يحتفل مسيحيو العالم في 25/ 12 من كل عام بذكرى ميلاد السيد المسيح، حسب التقويم الغربي، لكن طقوس العيد بمنطقة الشرق الأوسط هذا العام مغايرة وللعام الثاني على التوالي لما هي عليه في باقي أجزاء العالم، مع هيمنة أجواء الحرب في غزّة والتحوّل السياسي الذي تشهده سوريا، فضلًا عن أوضاع لبنان، بالإضافة إلى القلق الذي يسود أبناء الطائفة المسيحية في العراق.
مسيحيو العراق يحيون العيد رغم التحدّيات
تعتبر الديانة المسيحية من أقدم الديانات في العراق، والمسيحيون من أبرز مكونات البلد المتعدّد الألوان والأديان إلى جانب المسلمين (السنّة والشيعة) واليهود والصابئة والأيزيديين والبهائيين والكاكائيين، وهم تعرّضوا إلى جانب مواطنيهم لأضرار كبيرة خلال السنوات الماضية جراء الحرب والعنف الطائفي والهجمات الإرهابية التي شهدتها البلاد. ورغم التحديات، يتمسك عدد كبير منهم بجذوره المتعمقة وبتقاليد وأعرافه التي نشأ عليها متحدّياً بذلك الصعاب التي يرى كثيرون أنها تهدّد وجودهم.
وعشية عيد الميلاد، قرعت أجراس العيد وأنيرت الكنائس في مدن ومناطق متفرقة من أنحاء العراق، مبشرة بحلول المناسبة الدينية للمسيحيين.
وأحيت كنيسة "سيدة النجاة" في العاصمة العراقية بغداد، قداس عيد الميلاد، مساء الثلاثاء، وسط طقوس وشعائر خاصة بمشاركة مئات المسيحيين.
وحضر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مراسم المناسبة الدينية، بالعاصمة، مهنّئاً جميع المسيحيين بعيدهم.
كما شارك السوداني، صباح اليوم الأربعاء، عوائل عراقية من الطيف المسيحي ببغداد، احتفالاتهم العائلية بمناسبة عيد الميلاد، حيث اطلع على أحوالهم المعاشية ووزع هدايا العيد التذكارية للأطفال.
صلوات على أنقاض العنف
وفي نينوى، التي لا تزال آثار العنف والإرهاب ثابتة على جدرانها ومبانيها، أقامت كنيسة "الطاهرة الكبرى" القديمة والشهيرة التي نالت نصيبها من الدمار قداس عيد الميلاد، عشية الاحتفال بذكرى مولد رسول الديانة النصرانية، حيث أحيا آلاف المسيحيين هذه المناسبة بطقوس دينية وصلوات في مختلف الكنائس.
خلال الطقوس أعرب المصلون عن أمانيهم وآمالهم بانتهاء كل أشكال العنف وسيادة السلام في العالم، داعين بالرحمة لضحاياهم ولقاء أحبائهم الذين تفرّقوا عنهم بسبب العنف والحرب.
توني توما، مواطن عراقي من الديانة المسيحية، قال لمنصة الجبال بهذا الخصوص إن "من أبرز التحديات التي نواجهها كمسيحيين في العراق هي الهجرة الجماعية التي باتت تستنزف وجودنا السكاني بشكل مقلق على مدى العقود الأخيرة"، و"هذا النزيف المستمر لا يقتصر على تقليل الأعداد في العراق، بل يضعف تأثيرها في المشهد الاجتماعي والسياسي العراقي".
فيما تشير هيا إيمنويل، وهي أيضاً عراقية من الطائفة المسيحية وكانت تسكن مدينة الموصل، إلى إنه "رغم التحسن النسبي في الوضع الأمني، إلا أن آثار الماضي لا تزال تُلقي بظلالها على المسيحيين عموماً، الذين تعرضوا بالسنوات السابقة لتهديدات مباشرة من الجماعات الإرهابية مثل (داعش) والتي استهدفت المجتمع واستولت على الممتلكات، الأمر الذي أجبرهم على النزوح من المناطق التاريخية في الموصل وسهل نينوى"، وذكرت في حديث للجبال أن "العديد منا لم يتمكن من العودة حتى الآن بسبب الدمار الكبير الذي طال البنية التحتية والمنازل، فضلًا عن الأعباء النفسية التي خلّفتها تلك التجارب، كما أننا نواجه تحديات كبيرة في استعادة ممتلكاتنا التي استولي عليها بطرق غير قانونية، سواء من قبل جماعات مسلحة أو أفراد استغلوا ضعف القانون بتلك الفترة".
البصرة رمز للتعايش
وفي البصرة، أقصى جنوب البلاد، كان الاحتفال مختلفاً، حيث أقيم قدّاس العيد في "كاتدرائية القلب الأقدس للسريان الكاثوليك"، وأقام المطران أثناسيوس فراس دردار، بطريرك البصرة والخليج، الصلاة وسلّم "القربان المقدس" للحاضرين.
جرت المراسم بحضور المئات من المسيحيين، ومسلمين أيضاً شاركوا أصدقائهم واحبائهم المناسبة بحضور القدّاس وإيقاد مئات الشموع، والوقوف أمام مزار السيدة مريم العذراء، مؤكدين بذلك صورة من صور التعايش القائم بين كافة أبناء العراق.
لا يقين في سوريا
يأتي العيد هذا العام مختلفاً خصوصاً بالنسبة لمسيحيي سوريا، الذين تجتاحهم مخاوف جمّة مع تسلم سلطة جديدة إدارة البلاد وإطاحة النظام السابق الذي قدم نفسه حامياً للأقليات على مدار سنوات.
يتنفس ملاييين السوريين الصعداء بسقوط حكم بشار الأسد، متحررين من حقبة طويلة اتّسمت بالتزمّت السياسي وتضييق الخناق على الحريات (حسب قول السوريين)، لكن التغيير لم يجر بما يشتهي البعض وقد أرفق صعود الإدارة الجديدة قلق كبير خصوصاً لدى الأقليات في البلد، الذين يقولون أنهم "يعانون التهميش وباتوا يخشون فقدان حرياتهم الدينية".
واحتفل مسيحيون سوريون في العاصمة دمشق، الثلاثاء، بعيد الميلاد في كنيسة "الروم الملكيين الكاثوليك". وبدأ أبناء المكون بالتوافد إلى الكنيسة الواقعة في دمشق القديمة منذ ساعات المساء، حيث بدأت جوقة الكنيسة تجول في الساحة وهي تغني الترانيم، في حين قرع الكشافة جرس الكنيسة معلنين بدء القداس، حسب وكالة الأناضول.
وصعد بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك (يوسف العبسي)، إلى المنبر، ودعا من أجل "إحلال السلام والوحدة والعيش المشترك والحوار في سوريا".
وذكر أحد كشافة الكنيسة "كما نحتفل بميلاد السيد المسيح، سيكون هناك ميلاد لسوريا جديدة، فزوال النظام بعد عقود هو ولادة جديدة للبلاد وحياة جديدة". فيما تقول عفاف عكا، ذات 58 عاماً، أن عيد الميلاد معناه "النور والأمل وبداية حياة جديدة وولادة السلام والصدق، نأمل أن يبقى ما حدث في الماضي في الماضي"، مضيفة: "فقدنا الكثير من الشباب والناس رحمهم الله. لا نريد الانتقام. دعونا جميعا نعيش معا في سلام".
كما دقت أجراس العيد في حلب، ثاني أكبر المدن السورية، واحتفل المسيحيون هناك بعيد الميلاد في مطرانية السريان الأرثوذكس.
يأتي ذلك بعد أن خرجت تظاهرات في الكثير من أحياء دمشق المسيحية، ليل الإثنين/الثلاثاء، ردد خلالها المشاركون هتافات عدة بينها "نريد حقوق المسيحيين"، هذا بعد انتشار مقطع مصوّر على شبكات التواصل الاجتماعي يظهر فيه مقاتلون ملثمون وهم يضرمون النار بشجرة عيد الميلاد في مدينة سقيلبية التي تقطنها غالبية من المسيحيين الأرثوذكس في حماة.
ومع تقدّم قوات المعارضة السورية من حلب باتجاه دمشق، وجّه زعيم "هيئة تحرير الشام" وقائد الإدارة السورية الجديدة حالياً، أحمد الشرع، رسائل طمأنة إلى الأقليات، بينها المسيحية.
وفي أول عظة له بعد وصول السلطة الجديدة إلى دمشق، قال بطريرك انطاكيا وسائر المشرق للروم الارثوذكس، يوحنا العاشر، وفق شريط فيديو تم تداوله على نطاق واسع إن "الضامن الأول والأخير هو الدستور"، داعياً لأن "تكون عملية صياغة الدستور عملية وطنية شاملة وجامعة" لكل المكونات التي تشكل النسيج السوري.
عيد برائحة الدم في فلسطين
وسط أجواء الحرب، وفوق أكوام الجثث والركام، احتفل المسيحيون الفلسطينيون في قطاع غزة، بالمناسبة الدينية.
واجتمع مئات المسيحيين، ليلة الثلاثاء، في كنيسة العائلة المقدسة "دير اللاتين" بمدينة غزّة للاحتفال بالعيد. واقتصرت الشعائر على أداء الصلوات داخل الكنيسة في ظل الظروف الصعبة واستمرار العدوان الإسرائيلي على مناطقهم.
لم يسلم مسيحيو قطاع غزّة من الحرب الإسرائيلية وغاراتها العنيفة، حيث تعرضت كنيسة "القديس برفيريوس" لقصف في 19 تشرين الثاني 2023، أسفر عن مقتل 18 فلسطينياً معظمهم أطفال ونساء. وخلال الحرب، تضررت ثلاث كنائس بشكل كبير، كذلك استهدف الجيش الإسرائيلي المركز الثقافي الأرثوذكسي في حي الرمال الجنوبي غرب مدينة غزة.
وفي بيت لحم جنوب الضفة الغربية، ترأس، بطريرك القدس للاتين بييرباتيستا بيتسابالا، قداس منتصف الليل في "كنيسة المهد" بمناسبة عيد الميلاد، وأعرب بيتسابالا عن تضامنه مع الفلسطينيين في قطاع غزة لما يعانيه من تدمير وقتل.داعياً إلى "توطيد العدل، وأن يعم السلام الجميع".
وفي كلمة ألقاها بهذه المناسبة، قال: "أرِيد أن أَشكر إخوتنا في غزّة، أوكد لكم صلاتنا وقربنا وتضامننا فأنتم لستم وحدكم. أنتم واقع مرئي للرجاء وسط الكارثة والدمار الشامل الذي يحيط بكم، ولكنكم لم تيأسوا بل بقيتم متحدين راسخين في الرجاء.. شكراً لشهادتكم الرائعة التي تدل على القوة والسلام".
وأضاف بيتسابالا: "فكري يذهب لكم ايضاً أيها الأخوة والأخوات في بيت لحم، هذا العام أيضاً كان العيد حزيناً يحمل في جعبته القلق والفقر والعنف، عشتم مرة أخرى اليوم الأهم لكم بطعم المعاناة وانتظار أيام أفضل".
وللعام الثاني على التوالي، تحيي مدينة بيت لحم عيد الميلاد دون مظاهر احتفالية معتادة، حزنا على قطاع غزة، إذ غابت عن المدينة وكنيسة المهد التي يعتقد أنها شيدت على المغارة التي ولد فيها السيد المسيح أي من مظاهر الاحتفال، واستعيض عنها بالصلوات والدعوات من أجل وقف الحرب.
ومنذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 تشنّ إسرائيل حرباً مدمّرة في غزة، خلّفت أكثر من 153 ألف قتيل وجريح فلسطينيين، وما يزيد على 11 ألف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنين.