها على أرضنا. وإن هذا المسار يدفع الحكومة العراقية أكثر من أي وقت مضى إلى إنهاء مهمّة هذا التحالف الذي تحوّل إلى عامل عدم استقرار للعراق". وقد أكد الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية يحيى رسول موقف العراق الرسمي، في بيانه بعد استهداف الطائرات الأميركية لموقع الحشد الشعبي الأسبوع الماضي في جرف الصخر، الذي وصف الهجوم بـ "جريمة نكراء" من شأنها تقويض آليات العمل الأمني المشترك، وهدد علناً باتخاذ أجراءات قانونية ودبلوماسية ضد الهجوم.
في هذا السياق، توجد مغالطة واضحة بالحديث عن خروج القوات الأجنبية من العراق، فالفصائل المسلّحة تتوعّد وتعد بإخراج الأميركيين من العراق، بيد أن المسؤولين على المستوى الرسمي يشيرون للعمل على إنهاء مهام قوات التحالف الدولي وخروجه من البلاد. ولوسائل الإعلام أيضاً دور في حدوث خلط لدى المتلقي في تناولها للموضوع، فالبعض يتحدّث عن شرعية مطالبة الفصائل المسلحة بإخراج القوات الأجنبية من البلاد، وبعض آخر عن الفترة الزمنية التي يستغرقها خروج قوات التحالف الدولي والإجراءات المطلوبة لذلك، بالمقابل يتناول آخرون مستقبل العراق بعد خروج القوات الأميركية من أراضيه. فهل خروج قوات التحالف الدولي يعني إنهاء الوجود الأميركي في العراق؟..
في الحقيقة، لا، إن إنهاء مهمة التحالف الدولي ضد تنظيم داعش الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية وخروجه من العراق، لا يعني إنهاء الوجود الاميركي في البلد، إذ توجد وقائع عملية واعتبارات سياسية وأمنية يدركها الجانبان تحيل دون اتخاذ هكذا خطوة. فلا يزال العراق بمركز حسابات صانع القرار الأميركي، في إطار التنافس الدولي القائم بينها وبين روسيا والصين التي تتوغل في المنطقة عبر برامج واستراتيجيات مختلفة، كذلك في ظل الأوضاع الراهنة في سوريا ولبنان واليمن. وأميركا مستعدّة لفعل أي شيء يتطلّبه البقاء.
ذلك يؤكده موقف وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي أعرب عن استعداد بلاده لاتخاذ ما يلزم للدفاع عن قواتها ومصالحها بالمنطقة، قال أوستن في أحد تصريحاته الصحفية حول ما تتعرض له القوات الأميركية بالعراق: "لن نتردد أنا والرئيس (جو بايدن) في اتخاذ الإجراءات اللازمة للدفاع عنهم وعن مصالحنا. نحن لا نسعى إلى تصعيد الصراع في المنطقة. نحن على استعداد تام لاتخاذ المزيد من الإجراءات لحماية موظفينا ومنشآتنا". فواشنطن تسعى لبناء علاقة دفاعية دائمة ضمن شراكة استراتيجية مع بغداد، هذا كشفته نائبة مساعد وزير الدفاع الأميركي (دانا سترول) في تصريح أدلت به في اغسطس 2023، خلال أحد جولات الحوار الإستراتيجي بين بغداد وواشنطن.
وتجري بغداد مع واشنطن، منذ إنهاء الولايات المتحدة الدور القتالي لقواتها في العراق عام 2021، حواراً إستراتيجياً، يركز على تعاون ثنائي يطال ما هو أبعد من اتفاق هزيمة داعش، حسب ما ذكرت وزارة الدفاع الاميركية، ويهيّئ معالم اتفاقية جديدة دائمة يطلق عليها اسم "علاقة 360 درجة".
نشرت البنتاغون في بيان بتاريخ 25 يناير 2024، عن وزير الدفاع لويد أوستن، أن المناقشات القائمة بين العراق وبلاده حول إنهاء مهام التحالف الدولي، "ليست مفاوضات بشأن الانسحاب الأميركي من العراق"، وأن "الولايات المتحدة والعراق سيواصلان العمل معاً لتشكيل الوجود العسكري الأميركي المستقبلي وضمان قيادة عراقية دائمة لهزيمة داعش"، وذلك يفنّد جميع المزاعم بانتهاء الوجود الأميركي في العراق قريباً، على الأقل من جانب الولايات المتحدة.
أما في العراق، فيهيمن انقسام واضح بالمستويين الرسمي والعام بشأن بقاء القوات الأجنبية (الأميركية)، إذ تشدّد أطراف على أن العراق أصبح قادراً على ضبط الأمن وحماية نفسه بنفسه وانتفاء السبب لوجود القوات الأميركية، ترى أطراف أخرى للولايات المتحدة دوراً مهماً في ضمان الأمن والحفاظ على الاستقرار القائم بالبلد، خصوصاً في المرحلة الراهنة، في ظل وجود خلافات وتباينات بين الأطراف (الشيعية، والسنية، والكوردية)، بشأن ملفات كثيرة حول إدارة البلاد.
وكان للولايات المتّحدة الأميركية دور يصعب التغاضي عنه في تحقيق الاستقرار السياسي والحفاظ على الوضع الراهن بالعراق، بعد عام 2003، عبر تقديم صور مختلفة من الدعم وخلق نوع من التوازن بين الأطراف السياسية التي تقلّدت حكم البلد، وانشدّت لأتون حرب أهلية استنزفت دماء ولحمة العراقيين لسنوات. وتدرك الحكومة العراقية أن خروج الولايات المتّحدة الأميركية من البلاد الآن وخلخلة العلاقات معها سيؤثر بالتأكيد على شكل وكم الدعم السياسي المقدم من الدولة العظمى لبغداد ما ينعكس بالتالي على الاستقرار بمستويات مختلفة، إذ تلزم علاقة الصداقة والشراكة التي ولدت من رحم اتفاقية الإطار الاستراتيجي، الولايات المتّحدة ببذل "اقصى جهودها للعمل ومن خلال حكومة العراق المنتخبة، من أجل دعم وتعزيز الديمقراطية والمؤسسات الديمقراطية في العراق التي تم تحديدها وتأسيسها في الدستور العراقي، وتعزيز قدرة العراق على حماية تلك المؤسسات من كل الأخطار (الداخلية) و (الخارجية)".
وقد يكلف الخروج الأميركي العراق خسائر اقتصادية جمّة، مالم يتحقّق باتفاق، بوجود التزامات مالية كبيرة على العراق لأميركا تتمثّل بديون وفوائدها، وكان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قد لوّح بذلك إبان مطالبة بعض القوى السياسية بإلغاء اتفاقية الإطار الاستراتيجي وخروج القوات الأميركية من العراق عام 2018، وهدّد بأنه في حال مطالبة الحكومة العراقية القوات الأميركية مغادرة أراضيها بعد القضاء على داعش فيتوجب على البلد تسديد المبالغ المترتبة عليه مع فوائدها إضافة إلى تكلفة حرب عام 2003 البالغة ترليون و100 مليار$. ناهيك عن احتمال قيام الدولة العظمى بفرض حصار اقتصادي خانق على العراق بتهمة دعم "الإرهاب"، يدفع البلاد لوضع أقسى من ذلك الموجود في إيران وسوريا، وهو ما يخاف منه الكثيرون.
فالحديث عن إنهاء الوجود الأميركي بالعراق يضعه بين خيارين، إما الحفاظ على علاقة الصداقة والشراكة مع أميركا بكل ما تتضمّنها لضمان الاستقرار بصورته الحالية، او الاستجابة للمطالب بإخراج الأميركان ووضع البلاد تحت تهديد الانهيار وإعادة العملية السياسية إلى نقطة الصفر، من حيث بدأت قبل 20 عاماً.