عصر الثقافة في العراق.. الظلام تنشره صيحات الإقصاء

6 قراءة دقيقة
عصر الثقافة في العراق.. الظلام تنشره صيحات الإقصاء شارع المتنبي

عودة للأمراض الديكتاتورية

تتمثل جذور الدكتاتورية في العراق بأشكال تعبيرية لا تقتصر تعبيراتها في وسط سواء كان عسكرياً أو ثقافياً على حد سواء، لأن رواسب الطغيان والاستبداد لم تعالج وبقيت تكبر مثل طوفان، والمشكلة أن الفعاليات السياسية إذا تخلّت عن تقديم العلاج لهذه الأزمة، فإنّ هذا الطبيعي نتاج العطش نحو السلطة، لكن الأوساط الثقافية حين تكون ديكتاتورية، يكون الأمر صادماً، لأن ما معنى الثقافة دون حرية؟

ومن الظواهر التي تثبت ما ننوي الحديث به، هو ظهور رئيس المجمع العلمي، محمد آل ياسين، وهو يصف من ينتقد عمل الاتحاد العام للأدباء والكتاب بـ"الكلاب النابحة"! يأتي هذا التصريح بعد أن تحدث عديدون عن عمل اتحاد الأدباء وسيطرته على المشهد الثقافي، فضلاً عن قربه من السلطة، وانجرافه في طريق تكميم الأفواه.

الحديث عن "الكلاب النابحة"، يعتبر تحقيراً صريحاً للأدباء والنقاد، وهذا يدخل ضمن إطار الشتائم، لكن الأهم، هو رفض صريح للحوار والنقاش، والآراء التي ينزعج منها البعض. وبرأيي، كلما زادت عملية تكميم الأفواه، كلما برزت الأزمات الثقافية، والسكوت عن أفظع الظواهر التي تنتشر في كل مفاصل الحياة العراقية.

هل يمكن أن نعيد الأفكار الطبيعية إلى الكتابة ونقول إنّ اعتبار النقد بمثابة "نباح" هو تقييد للحرية؟ وهو تأسيس لمرحلة جديدة تجعل الوسط الأدبي مبنياً على المجاملات وحفلات النميمة، بدلاً من النتاج الحر؟

في هذا المسار، لا عجب أن نرى شعراء منبوذون لمجرد أن لهم أي رأي يجب أن يقال ويسمع، ولكنه مزعج بالنسبة للماسكين ببعض المؤسسات الثقافية والقريبين منها.

يزعم آل ياسين أن العصر الحالي يشهد ازدهاراً ثقافياً ويصفه بـ"العصر الذهبي"، وعلى ما يبدو أن رئيس المجمع العلمي يعتقد أننا في عصر "هارون الرشيد" والمفارقة بأنه المشرف على "بيت الحكمة" في بغداد، إذ أنّ بيت الحكمة كان مؤسسة علمية وثقافية فريدة من نوعها في ذلك العهد، وساهمت في ترجمة الأعمال العلمية والفلسفية من اللغات الأخرى إلى العربية، وأنتجت العديد من العلماء والمفكرين، أما "بيت الحكمة" الذي يشرف عليه  آل ياسين الآن، فربما تجلت مهمته في وصف الأصوات المختلفة بـ"النابحة". 

 

 

منذ سنوات يتأرجح الوسط الأدبي ـ الثقافي بين نزول وصعود، لكن منذ تسنم محمد شياع السوداني منصبه كرئيس الوزراء، وبدأت الأذرع السلطوية تتمدد داخل هذا الجسد، بعد أن رمى الرئيس شباكه في هذا البحر الكبير، ليستجيب من استجاب، حتى تحول الاتحاد العام للأدباء والكتاب إلى أداة سلطوية، والمفارقة أن خوفه من الانتقادات ليس لأنه يعتبر جزءاً من الحركة الثقافية والأدبية في العراق ومن المساهمين بتحريكها، بل بوصفه سمكة في حوض السلطة المغري، وعلى أية حال، فإنّ الخوف من الانتقاد هو ضعف، وتذكر بما قاله نزار قباني حين وصف الثقافة التي تخاف على نفسها من هجمة قط الجيران بثقافة فئران!

في زمن يُزعم أنه عصر ذهبي للثقافة، تتحول أرقى المحافل الأدبية إلى ساحة للمساومات والمحسوبيات، فهل حقاً نعيش عصر نهضة أم عصر انحطاط وتراجع على كل المستويات؟ وعلى سبيل المثال؛ يُفترض أن يكون مهرجان المربد، كأحد أهم الأحداث الثقافية في العراق،  إلا أن الواقع يختلف تماماً، فقد تم حذف العشرات من أسماء المدعويين واستبدالها بـ"فضائيين"، كي ينعموا بسفرة إلى البصرة وغرفة فاخرة في فنادقها.

وبين الحين والآخر تطفو على السطح الكثير من القصص عن التجاوزات والمحسوبيات التي تشوب هذا المهرجان الذي طالما كان له اسمه الكبير في الوسط الأدبي، عراقياً وعربياً، وهي قصص تقدم تصوراً واضحاً عن الحراك الثقافي في العراق، وأنه ليس في عصره الذهبي!

ليس ذلك وحسب، هل سمعتم عن محاولة تكريم الأديب العراقي التي جاءت على شكل استجداء؟ كانت منحة بسيطة، وقف "الأدباء" في طوابير طويلة تشبه طوابير المساعدات، وهو مشهد يطرح تساؤلات حول العصر الذي يعيشه الادباء وطريقة التعامل معهم، ويبرز كذلك نظرة السلطة للأديب العراقي!

في عصر الثقافة الذهبي، فإنّ النساء في الوسط الأدبي، يتم التعامل معهن على حسب نظام "الكوتا" المعمول به في البرلمان العراقي، لكي لا يوصف الوسط بـ"الذكوري"، ففي مهرجان نظّم للاحتفاء بمرور مئة عام على ولادة الشاعرة نارك الملائكة شارك في العديد من الشعراء وشاعرة واحدة ربما سقط اسمها سهواً. لم يقتصر المهرجان على إقصاء النساء فحسب، فقد اعتلى المنصة الأمين العام لاتحاد الأدباء يطلب الدعم من رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، بطريقة درامية أن يدعم الأدب، في مشهد يظهر الأدب تابعاً للسلطة وليس أقوى منها وأكبر.

لكن تصريح آل ياسين وهجومه على المنتقدين ليس بعيداً عن رأي ظهر قبل فترة، ربما يعتبر سياقاً لـ"عصر الثقافة الذهبي"، حيث صدرت دعوة من عضو المكتب التنفيذي في اتحاد الأدباء بـ"قطع الأوكسجين" عن المخالفين له بالآراء، فضلاً عن نشر بيانات توبيخية للأعضاء، وتشكيل لجان لمراقبتهم. كانت اللجنة أشبه بلجنة النهي عن المنكر، وتأتي في سياق ممارسات تتعارض مع المبادئ التي  يجب أن تسود في أي مؤسسة ثقافية رصينة!

وبالعودة لتصريح آل ياسين، فإنّ الغريب أنه جاء بعد أيام معدودة من جلسة عقدها الاتحاد العام للأدباء والكتاب لمناقشة أي ملاحظات حول عمله وتقديم المقترحات "بقلب مفتوح للجميع" بحسب قول الاتحاد! قال آل ياسين إنّ "القافلة تسير ولا يهمهما نباح الكلاب" وسط أصوات ضاحكة ومؤيدة لكلامه في قاعة الجواهري بالاتحاد العام للأدباء وبجوار الأمين العام للاتحاد، فتخيّل!

يتحمل الاتحاد الأدبي مسؤولية كبيرة عن تراجع الحركة الأدبية في العراق، حيث لم يتمكن من لعب دوره في رعاية المبدعين وتنشيط الحوار النقدي لتوسيع آفاقهم دون أن يحسبوا لوجود الرقيب، كما أن غياب الدور الفاعل للاتحاد أدى إلى جمود في المشهد الأدبي، ولم يكتف الاتحاد بدور المتفرج فقط، بل هناك محاولات مستمرة لقطع الألسن، فضلاً عن "الأوكسجين" عن كل من ينتقده، وبدل أن يكون جزءاً من عجلة التطور الثقافي الذي يفترض وجود حرية أولاً، تحول إلى عبء يريد للآراء أن تكون خائفة، وبهذا، فإنّ العصر الثقافي ليس ذهبياً، وإنما ظلامياً. لا أدب عظيم دون إيمان بأن يكون الأديب حراً. 

إيناس فليب شاعرة وصحفية

نُشرت في الخميس 25 يوليو 2024 07:50 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

© 2024 الجبال. كل الحقوق محفوظة.