يكتب الشعر أحياناً تاريخ الشعوب ويقدم تصوراً عن ما يمرون به، إذ أنه من جلد الألم والمعاناة يرسم كلمات لا يمكن أن تنسى، ولكن السؤال الذي يطرح عند الأزمات الكبرى: ما هي النصوص التي تخرج بعد دوي الانفجارات وتناثر أشلاء الناس؟ كيف يجلس الشاعر ويكتب نصاً شعرياً في أوقات الحرب، كيف يتحول هذا الموت إلى كلمات، وكيف يكون الشاعر شاهداً على الدمار والخسائر الفادحة التي تتسبب فيها الحروب؟
وفي خضم الدمار والحرب الذي تعيشه المنطقة، خاصة في غزة ولبنان، تفاعل شعراء عراقيون منذ أكثر من عام مع الحدث من خلال نصوصهم وآرائهم ومواقفهم وأدوارهم الثقافية.
الحاضر الدائم في القضايا الكبرى
ويتحدث الشاعر عباس ثائر لـ"الجبال"، عن "أهمية دور الشعر في الحروب والصراعات، معتبراً إياه "سلاحاً، لأنه في الوقت الذي يمكن أن يكون خنجراً في يد المقاوم، إلا أنه يمكن أن يكون أيضاً بمثابة ضمادة تداوي الجروح وتبعث الأمل في القلوب".
ويرى ثائر أن "الشعر كان ولا يزال حاضراً في كل القضايا الكبرى، وأنه يشبه الدعاء والابتهال في أوقات اليأس والقنوط، عندما تخبو حدة البنادق وتشتد وطأة العدو".
ويخلص ثائر إلى القول بأن "الشعر، رغم أنه لا يحمل في طياته قوة البندقية، إلا أنه يمنح الأمل والتفاؤل للمظلومين، ويجعلهم يشعرون بأنهم ليسوا وحدهم في معركتهم، وأن هناك من يناصرهم ويؤازرهم حتى ولو بالكلمة".
لكنّ الشاعر العراقي، علي رياض، يعتقد أن "مهمة الشاعر في زمن الحرب هي ركن الشعر إلى جنب قليلًا، واستخدام مهارات الشعر في صياغة خطاب توعوي خارج هيكل القصيدة"، إذ يرى بأن "ترف قراءة الشعر (قد نستثني منه ما يمس صلب موضوع الحرب) هو لأيام أكثر استقراراً".
"هناك شعور بالخجل"
وشهد قطاع غزة المحاصر، حدوث مجازر يومية منذ أكثر من عام، وتم استخدام قرابة الـ٨٥ ألف طن من المتفجرات، وكانت المجازر بمثابة تلفاز مفتوح على العالم أجمع، ولكن شرارتها لم تحرق أحداً غير أهالي غزة، فهل من الممكن أن تخرج قصيدة من عمق مجزرة ما؟
يقول رياض لـ"الجبال"، إن "مجزرة رفح الأولى حين قصفت خيم النازحين، ومجزرة قصف المستشفى المعمداني، كانتا الأكثر تأثيراً بحاجته لكتابة الشعر".
وأعرب رياض عن "شعوره بالخجل حيال استثمار هذا الكم من الموت شعراً"، مؤكداً أن "الشعور بالفخر باستثمار المعاناة الشعرية لا يتحقق إلا إذا كان في قلب المشهد ويمسه ما يمس الآخرين".
في حين يرى عباس ثائر بأن "لا قصيدة تفي حق الإنسان، ولا قصة تستوعب هذه المأساة الكبرى"، قائلاً إن "كلّ شهيد يسقط هو مجزرة بحد ذاتها، وهو ما يدعو إلى ضرورة أن يحاكم العالم برمته لصمته وخذلانه وسكوته".
"الحرب أقسى من الفعل الثقافي"
وفي ظل تصاعد العدوان بشكل مستمر منذ 7 أكتوبر وإلى الآن، يتساءل ثائر عن ما يمكن أن يفعله الشعر بأجواء لا لغة فيها غير لغة الطائرات والصواريخ، "فهل تقدر القصيدة أن تكسر حصاراً وهل بإمكان النص الأدبي أن يردع القبة الحديدية؟!"، مضيفاً: "ليس بإمكان الشعر أن يأخذ مكاناً غير مكانه، ليس بإمكانه أن يكون علاجاً للاختناق ولا ضماداً للجروح. كلّ له دوره الطبيعي ولا يمكن أن يأخذ الآخرُ دورَ الآخر"، مشيراً إلى أنه "أفضل أن لا يأخذ الشعر دور السلاح لئلا يُصبح سلاحاً فيما بعد ونُقتل به ثانيةً".
ويرى علي رياض، أن "هذه الحرب أقسى من أن يكون الشعر سلاحاً فيها، وإن كانت الأكثر حقاً وعدلاً على الإطلاق".
ويقول الشاعر العراقي، إبراهيم الماس، لـ"الجبال"، إن "الرصاصة بيد المقاوم تأتي قبل الشعر، لكن الشعر هو ما يذكي فعل المقاومة".
"الشعر كفعل لرفض التطبيع"
وما يزال التطبيع من القضايا الشائكة التي تشغل بال المثقفين في منطقة الشرق الأوسط، فالشعر، بوصفه مرآة تعكس الواقع، لا يمكن أن يتجاهل هذه القضية، وقد كانت قصيدة لا تصالح لأمل دنقل تذكيراً دائماً برفض التطبيع، فهل ما يزال الشعراء صوتاً للشعوب التي تعاني من الظلم الاحتلال؟
وفيما يقول ثائر إن "الجوائز التي تقدمها بعض الدول تشتري الأديب والشاعر بشكل خاص"، يعرب الماس عن "أسفه بعدم وجود شعراء في الساحة العربية يرفضون التطبيع"، فيما وصفهم بـ"المتسابقين الرماديين الذين يكتبون الشعر".
لكن رياض يعتقد أن "رفض التطبيع الآن يجري بصواريخ ورصاص المقاومين في فلسطين ولبنان ومن العراق واليمن، مؤكداً بأن "هذا العالم يعرف لغة النار فقط، ويجهل كل لغة أخرى"، على حد تعبيره.
وأدناه، اخترنا بعض نصوص الشعراء العراقيين وكيف تفاعلوا مع العدوان على غزة.
ولَدٌ أبُّ
عباس ثائر
جاءَ من أقصى فقدِه،
لبسَ سّترةَ أبيه، صدّقها فصار أبًا.
يرتدي سّترته وبنطاله،
وخاتمه العقيق، وساعته،
ولمْ تفارقْهُ لحظةً مسبحتُه،
كلّما رصدَ أمَّه وإخوتَه الصغار ينتظرونه
ضخّم صوتَه، وحرّكة مسبحتَه مثل أبيه،
وقال: ها أنا عدتُ يا أحبتي.
يراجعُ مسدسًا قديمًا، في غرفته،
يدهنّه لئلا يشيخَ يومًا أمامه.
لئلا يشيخَ ثأرُه أيضًا
كان يلبسُ حياةَ أبيه، معتقدًا:
الآباءَ لا يأخذونَ حياتَهم عند الرحيل،
يتركونها معلّقةً في البيوت، ربّ ابنٍ يرتديها.
مرةً، التقطتْ أمُه صوتًا يندلقُ من حُلمِه:
أمان
أمان
أمان
أما زلتم تعشقون اللونَ، تُعَقِّلون البحرَ إذا جنَّ؟
أما زلتم تَصحبون النّهرَ أنى ثقفتموه؟
- صرتُ أشبه أبي.
مذ تسلّلت إلى حُلمِه، وهي تسقي نبتةً
قد عافتها قبلَ ذاك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بديهيات
علي رياض
لست مغيباً
وأعلم أن حجر انتفاضة عام ١٩٨٧ لم يثقب دبابة
وأن طائرة مسيرة في السماء
تملك تكملة هذه القصيدة بخاصية النص التنبؤي
وأن رشاشاً بيد مقاتل، تلك صورة لحرب بين زمانين
وأن إسرائيل تحمل بيدها remote control العالم.
لست مغيباً
لأن خوض المستحيل رياضة
لقد فاز اليونانيون في كأس الأمم الأوروبية مثلما فازوا على الأخمينيين
بعدما انحازت الأرض مرتين إلى أصحابها
ولأن الحفاة اقتحموا الباستيل
ولأن بعض الشعراء مقاتلون
ولأن جلَّ الشعراء مجانين
ويحق للشعراء ما لا يحق لغيرهم
لست مغيباً
لأن الكرامة شرط أن يعيش الرجال أو يموتون لأجلها
وهذا يوافق فلسفة صنّاع الذكاء الاصطناعي وملّاك أزرار الحضارة الانتقائية
ولأن نصف الفناء انتصار
ونصفه الآخر هزيمة منقوصة، ما دام القماش الأبيض محظور على السارية
ولأن حكايات البطولة تبقى، ولأن حكايات البطولة معدية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اليوم السابع
إبراهيم الماس
*********
اسمي محمد
أنا وادٍ بين دمعتين
وأمّي هاجر ...
أقفُ تحت المزنة التي تأتي من البحر الأبيض ،
أرميها بما لديّ من حَجَر ونار
وأهلي مشرّدون كقبائلِ الأزهار على جوانب الطرقات .
* * *
أنا من «مرج ابن عامر»
فقدتُ إخوتي مرّتين ؛
مرّةً في القتال
ومرّةً في النداء !
أنا محمّد
قميصي عطش
ولحمي يتفجّرُ كالعشب على الحُطام !
* * *
في اليوم السابع
طلعتُ من أعماقِ الأرض ...
ولساني كيسُ نظراتٍ تناثر على الرمل!
****
هائنذا
عند حائطٍ مائل كالشاهدة
أقلّب ليلي بالعود ؛
قلبي حارّ كنار الطائيين
قلبي كبير كالقِدر على أثافي الأديان .
* * *
لقد جئت من «مرج ابن عامر»
إلى عسقلان .
لا تأخذوني بجريرة الأنبياء
لا تأخذوني بعُصارةِ الحناءِ على متنِ الحصان
وخذوني مأخذ القبّرة أمام العاصفة .
* * *
إسمي محمّد
ركزتُ خيمتي في الفَقْد ، خيمتي تقطر ...
طوالَ الشتاء
أكنسُ الخرائط من أمام أوتادها
فتسيل النجومُ مع المطر والفسفور.