في منزلها بمدينة حلب، حضنت بحرية بكور ابنها محمّد طويلاً وتشاركا الدموع فرحاً بلقاء طال انتظاره، بعدما أتاح خروج المدينة عن سيطرة القوات الحكومية إثر هجوم مباغت لفصائل معارضة، عودته.
وتقول بكور ذات الـ (43 عاماً) بينما لا تنفكّ تعانق ابنها "كنت أحصي الدقائق والساعات لرؤيته. لم أتوقع أن يحصل ذلك. كنت أخال أنني سأموت قبل رؤيته".
وكان محمّد جمعة (25 سنة) في عداد عشرات آلاف من سكان المدينة ومقاتلي المعارضة الذي تمّ إجلاؤهم نهاية عام 2016 إثر اتفاق تسوية كرّس سيطرة القوات الحكومية على المدينة كاملة، بعد أن كانت فصائل معارضة تسيطر على أحيائها الشرقية منذ عام 2012.
بعد هجوم هيئة تحرير الشام وفصائل معارضة في شمال سوريا، وسيطرتها على غالبية أحياء مدينة حلب ومناطق مجاورة، عاد محمّد الذي كان استقرّ في عفرين الواقعة على حوالى أربعين كيلومترا من حلب، حيث كان يعمل على صهريج لنقل المياه، إلى مسقط رأسه.
وتضيف الوالدة "الحمدلله أنني رأيته.. وكأن الدنيا كلّها ضحكت لي".
في غرفة متواضعة ذات جدران اسمنتية، تجلس بكور مع ابنها على مقعد وحيد، تمسك يديه وتقبلهما من دون توقف. وتقول بتأثر: "الله وحده يعلم فرحتي"، وتضيف: "نذرت أن أصوم لسبعة أيام، وأقدم الطعام في بيتي لسبعة أيام، وأن أقبّل الأرض التي داس عليها، إن عاد إليّ".
في زقاق أمام المنزل، يجلس أقارب وجيران توافدوا للتهنئة، يسألون الشاب عن أحواله ويتحدثون عن التطورات الأخيرة في المنطقة.
"نغصة"
وكان الآلاف من معارضي الرئيس بشار الأسد، لا سيما المقاتلين، فضّلوا التسوية في العام 2016، وتمّ إجلاؤهم إلى مناطق مختلفة خارجة عن سيطرة القوات الحكومية، على البقاء في حلب.
في منزل العائلة في حلب، يراقب جمعة الذي ارتدى سترة عسكرية ولفّ رأسه بكوفية حمراء وبيضاء، والدته ترحّب بالضيوف، ويقبّل يديها بدوره. ويقول: "خرجت من حلب عندما سيطر النظام عليها. كنا نعلم أنه لا يمكننا البقاء فيها لأنه يصنفنا كإرهابيين. حوصرنا وخرجنا من حلب".
ويوضح الرجل القوي البنية وهو أب لأربعة أطفال "لا أصدّق حتى الآن أنني عدت إلى حلب.. أهلي كلهم هنا"، متابعاً "إنها فرحة لا توصف".
وأحكمت القوات الحكومية سيطرتها على المدينة عام 2016، بعد سنوات من المعارك تخللتها غارات كثيفة وحصاراً خانقاً انتهى بإجلاء 35 ألف شخص بين مقاتلين ومدنيين، وفق اللجنة الدولية للصليب الأحمر حينها.
وتوجّه المغادرون إلى ريف حلب الغربي حيث توجد اليوم سيطرة لفصائل موالية لتركيا وإلى محافظة إدلب المجاورة التي أصبحت في ما بعد معقل هيئة تحرير الشام وفصائل أخرى تنفّذ الهجوم المستمر منذ أيام ضد القوات الحكومية.
ومنذ ذاك الحين، لم يعد جمعة إلى مدينته التي يقول إنه وجد "شوارعها قد تغيّرت قليلاً"، لكنها تبقى "بلدنا: أرضنا هنا وقلعتنا هنا".
إلا أن فرحة اللقاء ينغّصها غياب والده الذي يقول إن قوات النظام اعتقلته بعد بسط سيطرتها على المدينة، موضحاً "ما أتمناه الآن فقط هو عودة أبي.. لا نعرف شيئاً عنه".
"اللحظات الأسعد"
بين العائدين أيضاً أحمد عرابي (35 سنة)، نزح من حلب قبل سبع سنوات باتجاه محافظة إدلب مع زوجته وطفلته الرضيعة أسيل.
لكن ضراوة الغارات حينها على المنطقة حيث يقيم حالياً أكثر من خمسة ملايين شخص، العدد الأكبر منهم نازحون، دفع بزوجته إلى العودة مع طفلته إلى منزل عائلتها في حلب.
لم يظنّ الناشط الإعلامي المعارض أن غربته ستطول إلى هذا الحد. وهو يقول: "بعد التهجير، كانت العودة بمثابة حلم.. عندما بدأت المعارك، لم أنتظر. كنت أود رؤية ابنتي"، مضيفاً: "قبل يوم من المعركة، تحدثت معها عبر الفيديو. في اليوم التالي قرّرت أن أنطلق. لم يكن الطريق ممشطاً بشكل كامل. وصلت إلى الحي وبدأت مناداتها باسمها. عندما شاهدتها، كانت أجمل لحظة أعيشها".
ويتحسّر عرابي على السنوات الماضية. "لم أعش مشاعر الأبوة، لم أتمكّن من عناقها وتقبيلها على مدى سنوات".
واصطحب عرابي طفلته التي لا تفارق الابتسامة وجهها وهي ترتدي ثياباً ملونة وتحمل حقيبة من القش، إلى حديقة في حلب. كان يحملها ويقبلها حيناً، ثم ينتظرها وهي تلعب بينما تعلو حولهما قهقهة أطفال وزحمة رواد.
لكن في أنحاء أخرى من المدينة، تفتقد الشوارع زحمتها الاعتيادية ويطغى شعور بالقلق، إذ يخشى سكان من تدهور الوضع، أو من تعرضهم لمضايقات من الفصائل المعارضة.
وقال مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا غير بيدرسن، الثلاثاء خلال جلسة لمجلس الأمن حول سوريا، إن التطورات الأخيرة في البلاد "تثير ردود فعل مختلفة بين الشعب السوري، فهي تشكّل تهديداً خطيراً بالنسبة للبعض، وهي مؤشر أمل بالنسبة لآخرين"، داعياً إلى خفض التصعيد وإلى حل سياسي للنزاع.
أما عرابي فيتمنى أن تتذكّر ابنته يوماً ذهابها إلى الحديقة مع والدها حيث "لعبنا والتقطنا الصور، هذه أسعد لحظات بالنسبة للأب". ويضيف "حلب حلم لكل حلبي.. لكل شخص يعيش في الخارج وعاد.. حلب أم وأصالة وهي تستقبل الجميع".