تشهد محافظة ذي قار، تراجعاً في نسب الانتحار، مقارنة بالسنوات الماضية، وسط دعوات للمؤسسات الدينية والاجتماعية، لاستمرار بث الوعي المجتمعي والإعلامي، للحدّ من ارتفاع نسب الانتحار في المحافظة.
وفي هذا الإطار، كشف مدير مكتب حقوق الإنسان في ذي قار كريم جبار، إحصائيات بحالات الانتحار المسجلة لعام 2025، وقارنها بنسب الانتحار في العام الماضي 2024، حيث أشار إلى أن "حالات الانتحار أخذت بالانخفاض، فمع اقتراب نهاية العام الحالي تجاوزت حالات الانتحار 75 حالة من بينها 27 حالة لإناث"، مبينا أن "هذه الأرقام تُعد أقل من المسجّلة في عام 2024 الذي شهد 117 حالة انتحار".
الدوافع الدينية حاضرة
وأوضح جبار، في تصريح لمنصّة "الجبال"، أن "نحو 5% من الحالات كانت بدوافع دينية"، في إشارة إلى "جماعة القربان"، بينما أشار إلى أن "الأسباب الأخرى، تعود إلى الاكتئاب وحالات القلق إلى جانب الظروف الاقتصادية الصعبة التي تلقي بظلالها على الاستقرار النفسي لشريحة واسعة من المجتمع وايضا حالات المخدرات".
ورغم الانخفاض النسبي في الأعداد مقارنة بالعام الماضي، شدّد مدير مكتب حقوق الإنسان في ذي قار، على "أهمية مواصلة الجهود الوقائية وتعزيز برامج الدعم النفسي والتوعية المجتمعية للحدّ من تفاقم هذه الظاهرة ومعالجة أسبابها العميقة".
الى ذلك أكد مسؤول منظمة "التواصل والإخاء الإنسانية" وعضو لجنة مكافحة التطرف في ذي قار، علي الناشي، "تسجيل انخفاض ملحوظ في أعداد حالات الانتحار ومحاولات الانتحار خلال العام الحالي في المحافظة"، عازياً ذلك إلى "مجموعة عوامل تراكمية أسهمت في تقليص هذه الظاهرة".
وأوضح الناشي، أن "ارتفاع مستوى الوعي المجتمعي والإعلامي كان من أبرز هذه العوامل، ولاسيّما بعد تسليط الضوء على ملف الانتحار والتركيز على أهمية الدعم النفسي ودور العوائل في متابعة أبنائها وتشجيعهم على مراجعة الأطباء النفسيين والباحثين الاجتماعيين عند الحاجة".
وأشار إلى، أن "المؤسسات الدينية والاجتماعية كان لها دور فاعل من خلال الخطب والندوات التي عززت القيم الدينية والاجتماعية الرافضة للانتحار، والداعية إلى الصبر والتماسك المجتمعي"، لافتاً إلى أن "مساهمة لجان مكافحة التطرف العنيف في تنفيذ برامج توعوية داخل المدارس، كان لها أثر واضح في خفض نسب الانتحار بين فئة الشباب".
وبيّن الناشي، أن "الأجهزة الأمنية لعبت دوراً مهماً في متابعة بعض الحركات الدينية المتطرفة التي تسعى إلى دفع الشباب نحو الانتحار واستغلالهم فكرياً"، مؤكداً أن "هذا التنسيق المشترك بين الجهات المعنية أسهم بشكل كبير في الحد من انتشار الظاهرة وتعزيز الاستقرار النفسي والاجتماعي في المحافظة".
وقبل، أيام شهد قضاء الغراف شمالي مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار، حادثة مأساوية، حيث أقدم شاب يبلغ من العمر 18 عاماً على الانتحار شنقاً داخل منزله باستخدام حبل.
وأوضح مصدر أمني في شرطة ذي قار في حينها، أن "الدوافع تعود لحالة نفسية يعاني منها الشاب".
"علي" ومحاولات الانتحار الثلاث
وأجرت "الجبال"، حواراً مع "علي" أحد شباب ذي قار، الذي أقدم على الانتحار أكثر من مرة، وجميعها باءت بالفشل.
يروي الشاب "علي"- وهو اسم مستعار- في العقد الثاني من العمر، ما حمله في داخله من أفكار، كانت تتطلب بحسب تعبيره، "بيت يتّسع لها وتفاهم داخل العائلة"، إلا أنه كان يفتقد لتلك الأمور، ما "حوّل أيامه إلى صراعٍ صامت، دفعه شيئا فشيئا إلى حافة اليأس"، على حدّ قوله.
وكانت محاولة "علي" الأولى للانتحار، تهدف لـ"الهروب من ألمه"، حيث وبحسب حديثه، أقدم على محاولتي انتحار باستخدام "سمّ الفئران"، وفي كل مرة كان القدر يمنحه فرصة أخرى للحياة، أما المحاولة الثالثة فكانت عبر "إلقاء نفسه أمام مركبة أملاً بأن تنهي ما بدأه الإحباط"، ولكنه نجى ليحصل على فرصة حياة أخرى.
بين محاولة وأخرى كانت فترات من الصمت الطويل، تتراكم فيها الخيبات إلى أن تدخّل الأصدقاء الذين أمسكوا بيده قبل أن يسقط مجدداً في دوامة الانتحار، يقول "علي"، ومع الوقت بدأت العائلة تعيد النظر في أسلوبها معه، واحتوائه بدل إقصائه.
وقد شقّ "علي" حياته من جديد، وتزوّج وأكمل دراسته، ولم يتوقف عند حدود الشهادة الجامعية، بل واصل حتى بلغ الدراسات العليا، ليصبح مثالاً حياً على أن النجاة ممكنة حين يجد الإنسان من يحتويه.
ويؤكد "علي"، اليوم، أن "أخطر ما يدفع الشاب نحو الانتحار هو غياب الحاضنة القوية. ذلك السند الذي قد يكون عائلة واعية، أو صديقاً صادقاً أو بيئة قادرة على الفهم والاحتواء، فحين يغيب هذا السند يصبح اليأس أقرب من الأمل".
إحصاءات.. ومتخصص يسرد الأسباب
وقد أظهرت إحصاءات لقيادة شرطة ذي قار، تسجيل تصاعد ملحوظ في حالات الانتحار في الأعوام الماضية. وبحسب بيانات للقيادة اطلعت عليها "الجبال"، بدأت الأرقام بالارتفاع منذ عام 2015 بتسجيل 35 حالة، لترتفع في 2016 إلى 45 حالة، ثم واصلت الأرقام منحناها التصاعدي في 2017 مسجلة 59 حالة، قبل أن تصل في 2018 إلى 67 حالة انتحار، وفي عام 2019 شهدت الحالات انخفاضاً طفيفاً إلى 64 حالة إلا أن المؤشر عاود الارتفاع في 2020 مسجلاً 80 حالة تلاه 2021 بـ 83 حالة.
ومع استمرار الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، قفزت الأرقام في 2022 إلى 105 حالات قبل أن تنخفض نسبياً في 2023 إلى 87 حالة، لتسجل ذروتها في 2024 بـ117 حالة انتحار، وهو أعلى رقم خلال السنوات الثمان الماضية، بحسب إحصاءات قيادة شرطة ذي قار.
من جانبه، أوضح الطبيب النفسي إبراهيم صفاء الصائغ، أن "حالات الانتحار غالباً ما تبدأ بحالة انكسار وإحباط عميق يمرّ بها الشاب أو الفتاة؛ نتيجة عدم تحقيق أمر كان يمثل لهم أملاً أو هدفاً"، مشيراً إلى أن "البيئة المحيطة قد تكون عاملاً أساسياً في تفاقم هذه الحالة ولاسيّما عندما يغيب الاحتواء الأسري ويتسع الشرخ بين الفرد وذويه".
وبيّن الصائغ في تصريح لمنصّة "الجبال"، أن "عدم اهتمام بعض العائلات برغبات أبنائها أو عدم الاستماع إليهم يولّد شعوراً بالرفض والعزلة، ما يقود إلى ردود فعل نفسية قاسية قد تنتهي بمحاولات انتحار".
وأضاف، أن "الفجوة العاطفية داخل الأسرة تتحول مع الوقت إلى عبئ ثقيل على الشاب يدفعه إلى الانغلاق واليأس".
وأشار إلى أن "أغلب حالات الانتحار تسجَّل بين الفئة العمرية من 18 إلى 20 عاماً وما دون، وهي أعمار لم تختبر قسوة التجارب الحياتية كما مرّ بها الآباء، لافتا إلى اختلاف كبير بين جيل اليوم والأجيال السابقة".
ولفت إلى أن "التواصل العائلي قبل عام 2003 كان أكثر قرباً وتفاهماً، حيث كانت العائلة تقضي ساعات طويلة في الحديث والاستماع والحوار، في حين أسهمت التقنيات الحديثة وأنماط الحياة الجديدة اليوم في خلق تباعد واضح داخل الأسرة، وصعوبة تقبّل الآباء لأفكار أبنائهم التي يرونها غريبة أو خارجة عن تقاليدهم".
جسر الحضارات في ذي قار (تعبيرية/ أرشيف)