في 14 تموز/يوليو 2024، وخلال الجلسة الاعتيادية لمجلس الوزراء، وجه رئيس الحكومة محمد شياع السوداني بجملة توجيهات تتعلق بالقطاع الصحي، كان أهمها وعلى رأسها "إعادة تعيين الأطباء المستقيلين أو من ترك العمل منهم، في وزارة الصحة"، في خطوة تحمل وراءها الكثير من المفارقات في القطاع الصحي العراقي، وكيف يتحكم سوق العمل به.
من المعروف غالباً أن التوجيهات الحكومية فيما يتعلق بالتوظيف وإعادة التعيين خلال السنوات الماضية، كان دافعه في بعض الأحيان "إنسانياً" أو "انتخابياً"، أو استجابة لاحتجاجات وتظلمات أو محاولة "رشوة" قد تقدمها الحكومات أحياناً لإرضاء الشارع كما حدث خلال تظاهرات تشرين ما دفع مجلس الوزراء حينها لإصدار قرارات ابرام عقود مع محاضري التربية وكذلك في وزارة الكهرباء، وليس من حاجة ملحّة للدولة ومؤسساتها لهذه القوى العاملة.
لكن القرار الأخير لمجلس الوزراء، جاء من حاجة فعلية للعراق للأطباء، ما دفع الحكومة لإعادة التفتيش بين المستقيلين وتاركي الخدمة دون تحديد حتى سنوات ترك الخدمة، ما يجعل الأمر مفتوحاً، أي أنه قد يشمل حتى كبار السن من الأطباء ومن تركوا الخدمة منذ سنوات طويلة، وهو ما يعكس حجم الحاجة الكبيرة للأطباء في العراق والنقص الحاد في صفوفهم.
يأتي هذا التطور، ليشكل مفارقة كبيرة حول ما يحدث على صعيد القوى العاملة في القطاع الصحي، فوزارة الصحة خصصت هذا العام درجات وظيفية تغطي أقل من نصف خريجي المجموعات الطبية، حيث خصت 29 ألف درجة فيما يبلغ خريجو هذا العام من الكليات الطبية والصحية بمختلف الاختصاصات 61 الف خريج باستثناء خريجي الكليات الساندة من العلوميين، بحسبما كشفت لجنة الصحة النيابية، وفي ذات الوقت تعمل الصحة النيابية على تعديل قانون التدرج الطبي، ليكون تعيين خريجي المهن الطبية والصحية من الآن وصاعداً "حسب الاحتياج" وليس تعييناً مركزياً، في توجه يعكس مدى "تراكم وتخمة" المؤسسات الصحية العراقية من مختلف المهن الصحية والطبية، باستثناء الأطباء.
في نظرة أقرب على الفارق الكبير بين "تخمة" الصحة من مختلف المهن الصحية مقابل الفقر الحاد في الأطباء، يظهر هذا الأمر واضحاً على صعيد أطباء الأسنان والصيادلة في العراق، وأعدادهم التي تفوق حاجة العراق بكثير، وعدم تناسب أعداد الخريجين سنوياً ونمو أعدادهم مع نسبة النمو السكاني في العراق، ما يؤدي إلى كثافة متزايدة سنوياً بعدد أطباء الأسنان والصيادلة مقارنة بعدد السكان.
أطباء الأسنان.. نمو أسرع بـ5 أضعاف من النمو السكاني
يبلغ عدد أطباء الأسنان في العراق أكثر من 20 ألف طبيب أسنان، بالمقابل فإنّ النمو السنوي للخريجين الجدد من أطباء الأسنان يتراوح بين 1500 الى 4 آلاف سنوياً وفق تقديرات النقابة، وإذا ما تم احتساب معدل سنوي لمتوسط الخريجين سنوياً عند ألفي خريج سنوياً على الأقل، فإنّ نسبة النمو ستكون حوالي 10% بعدد أطباء الأسنان سنوياً.
وبينما تحتسب الحاجة للكوادر الصحية وفقاً لعدد السكان، فيجب أن يكون النمو بأعداد الكوادر متساوٍ مع النمو في عدد السكان، إلا أنّ نسبة نمو السكان في العراق سنوياً تبلغ 2.5%، لكنها تراجعت مؤخراً إلى 2.2% ما يعني أنّ نمو أطباء الأسنان أسرع من نمو سكان العراق بحوالي 5 أضعاف.
ويحتسب مدى زيادة ونقصان الكوادر الطبية بمقدار كثافتها لكل 10 آلاف نسمة من السكان، وبينما يبلغ المعدل العالمي 3.3 أطباء لكل 10 آلاف نسمة من السكان، ويبلغ في الشرق الأوسط 2.9 لكل 10 آلاف نسمة من السكان، تبلغ كثافة أطباء الاسنان في العراق 5 أطباء لكل 10 آلاف نسمة من السكان، ما يجعل العراق أعلى من المعدل العالمي ومعدل الشرق الأوسط بكثافة أطباء الأسنان، بحسب بيانات منظمة الصحة العالمية، كما أن العراق يأتي كثاني أعلى دولة عربية بكثافة أطباء الأسنان بعد السعودية.
في عام 2010، كانت كثافة أطباء الأسنان في العراق تبلغ 1.5 طبيب لكل 10 آلاف نسمة، لكن النمو زاد حتى عام 2022 ليبلغ 5 أطباء لكل 10 آلاف نسمة، ما يعني أنّ الكثافة زادت أكثر من 3 أضعاف بغضون 12 عاماً فقط.
وبينما يوجد 20 ألف طبيب أسنان، فإنّ وزارة الصحة تقول إنها لا تحتاج سوى 10 آلاف منهم.
الصيادلة.. نمو أسرع من السكان بـ16 ضعفاً
في مشكلة متطابقة مع أطباء الاسنان، باستثناء أن نمو الصيادلة أكبر من أطباء الأسنان نسبياً، حيث يوجد في العراق 25 ألف صيدلي، تقول الوزارة إنها تحتاج إلى نصفهم فقط، ما يعني أن الفائض يبلغ 100%.
معدل ما يتخرج من كليات الصيدلة سنوياً في العراق يتراوح بين 6 آلاف و12 ألف خريج سنوياً، أي بالمتوسط يبلغ عدد الخريجين سنوياً على الأقل 9 آلاف خريج سنوياً، ما يشير إلى أنّ معدل النمو السنوي يبلغ 36%، بينما يبلغ نمو السكان في العراق 2.2% سنوياً، أي أنّ نمو الصيادلة في العراق، أسرع بـ16 ضعفاً من نمو السكان في العراق.
وتبلغ كثافة الصيادلة بالنسبة للسكان في العراق، ما معدله 6 أطباء لكل 10 آلاف نسمة من السكان، وهو ما يجعل عدد الأطباء في العراق بالنسبة لعدد السكان قرابة 26 ألف طبيب حتى الآن.
وبالمقارنة مع المعدل العالمي، ومعدل الشرق الأوسط، فإنّ معدل كثافة الصيادلة في العالم يبلغ 4.8 طبيب لكل 10 آلاف نسمة، وفي الشرق الأوسط يبلغ المعدل 3.5 طبيب لكل 10 آلاف نسمة، ما يعني أن كثافة الصيادلة في العراق البالغة 6.1 أكبر بـ27% من كثافتهم في العالم، وأكبر بنسبة 74% مقارنة بكثافتهم في الشرق الأوسط قياساً بعدد السكان.
نقص الأطباء في العراق.. نسبة عجز 60%
على العكس تماماً من أطباء الاسنان والصيادلة، لدى العراق نقص حاد بعدد الأطباء، وقرار مجلس الوزراء الأخير يأتي في سياق معالجة هذا النقص، الذي تكشف الأرقام أن العراق يمتلك أقل من نصف ما يحتاجه في الحقيقة من الأطباء.
ويبلغ عدد الأطباء في العراق 38 ألف طبيب، وهو ما يجعل معدل كثافة الأطباء بالنسبة لعدد السكان يبلغ بين 9 و10 أطباء لكل 10 آلاف نسمة، بالمقابل يبلغ معيار منظمة الصحة العالمية 23 طبيباً لكل 10 آلاف نسمة من السكان، ما يعني أنّ كثافة الأطباء في العراق أقل من نصف المعدل العالمي.
ووفقاً للمعدل المفترض المحدد من منظمة الصحة العالمية، البالغ 23 طبيباً لكل 10 آلاف نسمة، هذا يعني أن العراق يجب أن يكون لديه حوالي 99 ألف طبيب، في حين أنه لا يمتلك سوى 38 إلى 40 ألف طبيب في أحسن الأحوال، أي أن نسبة العجز تبلغ حوالي 60%.
وبالمقارنة أيضاً مع معدل كثافة الأطباء في العالم وفي الشرق الأوسط، تبلغ كثافة الأطباء في العالم 17.2 طبيب لكل 10 آلاف نسمة، في حين تبلغ في الشرق الأوسط 11.6 أطباء لكل 10 آلاف نسمة، في حين تبلغ في العراق 10 أطباء لكل 10 آلاف نسمة من السكان.
كيف يتحكم سوق العمل بتوازن القوى الصحية العاملة؟
عوامل عديدة تقف وراء اختلال التوازن بأعداد ومعدل نمو المهن الصحية المختلفة، بين زيادة تخصصات معينة ونقصان أخرى، وفي الحالة المتعلقة بتزايد أطباء الأسنان والصيادلة من جهة، ونقصان الأطباء بالتخصصات العامة من جهة أخرى، تبرز الكليات الأهلية وتزايدها كأحد أبرز الأسباب التي "يتكاثر" من خلالها أطباء الأسنان والصيادلة، حيث أن تواجد أقسام طب الأسنان والصيدلة في الكليات الأهلية أكثر بكثير من تواجد كليات الطب العام البشري في الجامعات والكليات الأهلية.
اما السبب الآخر، فيتعلق بما يفرضه "سوق العمل" من امتيازات وفرص الكسب السريع لتخصصات معينة على حساب أخرى، ففي كليات الصيدلة وطب الأسنان، يمكث الطالب 5 سنوات أي سيكون قد كسب سنة في سوق العمل مقارنة بـ6 سنوات يحتاج أن يقضيها قبل التخرج من الطب العام.
الأمر الآخر، يستطيع الصيدلي أو طبيب الأسنان بعد التخرج، الانتماء إلى النقابات المتعلقة بتخصصاتهم، وبمجرد الانتماء للنقابة والخدمة بين عامين إلى 3 أعوام في مستشفيات الدولة بعد التعيين المركزي المباشر، يستطيع طبيب الأسنان فتح عيادته الخاصة، والصيدلي فتح صيدليته الخاصة، بحسب قوانين مزاولة المهنة، أو أن يقوم الصيدلي بتأجير إجازته لصاحب رأس مال يقوم بافتتاح صيدلية باسم صاحب الإجازة، ويقوم الصيدلي بعد ذلك بممارسة أعمال اخرى وفق ما يسمى على سبيل المثال "التواجد" حيث يستطيع أن يتواجد في صيدليتين يقسم أيام الأسبوع بينهما، لغرض أن يكون هناك صيدلي داخل الصيدلية في حال تعرضت الصيدلية لزيارة مفاجئة من فرق التفتيش، أو أن يعمل مدير فريق من المندوبين لترويج الأدوية في إحدى شركات الأدوية.
اما الطبيب العام، فبعد دراسة 6 أعوام، سيكون أمامه من عامين إلى 3 أعوام يخدم فيها في المستشفيات بين إقامة دورية وتدرج وإقامة قِدم، ومن ثم دراسة البورد التي قد تبلغ 6 أعوام أو أكثر، ما يعني أن الطبيب يحتاج لحوالي 9 أعوام على الأقل ليتمكن بعدها من افتتاح عيادته الخاصة، في الوقت الذي يكون فيه الصيدلي أو طبيب الأسنان قد صنعوا ثروة في هذا الأثناء، في عامل إضافي يتعلق بسوق العمل، يحكم توجهات وحجم الإقبال على دراسة الصيدلة وطب الأسنان، والإحجام عن دراسة الطب العام، فضلًا عن أن أعداد من يحصلون على معدلات تسمح بدخول الطب العام أقل من أعداد من يحصلون على معدلات تؤهلهم لدراسة طب الأسنان أو الصيدلة، ولاسيما في الكليات الأهلية التي تقبل بمعدلات أقل بنحو 10 درجات أو أكثر عن معدلات القبول في الجامعات الحكومية.